العيوب
ما أجود قول الشاعر:
لسانك لا تبدي بها سوءة إمرىء فكــــــلك سوءات وللنــــاس ألسن
وعينــك إن أهدت إليك مــــــعايب من الناس قل يا عين للناس أعين
فكم منا ـ ترى ـ خالياً من العيوب؟.
لا أحد إطلاقاً!
إذاً: فما هذا الهمز، واللمز، وكشف عيوب الناس وإبانة مواضع النقص فيهم؟.
وهل أنت خال من العيب حتى تكشف عن عيوب الناس؟.
أو هل تراك تظهر عيوب الناس، ثم يسكت عن عيوبك الناس؟.
لا ذا.. ولا ذاك..
وإنما من أظهر للناس عيباً أظهروا له ألف عيب!!
فمن الخير لنفسك: أن تسكت عن العيوب إطلاقاً.
ثم: ما الفائدة في إبدائك لعيوبهم؟ فإن أردت إصلاحاً فليس من طريقة النقد بصورة سافرة انظر إلى هذه الآية الكريمة: (... وإنّا أو إيّاكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين).
نعم انما يفيد إصرار المرتكب وعداؤه لك وإبداء عيوبك على الملأ وكثيراً ما أضاف إلى عيوبك عيوباً مكذوبة.
ولذا نرى الإسلام العظيم يحرّم طلب العورات وإبدائها ويوجب ستر العيوب وكتمانها.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من ستر على مسلم، ستره الله في الدنيا والآخرة).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يستر عبد عيب عبد إلا ستره الله يوم القيامة)
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يرى امرؤ من أخيه عورة فيسترها عليه إلا دخل الجنة).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أذاع فاحشة كان كمبتدئها ومن عيّر مؤمناً بشيء لا يموت حتى يركبه).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (كلّ أُمّتي معافى إلاّ المجاهرين).
يريد (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك: إنه لا يحق لاحد أن يفشي عيب أحد، إلا اذا كان المرتكب مجاهراً، فإنه لا حرمة له.
ولا يقنع الإسلام بهذا الحد، بل يريد ان لا يكشف سر أحد وإن لم يكن إثماً، إذ لعل له مأرباً ولذا أخفاه.
اسمع إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (من استمع خبر قوم وهم له كارهون، صبت في أُذنيه الآنك يوم القيامة) والآنك: السرب.
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يسلم بقلبه، لا تتبعوا عثرات المسلمين فانه من يتتبع عثرات المسلمين، يتتبع الله عثراته، ومن تتبع الله عثراته يفضحه)
وقال (عليه السلام): (إنّ أقرب ما يكون العبد إلى الكفر، أن يؤاخي الرجل الرجل على الدين، فيحصي عليه عثراته ليعنـّفه بها يوماً ما).
وقال (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ أسرع الخير ثواباً البر، وأسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عــنــه، وأن يعيّر النــاس بما لا يســـتطيـع تـــركه، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (من أنّب مؤمناً، أنّبه الله عزّ وجل في الدنيا والآخرة).
والعيوب التي يجب سترها شاملة للعيوب الخلقية: كالعنن.. والخلقية: كالجبن. والعادية: كالقذارة. والشرعية: ككون الرجل لاعباً للقمار.
أما العيوب الظاهرة، فلا بأس بعدم ستر ما حرّمه الإسلام، فمن جاهر بشرب الخمر، لا يحرم أن يقال عنه: انه شارب. أما سائر العيوب فيحرم لأنه يعتبر إيذاء أو ما أشبه.
والسرّ: لا يحبّ الإسلام كشفه، وإن لم يكن عيباً.. فللناس مقاصد يريدون كتمانها، والإسلام يتحفّظ على مشاعرهم، ولذا ينهي عن كشف السر كائناً ما كان.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (اذا حدّث الرجل الحديث، ثم التفت فهي أمانة).
ومعنى: ثم التفت، انه نظر، ليرى عدم وجود أجنبي.. والأمانة يراد بها، هنا حرمة إفشائه، كما يحرم خيانة الأمانة.
