اسم موضع في العراق، يقع حالياً على مسافة مائة وخمسين كيلو متراً من بغداد، أصل الاسم آشوري، ويتألف من مقطعين: "كرب" ويعني قرب، والمقطع "لا" وهو تحريف (أرامي كما يبدو) لكلمة "إيل" أي إله، فيكون معناها "قرب الإله". ويشير اسم الموقع إلى احتمال نزول آشوريين فيه، وهو احتمال يقويه وجود قرية ضمن الموقع تسمى "نينوى" باسم العاصمة الآشورية الشهيرة التي تقع أطلالها اليوم قرب الموصل شمال العراق.
ويتردد اسم "نينوى" في المراثي الحسينية.. وللموضع اسمان آخران يترددان أيضاً في المراثي الحسينية، وهما: "الطف" ويعني في اللغة ما أشرف على أرض العرب من ريف العراق. ويشير ذلك إلى نقطة اتصال نهايات الهضبة العربية بسهل العراق، وهو موقع كربلاء الجغرافي. الاسم الآخر هو "الغاضرية"، وينسب إلى غاضرة من بني أسد كانوا يسكنون هناك، ولكربلاء اسم آخر وهو الحائر، وهو وصف لطوبوغرافية المدينة. ويحتمل أن كلمة "كربلاء" مشتقة من الكربة، بمعنى الرخاوة، فلما كانت أرض هذا الموقع رخوة سميت كربلاء.. أو من النقاوة، ويقال كربلت الحنطة إذا هززتها ونقيتها.. فيجوز على هذا أن تكون هذه الأرض منقاة من الحصى والدغل فسميت بذلك. والكربل اسم نبت الحماض، فيجوز أن يكون هذا الصنف من النبت يكثر وجوده هناك فسميت به.
الأوضاع العامة قبيل تحرك الحسين(ع)
تبدلت باستشهاد الامام علي(ع) معادلات الصراع، مع ميل واضح للأطروحة الأموية التي كانت تعمل على تركيز سلطتها مع بدء العمليات العسكرية الأولى التي جرت خارج بلاد الحجاز، وكان الأمويون يعتبرون أن عقبات أساسية تحول دون تحقيق مشروعهم كان في مقدمتها وجود الحسنين (ع)، ولذلك دأبوا منذ البداية إزاحة هذه العوائق فشنوا على خصومهم حرباً لا هوادة فيها، فأذكوا الصراعات القبلية، ولعبوا على وتر المصالح والقضايا المصلحية، وسخروا المال والدعاية النفسية ، واشتروا الضمائر، ومارسوا سياسة تعسفية قمعية ضد خصومهم، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أحدثوا تغييرات جوهرية في حركة السلطة ابتعدت فيه عن مسار تطبيق العدالة، وأصبح الاستبداد والظلم عنوان تحركها، ما أدى إلى قيام العديد من الثورات والتحركات ضدها، ولكن التحرك الأهم هو ما قام به الإمام الحسين الذي رفع شعار الإصلاح في أمة جده رسول الله(ص)، ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
الحسين(ع).. التحدي والمواجهة
كان معاوية قد أحكم قبضته على الكوفة عن طريق زياد وابنه عبيد الله، وهما من أعتى الولاة الأمويين، وقد مورست عليها كل الإجراءات القمعية، وعند وصول الخبر بوفاة معاوية، كان عبيد الله بن زياد في البصرة وقد أناب عنه النعمان بن بشير الأنصاري، وهو صحابي قليل الشأن محدود الكفاءة، فاجتمع زعماء الشيعة في الكوفة واتفقوا على استدعاء الحسين(ع)، فكتبوا إليه رسالة ومعهم خمسة من مقدميهم تضمنت التنديد بالسياسة الأموية وتطلب منه القدوم لنصرتهم.
