همسة من حياة الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع)
1- مولده في الكعبة المشرفة
ولد (ع) بعد عام الفيل بثلاثين سنة، وكانت ولادته في يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، في البيت الحرام الذي جعله الله قبلةً للأنام.
وقال علي بن محمّد المالكي: ( و لم يولد في البيت الحرام قبله أحدٌ سواه، و هي فضيلة خصّه الله تعالى بها إجلالاً له، و إعلاماً لمرتبته، و إظهاراً لتكرمته ).
و قبض (ع) في شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، و له يومئذ ثلاث و ستّون سنة. و روى في الكافي: ( لمّا كان اليوم الذي قبض فيه أمير المؤمنين، ارتجّ الموضع بالبكاء، و دهش الناس كيوم قبض النبيّ (ص)، و جاء رجل باكياً و هو مسرع مسترجع، و هو يقول: اليوم أنقطعت خلافة النبوّة حتّى وقف على باب البيت الذي فيه أمير المؤمنين (ع)، فقال:
رحمك الله يا أبا الحسن، كنت أوّل القوم إسلاماً، و أخلصهم إيماناً، و أشدّهم يقيناً، و أخوفهم لله، و أعظمهم عناءً، و أحوطهم على رسول الله (ص)، و آمنهم على أصحابه، و أفضلهم مناقب، وأكرمهم سوابق، و أرفعهم درجة، و أقربهم من رسول الله (ص)، أشبههم به هدياً و خُلقاً و سمتاً و فعلاً، و أشرفهم منزلةً، و أكرمهم عليه، فجزاك الله عن الإسلام و عن رسوله و عن المسلمين خيراً.
قويت حين ضعف أصحابه، و برزت حين أستكانوا، و نهضت حين وهنوا، و لزمت منهاج رسول الله (ص) إذ همّ أصحابه، [و] كنت خليفته حقّاً، لم تنازع و لم تضرع برغم المنافقين و غيض الكافرين و كره الحاسدين، و صغر [ضغن] الفاسقين، فقمت بالأمر حين فشلوا، و نطقت حين تتعتعوا، و مضيت بنور الله إذا وقفوا، فأتّبعوك فهدوا، و كنت أخفضهم صوتاً، و أعلاهم قنوتاً، و أقلّهم كلاماً، و أصوبهم نطقاً، و أكبرهم رأياً، و أشجعهم قلباً، و أشدّهم يقيناً، و أحسنهم عملاً، و أعرفهم بالأمور.
كنت و الله يعسوباً للدين أوّلاً و آخراً، الأوّل حين تفرّق الناس، و الآخر حين فشلوا، كنت للمؤمنين أباً رحيماً إذ صاروا عليك عيالاً، فحملت أثقال ما عنه ضعفوا، و حفظت ما أضاعوا، و رعيت ما أهملوا، و شمّرت إذ [إذا] أجتمعوا، و علوت إذ هلعوا، و صبرت إذ أسرعوا، و أدركت أوتار ما طلبوا، و نالوا بك ما لم يحتسبوا.
كنت على الكافرين عذاباً صبّاً و نهباً، و للمؤمنين عمداً و حصناً، فطرت و الله بنعمائها، و فزت بحبائها، و أحرزت سوابقها، و ذهبت بفضائلها، لم تفلل حجّتك، و لم يزغ قلبك، و لم تضعف بصيرتك، و لم تجبن نفسك و لك تخر [و لم تخل] .
كنت كالجبل لا تحرّكه العواصف، و كنت كما قال أمن الناس في صحبتك و ذات يدك، و كنت كما قال ضعيفاً في بدنك، قويّاً في أمر الله، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله، كبيراً في الأرض، جليلاً عند المؤمنين.
لم يكن لأحد فيك مهمز، و لا لقائل فيك مغمز، [و لا لأحد فيك مطمع] و لا لأحد عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قويّ عزيز حتّى تأخذ له بحقّه، و القويّ العزيز عندك ضعيف ذليل حتّى تأخذ منه الحقّ، و القريب و البعيد عندك في ذلك سواء، شأنك الحقّ و الصدق و الرفق، و قولك حكم و حتم، و أمرك حلم و حزم، و رأيك علم و عزم فيما فعلت، و قد نهج السبيل، و سهل العسير، و أطفئت النيران، و أعتدل بك الدين، و قوي بك الإسلام فظهر أمر الله و لو كره الكافرون، و ثبت الإسلام و المؤمنون، و سبقت سبقاً بعيداً، و أتعبت من بعدك تعباً شديداً، فجللت عن البكاء، و عظمت رزيّتك في السماء، و هدّت مصيبتك الأنام، فإنّا لله و إنّا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه و سلّمنا لله أمره، فوالله لن يصاب المسلمون بمثلك أبداً.
كنت للمؤمنين كهفاً و حصناً، و قنةً راسياً، و على الكافرين غلظة و غيظاً، فألحقك الله بنبيّه، و لا حرمنا أجرك، و لا أضلّنا بعدك .....)