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (الحديث بينكم أمانة).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (طوبا لعبد نؤمة، عرفه الله، ولم يعرفه الناس، أولئك مصابيح الهدى، وينابيع العلم، تتجلى عنهم كل فتنة مظلمة، ليسوا بالمذاييع البذر، ولا الجفاة المرابين).
النؤمة، بالضم والسكون: الذي لا يؤبه له.
ولماذا يحبذ الإسلام هذه الخصلة.. أليست شرائع الدين تؤكد على الاختلاط والائتلاف؟.
نعم.. إنّه كذلك.. ولكن لا منافاة، ففي حث الإسلام على هذه الصفة كبح لجماح نفوس تريد علوّاً في الأرض وفسادا، إنّ لهذا الحديث وأشباهه سياط لنفس حتى لا تجمح، ثم يأتي بعد ذلك دور التعديل.. أرأيت الحديد يحمى بالنار، ثم يصنع منه ما يراد؟.
ثم.. إنّ من الناس خاملين، فينسيهم الإسلام بهذا الحديث، حتى لا تذهب نفوسهم على خمولهم حسرات، وحتى لا يطلبوا نباهة بكل إثم وباطل.. أليس الإسلام مدح الخمول؟.
وليس معنى الحديث أن يطلب الإنسان الخمول ـ كما يزعم ـ فإن الإسلام لا يطلب من الناس إلا الأُلفة والوداد والتفاف الإخوان والمعارف، والعمل والجد في معترك الـــحياة، وفـــي القرآن الـــكريم حكاية دعـــاء الصالحين: (... واجعلنا للمتّقين إماماً).
بل هو بيان لفضيلة طبيعة هذه الصفة.
نقول: وكيف؟.
أقول: أرأيت كم مدح الإسلام المرض.. فهل معنى ذلك أن يطلبه الإنسان؟ كلا، بل معناه فضيلة طبيعة المرض، وان كانت الصحة في نظر الإسلام من جلائل نعم الله تعالى.
وفي سورة النور، جعل الله تعالى قصة الإفك، الذي دعي به زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).. خيراً للمسلمين: (لا تحسبوه شرّاً لكم، بل هو خير لكم) فهل معنى ذلك: ان الإفك أمر حسن؟ كلا؟ وألف كلا؟ بل معناه: إنّ هذا الأمر الواقع يعود بالنفع على المسلمين بما ينطوي عليه من تميّز المنافق من المؤمن، ولما فيه من المشوبة الآجلة... وغير ذلك.
ومثل الحديث المتقدم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مقالة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
قال (عليه السلام): (طوبى لعبد نؤمة، لا يؤبه له، يعرف الناس، ولا يعرفه الناس، ليعرفه الله منه برضوان، اُولئك مصابيح الهدى، تتجلّى عنهم كل فتنة، ويفتح لهم باب كل رحمة، ليسوا بالبذر المذاييع، ولا الجفاة المرائين).
وقال (عليه السلام) في مدح الكتمان:
(قولوا الخير تعرفوا به، واعملوا الخير تكونوا من أهله، ولا تكونوا عجلى مذاييع، فإن خياركم الذين إذا نظر إليهم ذكر الله، وشراركم المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، المبتغون للبرّاء المعايب)(
الغيرة
للإنسان في الحياة شؤون ومتعلقات، نفسية وبدنية.. وأضرابهما وحيث إن في الاجتماع تجاذب وتدافع، فلابد لكلّ من صفة دافعة تحفظ كيانه وتدافع عن متعلقاته حتى لا تقع نهباً في أيادي الطامعين، وفرضاً لكل منتهز.