استجاب الحسين(ع) للدعوة وأبلغ موقّعي الرسالة بأنه قادم إليهم، لكنه تريث قبل التوجه إلى العراق، فأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل مبعوثاً عنه إليها. عندما وصل مسلم بن عقيل إلى الكوفة كان النعمان بن بشير قد غادرها، وظهر الشيعة إلى العلن، وأخذ مسلم البيعة للحسين من أهل الكوفة، وبدا له أن الوضع استتب لصالحه، فكتب إلى الحسين يستدعيه للقدوم، لكن عبيد الله بن زياد استطاع التسلل إلى الكوفة قادماً من البصرة، ودخل إلى قصر الإمارة متنكراً، وكان محاطاً بأعوانه، فأعلن عن نفسه من شرفة القصر بعد أن حصّنه جيداً. وتقول الروايات أن مسلم تقدم لمحاصرة القصر بقوة كافية من أهل الكوفة، لكن ابن زياد تمكن من تشتيت هذه القوة برشوة زعماء العشائر والقبائل ووجهاء المدينة التي كانت لا تزال مقسمة على أساس قبلي، ولم يمض وقت طويل حتى وجد مسلم نفسه وحيداً فاضطر إلى الاختباء.
كان الحسين(ع) قد دخل أراضي العراق قبل أن يبلغه مقتل مسلم وانقلاب الوضع عليه. وبقي الحسين(ع) في بضعة وعشرين من شباب أسرته وما بين السبعين والتسعين من أصحابه، وبعد سيرهم مسافة قصيرة باتجاه كربلاء طلعت عليهم قوة بقيادة الحر بن يزيد الرياحي، كانت قد كلفت بمنع الحسين(ع) من التوجه إلى جهة أخرى، ويستفاد من مجرى الأحداث اللاحقة أن خطة عبيد الله بن زياد كانت تقضي بمحاصرة الحسين(ع) في نقطة خارج الكوفة بعد أن يكون قد منع من التوجه إلى مكان آخر، ولكن دون السماح له بالوصول إلى الكوفة نفسها، خوفاً من أن يؤدي دخوله المدينة إلى عودة الالتفاف حوله. لأن أهل الكوفة كما عبر الفرزدق، كانت قلوبهم مع الحسين وسيوفهم عليه. وهكذا مع اقتراب الحسين(ع) من موقع كربلاء، الذي يبعد عن الكوفة حوالي ثمانين كيلو متراً، وصلت القوة الرئيسية المكلفة بتصفية الحساب معه.
كانت القوة بقيادة عمر بن سعد بن أبي وقاص، وتتفاوت الروايات في حساب عددها بين أربعة آلاف وثلاثين ألفاً. وكان والده سعد من المناهضين لعلي بن أبي طالب(ع)، وقد رفض مبايعته بالخلافة. أوكل إليه عبيد الله بن زياد أمر مقاتلة الحسين(ع)، وكان قد عيّنه والياً على الري، وهي مدينة إيرانية كبيرة تقع أطلالها اليوم في جوار طهران، فلما تحرك الحسين ووصلت الأنباء بدخوله العراق، استدعاه عبيد الله واشترط عليه قبل استلام ولايته أن يقاتل الحسين(ع)، وقبل ابن سعد ذلك لئلا تضيع منه الولاية، وفي كربلاء تريث طويلاً قبل أن يأمر الجيش بالهجوم حيث دارت مفاوضات حاول فيها أن يحل المشكلة سلمياً بإقناع الحسين(ع) بعدم جدوى القتال.
مسيرة البطولة والشجاعة
وعندئذ ألقى الحسين(ع) خطبته القصيرة المدوية التي قال فيها: "ألا وإن الدعي ابن الدعي ـ يقصد عبيد الله بن زياد ـ قد ركز بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية ونفوس أبية لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام".