2- عبادته (عليه السلام)
كان (ع) أعبد أهل زمانه، و قد دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية، فقال له: صِف لي عليّاً، فقال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك، قال:
أمّا إذا لابدّ، فإنّه كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، و يحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، و تنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا و زهرتها، و يستأنس بالليل و ظلمته، كان و الله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلّب كفّه، و يخاطب نفسه، ....، و من الطعام ما جشب، كان و الله كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، و يجيبنا إذا سألناه، و كان مع تقرّبه إلينا و قربه منّا لا نكلّمه هيبةً له، فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين، و يحبّ المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، و لا يياس الضعيف من عدله.
فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، و قد أرخى الليل سدوله، و غارت نجومه، يميل في محرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، و يبكي بكاء الحزين، فكأنّي أسمعه الآن، و هو يقول: يا ربّنا، يا ربّنا، .... يتضرّع إليه، ثمّ يقول للدنيا: إليّ تغررّت، إليّ تشوّقتِ؟! هيهات! هيهات! غرّي غيري، قد أبنتك ثلاثاً، فعمرك قصير، و مجلسك حقير، و خطرك يسير، آه آه! من قلّة الزاد و بُعد السفر و وحشة الطريق.
فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها، و جعل ينشفها بكمّه، و قد أختنق القوم بالبكاء، فقال: كذا كان أبو الحسن رحمه الله
3- شجاعته (عليه السلام)
شجاعته (ع) أظهر من الشمس، هو الذي قتل في بدر ستة و ثلاثين من أبطال المشركين، و أخذ الرسول (ص) من يده قبضة من حصباء الوادي و رمى بها في وجوه المشركين، و قال: شاهت الوجوه، فنزلت: ( و ما رميت إذ رميت و لكنّ الله رمى ) فأخذ الحصباء من يد عليّ ( ع ) ، و نفي الله الرمي عن رسوله، و إثباته لنفسه، يكفي لبيان منزلة علي (ع) من رسول الله (ص) .
و هو الذي نودي في غزوة أحد بحصر الفتوة في شخصيته: ( لا فتى إلاّ عليّ لا سيف إلاّ ذو الفقار ) و هو الذي بمبارزته في غزوة الخندق برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه، و كفى في فضل مبارزته أنّها أفضل من أعمال الأمّة إلى يوم القيامة، و بما أنّ هذه الأمّة خير أمّة أخرجت للناس، فالعمل الأفضل من أعمال هذه الأمّة أفضل من أعمال جميع الأمم.
و هو الذي فتح خيبر ...، فقال الرسول (ص): ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله و رسوله و يحبّه الله و رسوله، يفتح الله على يديه ليس بفرّار) فظهر للناس تفسير قوله تعالى: ( فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم و يحبّونه أذلةٍ على المؤمنين أعزّةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم ) و قلع الباب الذي يقلعه عشرون رجلاً و ينقله سبعون، و قد اعترف المخالف و المؤالف بأنّ قلعه لم يكن ممكناً بالقوة الجسدانية.
قال الفخر الرازي: ( و ذلك لأنّ عليّاً كرّم الله وجهه في ذلك الوقت إنقطع نظره عن عالم الأجساد، و أشرقت الملائكة بأنوار عالم الكبرياء، فتقوّى روحه و تشبّه بجواهر الأرواح الملكية، و تطلّعت فيه أضواء عالم القدس و العظمة، فلا جرم حصل له من القدرة ما قدر بها على ما لم يقدر عليه غيره ).
و هو الذي بات على فراش النبيّ (ص) مبيتاً ينبئ عن علوّ شأنه، فقام جبرئيل و هو ناموس الوحي و العلم عند رأسه، و ميكائيل و هو خازن الأرزاق عند رجليه، و نادى جبرئيل: ( بخٍ بخٍ من مثلك يا إبن أبي طالب، يباهي الله بك الملائكة )، و أنزل الله سبحانه: ( و من الناس من يشري نفسه إبتغاء مرضاة الله و الله رؤوف بالعباد ) .
هذه شجاعته الصغرى، و أمّا شجاعته الكبرى فهي غلبته النفس و الهوى فجفّ عنها القلم، و كلّ عنها البيان!
4- كرمه (عليه السلام)
هو الذي كان يملك كنوز قيصر و كسرى، و خزائن البلاد، و كان إفطاره على خبز الشعير و الملح، و كان يستقي بيده لنخل قوم من اليهود، ثمّ يتصدّق بالأجرة، و يشدّ على بطنه حجراً.
و هو الذي ملك أربعة دراهم، فأنفق واحداً منها ليلاً، و آخر نهاراً، و واحداً سرّاً، و آخر علانيةً، فنزل في شأنه: ( الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار سراً و علانية .... ) .
5- فصاحته و بلاغته (عليه السلام)
تجلّت فصاحته و بلاغته في خطبه و كتبه و كلماته القصار، و في الأدعية المأثورة عنه، و قد عجز أساطين الحكمة و أعلام الفصاحة عن الإتيان بمثلها في فنون الكلام، مادّةً و هيئة.....