فالدين، والفضيلة، والأهــل والولد، والمال والعرض، وما إليها من شؤون الإنسان ولوازمه، فاللازم المدافعة عنها والوقوف أمام الناهبين والطامعين وإلا لم يمض زمان إلا يكون حاله كحال (خواجة نصر الدين) في الأسطورة المشهورة:
(حيث كانت له زوجة ودار ونعجة وملابس فاتفقت اللصوص على أن يسلبوه ممتلكاته فجاء الأول وأقام عليه الدعوى حول زوجته وحيث أنها مالت مع اللص الشاب سقط في يد الخواجة وإذا هو بلا زوجة وجاء الثاني ونازعه في داره وأقام اللصين شاهدين فلم يمض زمان إلا وهو بلا دار وجاء الثالث مهرجاً: ان النعجة خيالية وإنما هي كلب اشتبه على الخواجة. وحيث شهد له لصوص اُخر أطلق سراح النعجة إلى حيث أخذها اللص الثالث!! وجاء دور الرابع فقعد على بئر في طريق الخواجة ولما أن مر على البئر قال له الرابع: بالله عليك خذ مني هذا الدينار وغص في البئر كي تخرج خاتمي الثمين الذي وقع فيها فاخذ الدينار ثم نزع ثيابه وفيها ديناره المعطى له فاخذ اللص الملابس وهو بعد في البئر ولما أن خرج علم بالمكيدة فاخذ عصا وجعل يدور حول نفسه فقيل له: ما السرّ في ذلك؟ قال: خوفاً من أن يسرقني الخامس!
وهذه الصفة المحافظة على الشؤون، تسمى بالغيرة، والإسلام يحرص الحرص كله على تحلّي الشخص بها فهناك سلسلتان من الأحاديث تمدح الغيرة وتذم عدمها:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا لم يغر الرجل فهو منكوس القلب)
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم)(وكان إبراهيم غيوراً وأنا أغير منه وجدع الله أنف من لا يغار على المؤمنين والمسلمين).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث عجيب، يمثل كيفية نداء الضمير بالإنسان ثم خمود صوته حتى لا يسمع له ركزاً: (إذا غيّر الرجل في أهله أو بعض مناكحه من مملوكته فلم يغر، بعث الله إليه طائراً يقال له: القندر.حتى يسقط على عارضة بابه ثم يمهله أربعين يوما يهتف به: إنّ الله غيور، يحب كل غيور فإن هو غار وغيّر وأنكر ذلك أكبره، وإلا طار حتى يسقط على رأسه فيخفق بجناحيه على عينيه ثم يطير عنه، فينزع الله منه بعد ذلك روح الإيمان وتسميه الملائكة: الديوث).
وهكذا تكون الصفات الفاضلة: إنها إذا ديست تحت الأقدام لا يزال الضمير يهتف ويهتف، حتى ييأس وهنالك يستحوذ الشيطان، ويخمد الضمير فلا يزال يرتطم في الرذيلة حتى يرتكس فيها فلا منجي له ولا ملاذ، أرأيت من يعمل القبيح؟ إنّه لأوّل مرة يأبى عليه ضميره، وتزجره نفسه، ثم يقلّ الإباء والزجر في الثانية والثالثة حتى يكون القبيح لديه حسناً جميلاً!
وقد شدد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) النكير على بعض الرجال، الذين سلبت منهم الغيرة، فقال في كلام له: يا أهل العراق نبئت إن نساءكم يدافعن الرجال في الطريق أما تستحون.. وقال (عليه السلام): (أما تستحون؟! ولا تغارون؟! نساؤكم يخرجن إلى الأسواق ويزاحمن العلوج...؟!)
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة عليها السلام (أي شيء خير للمرأة؟ قالت: أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل) فضمّها إليه، وقال ذرية بعضها من بعض).
لكن ربما أفرط الجاهل فيضع الغيرة في غير موضعها ولذا قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
(من الغيرة غيرة يبغضها الله ورسوله: وهي غيرة الرجل على أهله، من غير ريبة).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام)(لا تكثر الغيرة على أهلك، فترمى بالسوء من أجلك)
وقال (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام): (إياك والتغاير في غير موضع الغيرة فإن ذلك يدعو منهن إلى السقم، ولكن احكم أمرهن فإن رأيت عيباً فعجّل النكير عـــلى الصغير والــكبير بــأن تعاقب منــهن البريئة فتعظّم الذنب وتهوّن العيب).
.