بدأ القتال بالمبارزة التي أبلى فيها الإمام الحسين(ع) وأصحابه بلاءً حسناً، ثم قام الجيش بهجوم شامل أسفر عن قتل خمسين من أصحاب الحسين(ع)، لم يلبث ابن سعد بعدها أن أمر الجيش بالكف عن القتال، حيث كان يطمع في استسلام الحسين بعد أن قتل هذا العدد من أصحابه ولم يبق معه من المقاتلين الفعليين إلا القليل. لكن الحسين(ع) واصل القتال، الذي أخذ عندئذ شكل المبارزة والهجمات السريعة الخاطفة من الجانبين، وانتهت هذه الجولة بمقتل من تبقى من أصحابه ومن معه من شباب أسرته، وجاءت الجولة الأخيرة وهي الأكثر إثارة، حين وقف الحسين(ع) منفرداً في مواجهة الجيش، تنقل المصادر عن أحد شهود المعركة ما يلي:
"فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه، وإن كانت الرجال لتشد عليه فيشد عليها فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب. ولقد كان يحمل فيهم فينهزمون بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم يرجع وهو يقول لا حول ولا قوة إلا بالله".
القضية والموقف
ويثير هذا المشهد جملة أمور: فالحسين(ع) صاحب قضية، أما المقابل فيقاتل كجيش نظامي مأمور؛ فالتوازن مفقود بين الطرفين في المعنويات.. وثمة مع ذلك عنصر هام أشارت إليه الدراسات الحسينية، وهو أن الجيش كان في جملته يتحاشى قتل الحسين(ع)، ومن المتوقع أن يكون انكشافهم عنه متأثر إلى حد، قليل أو كثير، بهذا التحفظ. وفي الحقيقة لم يردنا عن أولئك الذين آذوا الحسين(ع) إلا القليل، وأوردت المصادر أسماءهم، ومعظمهم وقعوا فيما بعد في قبضة المختار بن عبيد الله الثقفي أيام سيطرته القصيرة على الكوفة، حيث نكّل بهم وقتلهم، ويدلّ التمكن من ضبط أسمائهم على قلتهم، وقد نظر الشيعة إلى هؤلاء بوصفهم من غلاظ الكفرة، أما الآخرين فاعتبروهم مستحقين لعذاب جهنم لأنهم "كثروا السواد على آل رسول الله"، بمعنى زادوا بحضورهم عدد الجيش، وهو المقصود بالسواد الذي يدل في اللغات السامية على جمهرة الناس.
في السويعات الأخيرة من القتال، الذي استغرق أكثر من نصف نهار العاشر من محرم عام 61 للهجرة، كان الحسين(ع) قد أثخن بالجراح وأدركه الإعياء والعطش، ففقد القدرة على الحركة، لكنه بقي واقفاً على رجليه يقاوم السقوط، فأخذ بعضهم يرشقه من بعيد بالسهام والحجارة فتهاوى على الصعيد، وبقي مكباً على وجهه مدة طويلة قدّرها الرواة بثلاث ساعات والجيش يتحاشى الدنوّ منه، وبعد جدال وتردد، اندفع بعض الأفراد نحوه فأجهزوا عليه وقطعوا رأسه، وكان في أواخر خمسيناته، وقد حمل الرأس ومعه رؤوس بقية القتلى على الرماح وتوجهوا بها إلى الكوفة بصحبة السبايا من النساء والأطفال، وتركت الجثث التي شوهتها حوافر الخيل، وبعد ثلاثة أيام من رحيل الجيش وصلت جماعة من بني أسد المقيمين قرب كربلاء فدفنوا الجثث، وقد أقيمت بعد سقوط الأمويين مراقد على قبور القتلى لا تزال شاخصة وسط مدينة كربلاء الحديثة بعد أن جددت عدة مرات وصفحت مآذنها وقبابها بالذهب. أما رأس الحسين(ع) فنقل مع رؤوس أصحابه إلى دمشق ليعرض على الحاكم الأموي، وتختلف الروايات في مصيره بعد ذلك، بعضها يقول أنه أعيد إلى كربلاء ودفن مع الجسد، وبعضها الآخر يقول إنه دفن في دمشق، وفي طرف من الجامع الأموي تقوم اليوم قبة صغيرة يقال أن رأس الحسين(ع) مدفون فيها. وهناك رواية تفيد أن الفاطميين نقلوه إلى القاهرة بعد استيلائهم على دمشق. وإلى هذه الرواية يستندون في تسمية المسجد الكبير في القاهرة القديمة والمعروف بمسجد سيدنا الحسين(ع)، إذ يفترض أنه بني على القبر الذي دفن فيه الرأس.
