صحافة العدو:تقلينا ضربة قاضية وليست صفعة موجعة00!!
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
في “هآرتس” وتحت عنوان “الضربة القاضية التي تلقيناها”، كتب رؤوبين بدهتسور مقالاً، جاء فيه:
فشل الولايات المتحدة في حرب لبنان بدأ يتضح عندما تبنى الجنرال فستمورلاند، قائد القوات الامريكية في فيتنام، نهج “احصاء الجثث”، كبديل للانتصارات العسكرية. عندما لم يكن بإمكانه الاشارة الى انجازات في ارض المعركة، قام هذا القائد بإرسال عدد جثث جنود الفيتكونغ الذين قتلهم جنوده يوميا الى واشنطن. في الاسابيع الأخيرة تبنى الجيش “الإسرائيلي”، كما تبين لنا، نهجه هذا. عندما يقوم الجيش الأكبر والأقوى في الهندسة الصناعية الاوسط بخوض منازلة طوال أكثر من اسبوعين مع 50 مقاتلا من حزب الله في بنت جبيل ولا ينجح في اخضاعهم، لا يتبقى أمام قادته إلا الاشارة الى عدد جثث مقاتلي العدو. بنت جبيل، كما يجب الافتراض، ستتحول الى رمز لحرب لبنان الثانية. ستكون هذه المعركة في تراث وتقاليد مقاتلي حزب الله مثل ستالينغراد لبنانية. أما بالنسبة لنا فستكون تذكارا مؤلما لفشل الجيش “الإسرائيلي” في الحرب.
زئيف شيف (“هآرتس”، 11/8) قال إننا “تلقينا صفعة”. يبدو أن المصطلح الأكثر ملاءمة هو “ضربة قاضية”. نحن لسنا أمام فشل عسكري فقط. هذا فشل استراتيجي لم تتضح بعد تبعاته واسقاطاته السلبية بعيدة المدى. ومثل الملاكم بعد أن يتلقى الصدمة، نحن ما زلنا جاثمين على الارض في شبه إغماء محاولين فهم ما حدث لنا. مثلما أفضت حرب الايام الستة الى تغير استراتيجي في الهندسة الصناعية الاوسط وتكريس مكانة دولة “إسرائيل” كدولة اقليمية عظمى، قد تؤدي حرب لبنان الثانية الى عملية معاكسة. فشل الجيش “الإسرائيلي” في القتال يقضم ثروتنا الأهم بالنسبة للأمن القومي - صورة الدولة القوية الجبارة التي تمتلك جيشا ضخما وقويا ومتطورا قادرا على ضرب أعدائنا وتوجيه ضربات ساحقة لهم إن تجرأوا فقط على التحرش بها. هذه الحرب، كما اتضح بسرعة كبيرة جدا، كانت حربا على “الوعي” و”الردع”. وقد فشلنا في الحالتين.
النظرية الجاهزة فشلت مرة اخرى ليست هناك أهمية بالمرة بالنسبة لقوة الجيش “الإسرائيلي” الحقيقية، كما أنه لا توجد أي أهمية للقول إن الجيش “الإسرائيلي” قد استخدم نسبة صغيرة فقط من قوته، وأن لديه اسلحة متطورة في ترسانته. الأمر المهم فعلا هو صورة الجيش “الإسرائيلي” ومعه صورة “إسرائيل” في نظر العدو الذي نقاتله وفي نظر الخصوم الآخرين في المنطقة.
وهنا يكمن الخطر الأفدح الذي تسببت به هذه الحرب. في دمشق وغزة وطهران، وفي القاهرة ايضا، ينظرون باستغراب للجيش “الإسرائيلي” الذي لا ينجح في إخضاع تنظيم عصابات صغير (1500 مقاتل حسب رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية وبضعة آلاف حسب مصادر اخرى) طوال أكثر من شهر، ويفشل مع دفع ثمن فادح في اغلبية المعارك التي يبادر اليها في جنوب لبنان، والأدهى من كل ذلك - أنه لا ينجح في شل قدرة حزب الله على اطلاق الصواريخ، الأمر الذي يُجبر أكثر من مليون مواطن “إسرائيلي” على ملازمة الملاجىء لأكثر من اربعة اسابيع. ما الذي حدث لهذا الجيش العملاق الذي لم ينجح بعد شهر من التقدم أكثر من بضعة كيلومترات في الاراضي اللبنانية - يتساءل الكثيرون من اولئك الذين يخططون للحروب القادمة ضد “إسرائيل”.