6- و فضائل أخرى لـ علي (عليه السلام)
لقد تجلّى فيه فضائل النبيّ (ص) بحيث يراه من رآه - بعين الإنصاف - أنّه المرآة التامّة للرسول الأعظم، و نقتصر من تلك الفضائل على بعضها:
فهو الذي قام بالإجماع و السنّة على أنّه وارث علم النبيّ (ص) .
أمّا الإجماع، فقد أدّعى الحاكم في المستدرك: ( الإجماع على إثبات ذلك لعليّ (ع) ، و النفي عن غيره ).
و أمّا السنة فنقتصر منها على قوله (ص) : ( أنا مدينة العلم و عليّ بابها ) ، و قوله (ص) : ( أنا مدينة الحكمة و عليّ بابها ) .
أمّا حديث أنا مدينة العلم فمن حيث السند غني عن التصحيح، فلو لم نقل بتواتره لفظاً أو معنىً، فهو متواتر إجمالاً.
و أمّا من حيث الدلالة فهو يدلّ على أنّه باب مدينة علم الرسول (ص) ، و ليس لأحد كائناً من كان أن يأتي هذه المدينة إلاّ من هذا الباب.
فبنطقه تنفتح مدينة علم الخاتم على أهل العالم، و بسكوته تنغلق.
و أمّا العلم الذي يكون النبيّ مدينته و عليّ بابه، فهو الذي أستحقّ به آدم خلافة الله في الأرض، كما قال سبحانه: ( و إذ قال ربك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبّح لك بحمدك و نقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون * و علّم آدم الأسماء كلّها ثم عرضها على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ) ، و قد علّم الله الخاتم جميع ما علّمه لآدم و من دونه من النبيين مضافاً إلى ما خصّه به، كما هو مقتضى الخاتمية، قال سبحانه و تعالى في شأن ما علّمه لكليمه: ( و كتبنا له في الألواح من كلّ شيء ) ، و في شأن ما علّمه لحبيبه: ( و أنزلنا عليك الكتاب تبياناً لكلِ شيءٍ ) .
و أمّا حديث: ( أنا دار الحكمة - أو مدينة الحكمة - و علي بابها )، فقد رواه جمع من أصحاب الحديث، منهم الترمذي في صحيحه، و الخطيب في تاريخه.
فمن أراد هذه الحكمة التي هي ضالّة كلّ مؤمن و طلبة كلّ إنسان، فلا يمكنه أن ينالها إلاّ من طريق عليّ (ع) .
و غير خفيّ على أهل النظر أنّ عظمة علم النبيّ و حكمته (ص) فوق أن تدركها العقول، فإنه الإنسان الكامل على الإطلاق، و مقتضى البرهان صيرورة ما في نوع الإنسان من الإستعداد للكمال العلمي و العملي فعليّاً في الفرد الكامل الذي لا أكمل منه، و قد قال الله سبحانه: ( و أنزل الله عليك الكتاب و الحكمة و علّمك ما لم تكن تعلم و كان فضل الله عليك عظيما ) .
فما عدّه العلي العظيم الذي لاحدّ لعظمته عظيماً، يكون أعظم من أن تصل إلى مبلغ عظمته الأفهام، و عليّ باب هذا العلم و الحكمة، و بكلمة واحدة: باب علم الخاتم هو باب علم العالم!
و قد أتّفق الفريقان على أنه قال: ( سلوني قبل أن تفقدوني ) ، و عدم تحديده لما يسأل عنه بحدّ يكشف أنّ المتكلّم بهذا الكلام باب العلم الذي يمدّه من لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة.
هذه منزلته في العلم و الحكمة، و قد أعترف به المؤالف و المخالف، قال معاوية لإبن عباس: فما تقول في عليّ بن أبي طالب؟ قال:
( كان و الله علم الهدى، و كهف التقى، و محل الحجى، و طود النُهى، و نور السرى في ظلم الدجى، و داعيّاً غلى المحجّة العظمى، عالماً بما في الصحف الأولى، و قائماً بالتأويل و الذكرى، متعلّقاً بأسباب الهدى، و تاركاً للجور و الأذى، و حائداً عن طرقات الردى، و خير من آمن و أتّقى، و سيّد من تقمّص و أرتدى، و أفضل من حجّ و سعى، و أسمح من عدل و سوّى، إلى آخر ما قال ) .
و قالت عائشة: ( عليّ أعلم الناس بالسنّة ). ( التاريخ الكبير للبخاري، 2/255، و 3/228، و مصادر أخرى كثيرة ).
و قال عمر بن الخطاب: ( أعوذ بالله من كل معضلة و ليس لها أبو حسن ...) ( جاء ذلك في ما يقرب من عشرين مصدرا، ومنها: تاريخ مدينة دمشق،25/369، و 42/406. وفي الطبقات الكبرى، 2/339 ).
و قال معاوية: ( ذهب الفقه و العلم بموت إبن أبي طالب )، فقال له أخوه عتبة: لا يسمع هذا منك أهل الشام. فقال له: دعني عنك. (الإستيعاب، 3/1108، و غيره من المصادر ) .
تأليف آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظله)
تعليق