درس وعبرة
أحدث مقتل الحسين(ع) رد فعل عنيفة ضد السلطة الحاكمة، وكان ذلك الحدث قد اعتبر امتحاناً لإمكان خضوع المسلمين لسلطان مستبد لم يتعودوا عليه في جاهليتهم. روى الطبري أن عبد الله بن مطيع، من زعماء الحجاز، توسل الحسين(ع) أن لا يجازف بالخروج إلى الكوفة، قائلاً له: "والله لئن هلكت لنسترقن بعدك". باعتبار أن إقدام الأمويين على قتل الحسين سيسهل عليهم إخضاع المسلمين لسلطانهم، بينما تحول صمود الحسين واستبساله إلى أمثولة، حيث يروى مثلاً أن مصعب بن الزبير تذكره في قتاله ضد عبد الله بن مروان بعد أن تشتت جيشه وأحس بالوهن فأنشد:
وأن الآل بالطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
وألقى بنفسه في أتون المعركة ليقاتل منفرداً حتى قتل، وكان مصعب من أعداء الحسين(ع).
وقامت حركات ثورية عديدة تحت شعار "يا لثارات الحسين" حتى نهاية الحكم الأموي ومجيء العباسيين الذين اعتبروا أنفسهم آخذين بثأر الحسين من بني أمية، وطوال العصور الإسلامية كان المثال الحسيني يلهم لحركات من الثوار ضد العباسيين وغيرهم من السلطات الظالمة، ويمارس حضوره كعنصر شد للمعنويات، لا سيما في لحظات الحرج أو اليأس. ولا يزال لهذا المثال تأثير في الوقت الحاضر.
ويتردد اسم "نينوى" في المراثي الحسينية.. وللموضع اسمان آخران يترددان أيضاً في المراثي الحسينية، وهما: "الطف" ويعني في اللغة ما أشرف على أرض العرب من ريف العراق. ويشير ذلك إلى نقطة اتصال نهايات الهضبة العربية بسهل العراق، وهو موقع كربلاء الجغرافي. الاسم الآخر هو "الغاضرية"، وينسب إلى غاضرة من بني أسد كانوا يسكنون هناك، ولكربلاء اسم آخر وهو الحائر، وهو وصف لطوبوغرافية المدينة. ويحتمل أن كلمة "كربلاء" مشتقة من الكربة، بمعنى الرخاوة، فلما كانت أرض هذا الموقع رخوة سميت كربلاء.. أو من النقاوة، ويقال كربلت الحنطة إذا هززتها ونقيتها.. فيجوز على هذا أن تكون هذه الأرض منقاة من الحصى والدغل فسميت بذلك. والكربل اسم نبت الحماض، فيجوز أن يكون هذا الصنف من النبت يكثر وجوده هناك فسميت به.