نجاح الردع “الإسرائيلي” كان مرتكزا على اعتراف العدو بأنه سيدفع ثمنا باهظا جدا اذا مس ب”إسرائيل”. هذا الأمر حال على سبيل المثال حتى اليوم، وخلال الحروب، دون اطلاق مئات الصواريخ السورية على العمق “الإسرائيلي”، حيث كان هناك خوف من توجيه “إسرائيل” لضربات قاسية لدمشق وغيرها من المدن السورية المركزية. ولكن عندما تُطلق أكثر من 3 آلاف صاروخ على الجليل وحيفا والخضيرة من دون أن تتمكن “إسرائيل” من جني الثمن من أي أحد، يتصدع الردع “الإسرائيلي” ويتضرر.
من المحتمل أن يظهر في دمشق في مناسبة قادمة من يقرر أن دفع العملية السياسية يستوجب اطلاق الصواريخ على تل ابيب، ذلك لأن “إسرائيل” لم تقم فقط بالرد الحقيقي على اطلاق الصواريخ من لبنان، وانما اضطرت ايضا الى الموافقة على تسوية أممية تُبقي على الترسانة الصاروخية بيد حزب الله.
لجنة أغرانت منحت مصطلح “النظرية” مغزى سلبيا في السياق الاستخباري. لجنة التحقيق التي ستتشكل كما نأمل، بعد هذه الحرب، سرعان ما ستكتشف أن الجيش “الإسرائيلي” وصانعي السياسة من خلفه قد أُصيبوا بسرعة كبيرة بداء النظرية الخاطئة في مسألتين. أولا، خلال السنوات الست الأخيرة تكرس الاعتقاد بأنه لن تكون هناك حاجة لمقاتلة حزب الله على نطاق واسع. اذا حدثت عمليات عسكرية في جنوب لبنان فستكون قصيرة ومحدودة حسب اعتقادهم. ثانيا، واذا ظهرت الحاجة لشن الحرب على حزب الله رغم ذلك، فإن الجيش “الإسرائيلي” سينجح في تحطيم هذا التنظيم خلال ايام معدودات، وتفكيك قيادته وانهاء الحرب بشروط مريحة ل”إسرائيل”.
وهكذا دخلنا الى الحرب. الجيش ترك رئيس الوزراء والحكومة يعتقدون أن سلاح الجو سينجح في تصفية قدرات حزب الله القتالية خلال ايام معدودات، ومن ثم سيسود وضع جديد في لبنان. على أساس هذه الوعود حدد اولمرت أهداف الحرب الطموحة والتي لم تكن قابلة للتحقق بطبيعة الحال.
مثلما حدث قبل حرب الغفران “حرب أكتوبر 73”، كان هناك مزيج هدام من العجرفة والغرور والغطرسة والاستخفاف بالخصم. الجنرالات كانوا واثقين جدا من نجاح سلاح الجو لدرجة أنهم لم يُعدوا أي بديل في حالة الفشل في تحقيق الأهداف. وعندما اتضح بعد اسبوع أن حزب الله لا ينهار، وأن صواريخه لم تتضرر بصورة ملموسة، علق الجيش “الإسرائيلي” في ضائقة حقيقية وحالة من الإرباك. هذا هو سبب التردد في استخدام القوة وانعدام العزيمة والتصميم في الدفع بالقوات البرية.
لجنة التحقيق ستضطر الى تفحص كيفية دخول الجيش الى هذه الحرب من دون اعداد بدائل لاستخدام القوة، ومن دون التخطيط لكيفية انهائها. فشل المستوى السياسي في تبني السياسة التي اقترحها الجيش من دون محاولة تفحص منطقها واحتمالات نجاحها، ومن دون تفحص البدائل لهذه السياسة. عملية اتخاذ القرارات التي قادت الى هذه الحرب كشفت مرة اخرى عن الخلل الخطير جدا في عملية رسم السياسات على مستوى الأمن القومي. منذ اقامة الدولة لم تُشكل أي حكومة هيئات استشارية مهنية قادرة على مساعدتها بصورة جدية في تدارس وتفحص اقتراحات الجيش وخططه. في هذه المرة، مثل كل المرات السابقة، كان الجيش وليس الحكومة هو الذي حدد ما ستفعله “إسرائيل” في لبنان. مجلس الأمن القومي الذي يعتبر هذا دوره المنوط به لم يُطالب بتمحيص خطط الجيش وآثارها واقتراح البدائل.