ما أجود قول الشاعر:
لسانك لا تبدي بها سوءة إمرىء فكــــــلك سوءات وللنــــاس ألسن
وعينــك إن أهدت إليك مــــــعايب من الناس قل يا عين للناس أعين
فكم منا ـ ترى ـ خالياً من العيوب؟.
لا أحد إطلاقاً!
إذاً: فما هذا الهمز، واللمز، وكشف عيوب الناس وإبانة مواضع النقص فيهم؟.
وهل أنت خال من العيب حتى تكشف عن عيوب الناس؟.
أو هل تراك تظهر عيوب الناس، ثم يسكت عن عيوبك الناس؟.
لا ذا.. ولا ذاك..
وإنما من أظهر للناس عيباً أظهروا له ألف عيب!!
فمن الخير لنفسك: أن تسكت عن العيوب إطلاقاً.
ثم: ما الفائدة في إبدائك لعيوبهم؟ فإن أردت إصلاحاً فليس من طريقة النقد بصورة سافرة انظر إلى هذه الآية الكريمة: (... وإنّا أو إيّاكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين).
نعم انما يفيد إصرار المرتكب وعداؤه لك وإبداء عيوبك على الملأ وكثيراً ما أضاف إلى عيوبك عيوباً مكذوبة.
ولذا نرى الإسلام العظيم يحرّم طلب العورات وإبدائها ويوجب ستر العيوب وكتمانها.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من ستر على مسلم، ستره الله في الدنيا والآخرة).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يستر عبد عيب عبد إلا ستره الله يوم القيامة)
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يرى امرؤ من أخيه عورة فيسترها عليه إلا دخل الجنة).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أذاع فاحشة كان كمبتدئها ومن عيّر مؤمناً بشيء لا يموت حتى يركبه).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (كلّ أُمّتي معافى إلاّ المجاهرين).
يريد (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك: إنه لا يحق لاحد أن يفشي عيب أحد، إلا اذا كان المرتكب مجاهراً، فإنه لا حرمة له.
ولا يقنع الإسلام بهذا الحد، بل يريد ان لا يكشف سر أحد وإن لم يكن إثماً، إذ لعل له مأرباً ولذا أخفاه.
اسمع إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (من استمع خبر قوم وهم له كارهون، صبت في أُذنيه الآنك يوم القيامة) والآنك: السرب.
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يسلم بقلبه، لا تتبعوا عثرات المسلمين فانه من يتتبع عثرات المسلمين، يتتبع الله عثراته، ومن تتبع الله عثراته يفضحه)
وقال (عليه السلام): (إنّ أقرب ما يكون العبد إلى الكفر، أن يؤاخي الرجل الرجل على الدين، فيحصي عليه عثراته ليعنـّفه بها يوماً ما).
وقال (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ أسرع الخير ثواباً البر، وأسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عــنــه، وأن يعيّر النــاس بما لا يســـتطيـع تـــركه، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (من أنّب مؤمناً، أنّبه الله عزّ وجل في الدنيا والآخرة).
والعيوب التي يجب سترها شاملة للعيوب الخلقية: كالعنن.. والخلقية: كالجبن. والعادية: كالقذارة. والشرعية: ككون الرجل لاعباً للقمار.
أما العيوب الظاهرة، فلا بأس بعدم ستر ما حرّمه الإسلام، فمن جاهر بشرب الخمر، لا يحرم أن يقال عنه: انه شارب. أما سائر العيوب فيحرم لأنه يعتبر إيذاء أو ما أشبه.
والسرّ: لا يحبّ الإسلام كشفه، وإن لم يكن عيباً.. فللناس مقاصد يريدون كتمانها، والإسلام يتحفّظ على مشاعرهم، ولذا ينهي عن كشف السر كائناً ما كان.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (اذا حدّث الرجل الحديث، ثم التفت فهي أمانة).
ومعنى: ثم التفت، انه نظر، ليرى عدم وجود أجنبي.. والأمانة يراد بها، هنا حرمة إفشائه، كما يحرم خيانة الأمانة.