الأوضاع العامة قبيل تحرك الحسين(ع)
تبدلت باستشهاد الامام علي(ع) معادلات الصراع، مع ميل واضح للأطروحة الأموية التي كانت تعمل على تركيز سلطتها مع بدء العمليات العسكرية الأولى التي جرت خارج بلاد الحجاز، وكان الأمويون يعتبرون أن عقبات أساسية تحول دون تحقيق مشروعهم كان في مقدمتها وجود الحسنين (ع)، ولذلك دأبوا منذ البداية إزاحة هذه العوائق فشنوا على خصومهم حرباً لا هوادة فيها، فأذكوا الصراعات القبلية، ولعبوا على وتر المصالح والقضايا المصلحية، وسخروا المال والدعاية النفسية ، واشتروا الضمائر، ومارسوا سياسة تعسفية قمعية ضد خصومهم، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أحدثوا تغييرات جوهرية في حركة السلطة ابتعدت فيه عن مسار تطبيق العدالة، وأصبح الاستبداد والظلم عنوان تحركها، ما أدى إلى قيام العديد من الثورات والتحركات ضدها، ولكن التحرك الأهم هو ما قام به الإمام الحسين الذي رفع شعار الإصلاح في أمة جده رسول الله(ص)، ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
الحسين(ع).. التحدي والمواجهة
كان معاوية قد أحكم قبضته على الكوفة عن طريق زياد وابنه عبيد الله، وهما من أعتى الولاة الأمويين، وقد مورست عليها كل الإجراءات القمعية، وعند وصول الخبر بوفاة معاوية، كان عبيد الله بن زياد في البصرة وقد أناب عنه النعمان بن بشير الأنصاري، وهو صحابي قليل الشأن محدود الكفاءة، فاجتمع زعماء الشيعة في الكوفة واتفقوا على استدعاء الحسين(ع)، فكتبوا إليه رسالة ومعهم خمسة من مقدميهم تضمنت التنديد بالسياسة الأموية وتطلب منه القدوم لنصرتهم.
استجاب الحسين(ع) للدعوة وأبلغ موقّعي الرسالة بأنه قادم إليهم، لكنه تريث قبل التوجه إلى العراق، فأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل مبعوثاً عنه إليها. عندما وصل مسلم بن عقيل إلى الكوفة كان النعمان بن بشير قد غادرها، وظهر الشيعة إلى العلن، وأخذ مسلم البيعة للحسين من أهل الكوفة، وبدا له أن الوضع استتب لصالحه، فكتب إلى الحسين يستدعيه للقدوم، لكن عبيد الله بن زياد استطاع التسلل إلى الكوفة قادماً من البصرة، ودخل إلى قصر الإمارة متنكراً، وكان محاطاً بأعوانه، فأعلن عن نفسه من شرفة القصر بعد أن حصّنه جيداً. وتقول الروايات أن مسلم تقدم لمحاصرة القصر بقوة كافية من أهل الكوفة، لكن ابن زياد تمكن من تشتيت هذه القوة برشوة زعماء العشائر والقبائل ووجهاء المدينة التي كانت لا تزال مقسمة على أساس قبلي، ولم يمض وقت طويل حتى وجد مسلم نفسه وحيداً فاضطر إلى الاختباء.
كان الحسين(ع) قد دخل أراضي العراق قبل أن يبلغه مقتل مسلم وانقلاب الوضع عليه. وبقي الحسين(ع) في بضعة وعشرين من شباب أسرته وما بين السبعين والتسعين من أصحابه، وبعد سيرهم مسافة قصيرة باتجاه كربلاء طلعت عليهم قوة بقيادة الحر بن يزيد الرياحي، كانت قد كلفت بمنع الحسين(ع) من التوجه إلى جهة أخرى، ويستفاد من مجرى الأحداث اللاحقة أن خطة عبيد الله بن زياد كانت تقضي بمحاصرة الحسين(ع) في نقطة خارج الكوفة بعد أن يكون قد منع من التوجه إلى مكان آخر، ولكن دون السماح له بالوصول إلى الكوفة نفسها، خوفاً من أن يؤدي دخوله المدينة إلى عودة الالتفاف حوله. لأن أهل الكوفة كما عبر الفرزدق، كانت قلوبهم مع الحسين وسيوفهم عليه. وهكذا مع اقتراب الحسين(ع) من موقع كربلاء، الذي يبعد عن الكوفة حوالي ثمانين كيلو متراً، وصلت القوة الرئيسية المكلفة بتصفية الحساب معه.