الغطرسة والثقة الذاتية المفرطة التي ميزت قيادة الجيش تسببت في اهمال تحصين الجبهة الداخلية. ذلك لأنه اذا كان من الواضح أن سلاح الجو سيقضي على القواعد الصاروخية خلال عدة ايام فلماذا يُطلب من سكان المنطقة الشمالية اعداد الملاجىء والتزود بالمؤن. النتيجة معروفة. أكثر من مليون مواطن قبعوا في الملاجىء لأكثر من شهر باحثين عن الطعام من دون ظروف حياتية ملائمة.
وبطبيعة الحال الاستخبارات ايضا. المفاجآت تتالت مرة اخرى ومعها الاخفاقات، التي يعود بعضها لتبني النظرية الخاطئة بصدد قوة وقدرات حزب الله. نجاح حزب الله في مفاجأة دورية للجيش “الإسرائيلي” واختطاف اثنين من عناصرها، الأمر الذي أدى الى اندلاع هذه الحرب، نابع من فشل استخباري. مخابرات الجيش “الإسرائيلي” لم تُقدر بصورة صحيحة قدرات حزب الله القتالية، ولم تعرف بوجود أنفاق على مقربة من مواقع التنظيم، كما اخطأت في جمع المعلومات حول استعدادية حزب الله وجاهزيتهم في بنت جبيل وغيرها المزيد المزيد من الاخفاقات الاستخبارية.
استخبارات سلاح الجو فشلت هي الاخرى عندما لم تعرف بوجود صواريخ ارض - جو الايرانية لدى حزب الله، والتقدير الاستخباري بصدد المحافظة على القدرة الصاروخية للحزب واستمراره. الاستخدام الناجح للصواريخ المضادة للدبابات على يد مقاتلي حزب الله كشف هو الآخر عن فشل استخباري يُذكر بدرجة كبيرة لما حدث في عام 1973.
الجيش “الإسرائيلي” قام بنصب بطاريات الباتريوت بصورة صاخبة ومدوية بجانب حيفا وصفد. التغطية الاعلامية الواسعة لنصب هذه المنظومة الدفاعية رمت الى طمأنة سكان الشمال. ولكن منذئذ لم نسمع حتى كلمة واحدة عن هذه المنظومة الدفاعية المدهشة. كل ما هو معروف أنه لم تجر محاولة واحدة حتى لاعتراض صواريخ حزب الله. لجنة التحقيق ستضطر ايضا الى التحقق من قرارات الجيش في مجال الوقاية من الصواريخ الهجومية. مليارات الدولارات صُرفت على المنظومة المضادة للصواريخ، إلا أنها لم تتجسد في ساعة الاختبار. كما يتوجب التحقيق في قرار الجيش للتوقف عن تطوير مشروع “النيوتيلوس”، المنظومة الدفاعية القائمة على استخدام الليزر ضد الكاتيوشا.
الدولة تخصص 11 مليار دولار في كل سنة لميزانية الدفاع 15 في المائة تقريبا من المنتوج القومي الخام مخصصة للأمن. ومع ذلك، عندما يستدعون جنود الاحتياط يتبين أنهم يفتقدون للعتاد الأساسي: الخوذات، والسيارات وحتى النقالات. وحدات كاملة اضطرت للقتال أكثر من يوم من دون طعام وماء. الى أين ذهب كل هذا المال؟ هذا موضوع يجب أن تتناوله لجنة التحقيق.
يبدو أن ذروة الوقاحة هي تلميحات ضباط كبار في أن النقص في العتاد للجنود الذين أُرسلوا الى لبنان نابع من تقليص الميزانية الأمنية. ربما تعتبر هذه فرصة للقضاء على الذريعة المتواصلة التي تذرع بها الجيش وهي تقليص الميزانية. هذه الميزانية لم تتقلص في العقد الأخير، بل ازدادت، و”إسرائيل” تخصص للميزانية الدفاعية من مجموع مواردها أكثر من أي دولة ديمقراطية اخرى في العالم (15 ضِعفاً بالمقارنة مع اليابان وثلاثة أضعاف بالمقارنة مع امريكا). هذه مسألة يتوجب التحقق من مصداقيتها ومبرراتها.