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (الحديث بينكم أمانة).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (طوبا لعبد نؤمة، عرفه الله، ولم يعرفه الناس، أولئك مصابيح الهدى، وينابيع العلم، تتجلى عنهم كل فتنة مظلمة، ليسوا بالمذاييع البذر، ولا الجفاة المرابين).
النؤمة، بالضم والسكون: الذي لا يؤبه له.
ولماذا يحبذ الإسلام هذه الخصلة.. أليست شرائع الدين تؤكد على الاختلاط والائتلاف؟.
نعم.. إنّه كذلك.. ولكن لا منافاة، ففي حث الإسلام على هذه الصفة كبح لجماح نفوس تريد علوّاً في الأرض وفسادا، إنّ لهذا الحديث وأشباهه سياط لنفس حتى لا تجمح، ثم يأتي بعد ذلك دور التعديل.. أرأيت الحديد يحمى بالنار، ثم يصنع منه ما يراد؟.
ثم.. إنّ من الناس خاملين، فينسيهم الإسلام بهذا الحديث، حتى لا تذهب نفوسهم على خمولهم حسرات، وحتى لا يطلبوا نباهة بكل إثم وباطل.. أليس الإسلام مدح الخمول؟.
وليس معنى الحديث أن يطلب الإنسان الخمول ـ كما يزعم ـ فإن الإسلام لا يطلب من الناس إلا الأُلفة والوداد والتفاف الإخوان والمعارف، والعمل والجد في معترك الـــحياة، وفـــي القرآن الـــكريم حكاية دعـــاء الصالحين: (... واجعلنا للمتّقين إماماً).
بل هو بيان لفضيلة طبيعة هذه الصفة.
نقول: وكيف؟.
أقول: أرأيت كم مدح الإسلام المرض.. فهل معنى ذلك أن يطلبه الإنسان؟ كلا، بل معناه فضيلة طبيعة المرض، وان كانت الصحة في نظر الإسلام من جلائل نعم الله تعالى.
وفي سورة النور، جعل الله تعالى قصة الإفك، الذي دعي به زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).. خيراً للمسلمين: (لا تحسبوه شرّاً لكم، بل هو خير لكم) فهل معنى ذلك: ان الإفك أمر حسن؟ كلا؟ وألف كلا؟ بل معناه: إنّ هذا الأمر الواقع يعود بالنفع على المسلمين بما ينطوي عليه من تميّز المنافق من المؤمن، ولما فيه من المشوبة الآجلة... وغير ذلك.
ومثل الحديث المتقدم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مقالة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
قال (عليه السلام): (طوبى لعبد نؤمة، لا يؤبه له، يعرف الناس، ولا يعرفه الناس، ليعرفه الله منه برضوان، اُولئك مصابيح الهدى، تتجلّى عنهم كل فتنة، ويفتح لهم باب كل رحمة، ليسوا بالبذر المذاييع، ولا الجفاة المرائين).
وقال (عليه السلام) في مدح الكتمان:
(قولوا الخير تعرفوا به، واعملوا الخير تكونوا من أهله، ولا تكونوا عجلى مذاييع، فإن خياركم الذين إذا نظر إليهم ذكر الله، وشراركم المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، المبتغون للبرّاء المعايب)(
الغيرة
للإنسان في الحياة شؤون ومتعلقات، نفسية وبدنية.. وأضرابهما وحيث إن في الاجتماع تجاذب وتدافع، فلابد لكلّ من صفة دافعة تحفظ كيانه وتدافع عن متعلقاته حتى لا تقع نهباً في أيادي الطامعين، وفرضاً لكل منتهز.