كانت القوة بقيادة عمر بن سعد بن أبي وقاص، وتتفاوت الروايات في حساب عددها بين أربعة آلاف وثلاثين ألفاً. وكان والده سعد من المناهضين لعلي بن أبي طالب(ع)، وقد رفض مبايعته بالخلافة. أوكل إليه عبيد الله بن زياد أمر مقاتلة الحسين(ع)، وكان قد عيّنه والياً على الري، وهي مدينة إيرانية كبيرة تقع أطلالها اليوم في جوار طهران، فلما تحرك الحسين ووصلت الأنباء بدخوله العراق، استدعاه عبيد الله واشترط عليه قبل استلام ولايته أن يقاتل الحسين(ع)، وقبل ابن سعد ذلك لئلا تضيع منه الولاية، وفي كربلاء تريث طويلاً قبل أن يأمر الجيش بالهجوم حيث دارت مفاوضات حاول فيها أن يحل المشكلة سلمياً بإقناع الحسين(ع) بعدم جدوى القتال.
مسيرة البطولة والشجاعة
وعندئذ ألقى الحسين(ع) خطبته القصيرة المدوية التي قال فيها: "ألا وإن الدعي ابن الدعي ـ يقصد عبيد الله بن زياد ـ قد ركز بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية ونفوس أبية لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام".
بدأ القتال بالمبارزة التي أبلى فيها الإمام الحسين(ع) وأصحابه بلاءً حسناً، ثم قام الجيش بهجوم شامل أسفر عن قتل خمسين من أصحاب الحسين(ع)، لم يلبث ابن سعد بعدها أن أمر الجيش بالكف عن القتال، حيث كان يطمع في استسلام الحسين بعد أن قتل هذا العدد من أصحابه ولم يبق معه من المقاتلين الفعليين إلا القليل. لكن الحسين(ع) واصل القتال، الذي أخذ عندئذ شكل المبارزة والهجمات السريعة الخاطفة من الجانبين، وانتهت هذه الجولة بمقتل من تبقى من أصحابه ومن معه من شباب أسرته، وجاءت الجولة الأخيرة وهي الأكثر إثارة، حين وقف الحسين(ع) منفرداً في مواجهة الجيش، تنقل المصادر عن أحد شهود المعركة ما يلي:
"فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه، وإن كانت الرجال لتشد عليه فيشد عليها فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب. ولقد كان يحمل فيهم فينهزمون بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم يرجع وهو يقول لا حول ولا قوة إلا بالله".
القضية والموقف
ويثير هذا المشهد جملة أمور: فالحسين(ع) صاحب قضية، أما المقابل فيقاتل كجيش نظامي مأمور؛ فالتوازن مفقود بين الطرفين في المعنويات.. وثمة مع ذلك عنصر هام أشارت إليه الدراسات الحسينية، وهو أن الجيش كان في جملته يتحاشى قتل الحسين(ع)، ومن المتوقع أن يكون انكشافهم عنه متأثر إلى حد، قليل أو كثير، بهذا التحفظ. وفي الحقيقة لم يردنا عن أولئك الذين آذوا الحسين(ع) إلا القليل، وأوردت المصادر أسماءهم، ومعظمهم وقعوا فيما بعد في قبضة المختار بن عبيد الله الثقفي أيام سيطرته القصيرة على الكوفة، حيث نكّل بهم وقتلهم، ويدلّ التمكن من ضبط أسمائهم على قلتهم، وقد نظر الشيعة إلى هؤلاء بوصفهم من غلاظ الكفرة، أما الآخرين فاعتبروهم مستحقين لعذاب جهنم لأنهم "كثروا السواد على آل رسول الله"، بمعنى زادوا بحضورهم عدد الجيش، وهو المقصود بالسواد الذي يدل في اللغات السامية على جمهرة الناس.