حرب يوم الغفران “أكتوبر/تشرين الأول 73” محفورة في الذاكرة كحدث انعطافي استنهاضي، حيث تصدعت بسببه ثقة الجمهور بالجيش. مرت سنوات غير قليلة الى أن استعاد الجيش هذه الثقة. ما زال من المبكر أن نُقدر اذا كانت حرب لبنان الثانية ستُستذكر كخط انكسار سيصحو الجمهور من بعده من وهم قوة الجيش الإسرائيلي غير المحدودة.
تحياتي
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
في “هآرتس” وتحت عنوان “الضربة القاضية التي تلقيناها”، كتب رؤوبين بدهتسور مقالاً، جاء فيه:
فشل الولايات المتحدة في حرب لبنان بدأ يتضح عندما تبنى الجنرال فستمورلاند، قائد القوات الامريكية في فيتنام، نهج “احصاء الجثث”، كبديل للانتصارات العسكرية. عندما لم يكن بإمكانه الاشارة الى انجازات في ارض المعركة، قام هذا القائد بإرسال عدد جثث جنود الفيتكونغ الذين قتلهم جنوده يوميا الى واشنطن. في الاسابيع الأخيرة تبنى الجيش “الإسرائيلي”، كما تبين لنا، نهجه هذا. عندما يقوم الجيش الأكبر والأقوى في الهندسة الصناعية الاوسط بخوض منازلة طوال أكثر من اسبوعين مع 50 مقاتلا من حزب الله في بنت جبيل ولا ينجح في اخضاعهم، لا يتبقى أمام قادته إلا الاشارة الى عدد جثث مقاتلي العدو. بنت جبيل، كما يجب الافتراض، ستتحول الى رمز لحرب لبنان الثانية. ستكون هذه المعركة في تراث وتقاليد مقاتلي حزب الله مثل ستالينغراد لبنانية. أما بالنسبة لنا فستكون تذكارا مؤلما لفشل الجيش “الإسرائيلي” في الحرب.
زئيف شيف (“هآرتس”، 11/8) قال إننا “تلقينا صفعة”. يبدو أن المصطلح الأكثر ملاءمة هو “ضربة قاضية”. نحن لسنا أمام فشل عسكري فقط. هذا فشل استراتيجي لم تتضح بعد تبعاته واسقاطاته السلبية بعيدة المدى. ومثل الملاكم بعد أن يتلقى الصدمة، نحن ما زلنا جاثمين على الارض في شبه إغماء محاولين فهم ما حدث لنا. مثلما أفضت حرب الايام الستة الى تغير استراتيجي في الهندسة الصناعية الاوسط وتكريس مكانة دولة “إسرائيل” كدولة اقليمية عظمى، قد تؤدي حرب لبنان الثانية الى عملية معاكسة. فشل الجيش “الإسرائيلي” في القتال يقضم ثروتنا الأهم بالنسبة للأمن القومي - صورة الدولة القوية الجبارة التي تمتلك جيشا ضخما وقويا ومتطورا قادرا على ضرب أعدائنا وتوجيه ضربات ساحقة لهم إن تجرأوا فقط على التحرش بها. هذه الحرب، كما اتضح بسرعة كبيرة جدا، كانت حربا على “الوعي” و”الردع”. وقد فشلنا في الحالتين.
النظرية الجاهزة فشلت مرة اخرى ليست هناك أهمية بالمرة بالنسبة لقوة الجيش “الإسرائيلي” الحقيقية، كما أنه لا توجد أي أهمية للقول إن الجيش “الإسرائيلي” قد استخدم نسبة صغيرة فقط من قوته، وأن لديه اسلحة متطورة في ترسانته. الأمر المهم فعلا هو صورة الجيش “الإسرائيلي” ومعه صورة “إسرائيل” في نظر العدو الذي نقاتله وفي نظر الخصوم الآخرين في المنطقة.
وهنا يكمن الخطر الأفدح الذي تسببت به هذه الحرب. في دمشق وغزة وطهران، وفي القاهرة ايضا، ينظرون باستغراب للجيش “الإسرائيلي” الذي لا ينجح في إخضاع تنظيم عصابات صغير (1500 مقاتل حسب رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية وبضعة آلاف حسب مصادر اخرى) طوال أكثر من شهر، ويفشل مع دفع ثمن فادح في اغلبية المعارك التي يبادر اليها في جنوب لبنان، والأدهى من كل ذلك - أنه لا ينجح في شل قدرة حزب الله على اطلاق الصواريخ، الأمر الذي يُجبر أكثر من مليون مواطن “إسرائيلي” على ملازمة الملاجىء لأكثر من اربعة اسابيع. ما الذي حدث لهذا الجيش العملاق الذي لم ينجح بعد شهر من التقدم أكثر من بضعة كيلومترات في الاراضي اللبنانية - يتساءل الكثيرون من اولئك الذين يخططون للحروب القادمة ضد “إسرائيل”.