فالدين، والفضيلة، والأهــل والولد، والمال والعرض، وما إليها من شؤون الإنسان ولوازمه، فاللازم المدافعة عنها والوقوف أمام الناهبين والطامعين وإلا لم يمض زمان إلا يكون حاله كحال (خواجة نصر الدين) في الأسطورة المشهورة:
(حيث كانت له زوجة ودار ونعجة وملابس فاتفقت اللصوص على أن يسلبوه ممتلكاته فجاء الأول وأقام عليه الدعوى حول زوجته وحيث أنها مالت مع اللص الشاب سقط في يد الخواجة وإذا هو بلا زوجة وجاء الثاني ونازعه في داره وأقام اللصين شاهدين فلم يمض زمان إلا وهو بلا دار وجاء الثالث مهرجاً: ان النعجة خيالية وإنما هي كلب اشتبه على الخواجة. وحيث شهد له لصوص اُخر أطلق سراح النعجة إلى حيث أخذها اللص الثالث!! وجاء دور الرابع فقعد على بئر في طريق الخواجة ولما أن مر على البئر قال له الرابع: بالله عليك خذ مني هذا الدينار وغص في البئر كي تخرج خاتمي الثمين الذي وقع فيها فاخذ الدينار ثم نزع ثيابه وفيها ديناره المعطى له فاخذ اللص الملابس وهو بعد في البئر ولما أن خرج علم بالمكيدة فاخذ عصا وجعل يدور حول نفسه فقيل له: ما السرّ في ذلك؟ قال: خوفاً من أن يسرقني الخامس!
وهذه الصفة المحافظة على الشؤون، تسمى بالغيرة، والإسلام يحرص الحرص كله على تحلّي الشخص بها فهناك سلسلتان من الأحاديث تمدح الغيرة وتذم عدمها:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا لم يغر الرجل فهو منكوس القلب)
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم)(وكان إبراهيم غيوراً وأنا أغير منه وجدع الله أنف من لا يغار على المؤمنين والمسلمين).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث عجيب، يمثل كيفية نداء الضمير بالإنسان ثم خمود صوته حتى لا يسمع له ركزاً: (إذا غيّر الرجل في أهله أو بعض مناكحه من مملوكته فلم يغر، بعث الله إليه طائراً يقال له: القندر.حتى يسقط على عارضة بابه ثم يمهله أربعين يوما يهتف به: إنّ الله غيور، يحب كل غيور فإن هو غار وغيّر وأنكر ذلك أكبره، وإلا طار حتى يسقط على رأسه فيخفق بجناحيه على عينيه ثم يطير عنه، فينزع الله منه بعد ذلك روح الإيمان وتسميه الملائكة: الديوث).
وهكذا تكون الصفات الفاضلة: إنها إذا ديست تحت الأقدام لا يزال الضمير يهتف ويهتف، حتى ييأس وهنالك يستحوذ الشيطان، ويخمد الضمير فلا يزال يرتطم في الرذيلة حتى يرتكس فيها فلا منجي له ولا ملاذ، أرأيت من يعمل القبيح؟ إنّه لأوّل مرة يأبى عليه ضميره، وتزجره نفسه، ثم يقلّ الإباء والزجر في الثانية والثالثة حتى يكون القبيح لديه حسناً جميلاً!
وقد شدد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) النكير على بعض الرجال، الذين سلبت منهم الغيرة، فقال في كلام له: يا أهل العراق نبئت إن نساءكم يدافعن الرجال في الطريق أما تستحون.. وقال (عليه السلام): (أما تستحون؟! ولا تغارون؟! نساؤكم يخرجن إلى الأسواق ويزاحمن العلوج...؟!)
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة عليها السلام (أي شيء خير للمرأة؟ قالت: أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل) فضمّها إليه، وقال ذرية بعضها من بعض).
لكن ربما أفرط الجاهل فيضع الغيرة في غير موضعها ولذا قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
(من الغيرة غيرة يبغضها الله ورسوله: وهي غيرة الرجل على أهله، من غير ريبة).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام)(لا تكثر الغيرة على أهلك، فترمى بالسوء من أجلك)
وقال (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام): (إياك والتغاير في غير موضع الغيرة فإن ذلك يدعو منهن إلى السقم، ولكن احكم أمرهن فإن رأيت عيباً فعجّل النكير عـــلى الصغير والــكبير بــأن تعاقب منــهن البريئة فتعظّم الذنب وتهوّن العيب).
.
تعليق