في السويعات الأخيرة من القتال، الذي استغرق أكثر من نصف نهار العاشر من محرم عام 61 للهجرة، كان الحسين(ع) قد أثخن بالجراح وأدركه الإعياء والعطش، ففقد القدرة على الحركة، لكنه بقي واقفاً على رجليه يقاوم السقوط، فأخذ بعضهم يرشقه من بعيد بالسهام والحجارة فتهاوى على الصعيد، وبقي مكباً على وجهه مدة طويلة قدّرها الرواة بثلاث ساعات والجيش يتحاشى الدنوّ منه، وبعد جدال وتردد، اندفع بعض الأفراد نحوه فأجهزوا عليه وقطعوا رأسه، وكان في أواخر خمسيناته، وقد حمل الرأس ومعه رؤوس بقية القتلى على الرماح وتوجهوا بها إلى الكوفة بصحبة السبايا من النساء والأطفال، وتركت الجثث التي شوهتها حوافر الخيل، وبعد ثلاثة أيام من رحيل الجيش وصلت جماعة من بني أسد المقيمين قرب كربلاء فدفنوا الجثث، وقد أقيمت بعد سقوط الأمويين مراقد على قبور القتلى لا تزال شاخصة وسط مدينة كربلاء الحديثة بعد أن جددت عدة مرات وصفحت مآذنها وقبابها بالذهب. أما رأس الحسين(ع) فنقل مع رؤوس أصحابه إلى دمشق ليعرض على الحاكم الأموي، وتختلف الروايات في مصيره بعد ذلك، بعضها يقول أنه أعيد إلى كربلاء ودفن مع الجسد، وبعضها الآخر يقول إنه دفن في دمشق، وفي طرف من الجامع الأموي تقوم اليوم قبة صغيرة يقال أن رأس الحسين(ع) مدفون فيها. وهناك رواية تفيد أن الفاطميين نقلوه إلى القاهرة بعد استيلائهم على دمشق. وإلى هذه الرواية يستندون في تسمية المسجد الكبير في القاهرة القديمة والمعروف بمسجد سيدنا الحسين(ع)، إذ يفترض أنه بني على القبر الذي دفن فيه الرأس.
درس وعبرة
أحدث مقتل الحسين(ع) رد فعل عنيفة ضد السلطة الحاكمة، وكان ذلك الحدث قد اعتبر امتحاناً لإمكان خضوع المسلمين لسلطان مستبد لم يتعودوا عليه في جاهليتهم. روى الطبري أن عبد الله بن مطيع، من زعماء الحجاز، توسل الحسين(ع) أن لا يجازف بالخروج إلى الكوفة، قائلاً له: "والله لئن هلكت لنسترقن بعدك". باعتبار أن إقدام الأمويين على قتل الحسين سيسهل عليهم إخضاع المسلمين لسلطانهم، بينما تحول صمود الحسين واستبساله إلى أمثولة، حيث يروى مثلاً أن مصعب بن الزبير تذكره في قتاله ضد عبد الله بن مروان بعد أن تشتت جيشه وأحس بالوهن فأنشد:
وأن الآل بالطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
وألقى بنفسه في أتون المعركة ليقاتل منفرداً حتى قتل، وكان مصعب من أعداء الحسين(ع).
وقامت حركات ثورية عديدة تحت شعار "يا لثارات الحسين" حتى نهاية الحكم الأموي ومجيء العباسيين الذين اعتبروا أنفسهم آخذين بثأر الحسين من بني أمية، وطوال العصور الإسلامية كان المثال الحسيني يلهم لحركات من الثوار ضد العباسيين وغيرهم من السلطات الظالمة، ويمارس حضوره كعنصر شد للمعنويات، لا سيما في لحظات الحرج أو اليأس. ولا يزال لهذا المثال تأثير في الوقت الحاضر.
تعليق