نجاح الردع “الإسرائيلي” كان مرتكزا على اعتراف العدو بأنه سيدفع ثمنا باهظا جدا اذا مس ب”إسرائيل”. هذا الأمر حال على سبيل المثال حتى اليوم، وخلال الحروب، دون اطلاق مئات الصواريخ السورية على العمق “الإسرائيلي”، حيث كان هناك خوف من توجيه “إسرائيل” لضربات قاسية لدمشق وغيرها من المدن السورية المركزية. ولكن عندما تُطلق أكثر من 3 آلاف صاروخ على الجليل وحيفا والخضيرة من دون أن تتمكن “إسرائيل” من جني الثمن من أي أحد، يتصدع الردع “الإسرائيلي” ويتضرر.
من المحتمل أن يظهر في دمشق في مناسبة قادمة من يقرر أن دفع العملية السياسية يستوجب اطلاق الصواريخ على تل ابيب، ذلك لأن “إسرائيل” لم تقم فقط بالرد الحقيقي على اطلاق الصواريخ من لبنان، وانما اضطرت ايضا الى الموافقة على تسوية أممية تُبقي على الترسانة الصاروخية بيد حزب الله.
لجنة أغرانت منحت مصطلح “النظرية” مغزى سلبيا في السياق الاستخباري. لجنة التحقيق التي ستتشكل كما نأمل، بعد هذه الحرب، سرعان ما ستكتشف أن الجيش “الإسرائيلي” وصانعي السياسة من خلفه قد أُصيبوا بسرعة كبيرة بداء النظرية الخاطئة في مسألتين. أولا، خلال السنوات الست الأخيرة تكرس الاعتقاد بأنه لن تكون هناك حاجة لمقاتلة حزب الله على نطاق واسع. اذا حدثت عمليات عسكرية في جنوب لبنان فستكون قصيرة ومحدودة حسب اعتقادهم. ثانيا، واذا ظهرت الحاجة لشن الحرب على حزب الله رغم ذلك، فإن الجيش “الإسرائيلي” سينجح في تحطيم هذا التنظيم خلال ايام معدودات، وتفكيك قيادته وانهاء الحرب بشروط مريحة ل”إسرائيل”.
وهكذا دخلنا الى الحرب. الجيش ترك رئيس الوزراء والحكومة يعتقدون أن سلاح الجو سينجح في تصفية قدرات حزب الله القتالية خلال ايام معدودات، ومن ثم سيسود وضع جديد في لبنان. على أساس هذه الوعود حدد اولمرت أهداف الحرب الطموحة والتي لم تكن قابلة للتحقق بطبيعة الحال.
مثلما حدث قبل حرب الغفران “حرب أكتوبر 73”، كان هناك مزيج هدام من العجرفة والغرور والغطرسة والاستخفاف بالخصم. الجنرالات كانوا واثقين جدا من نجاح سلاح الجو لدرجة أنهم لم يُعدوا أي بديل في حالة الفشل في تحقيق الأهداف. وعندما اتضح بعد اسبوع أن حزب الله لا ينهار، وأن صواريخه لم تتضرر بصورة ملموسة، علق الجيش “الإسرائيلي” في ضائقة حقيقية وحالة من الإرباك. هذا هو سبب التردد في استخدام القوة وانعدام العزيمة والتصميم في الدفع بالقوات البرية.
لجنة التحقيق ستضطر الى تفحص كيفية دخول الجيش الى هذه الحرب من دون اعداد بدائل لاستخدام القوة، ومن دون التخطيط لكيفية انهائها. فشل المستوى السياسي في تبني السياسة التي اقترحها الجيش من دون محاولة تفحص منطقها واحتمالات نجاحها، ومن دون تفحص البدائل لهذه السياسة. عملية اتخاذ القرارات التي قادت الى هذه الحرب كشفت مرة اخرى عن الخلل الخطير جدا في عملية رسم السياسات على مستوى الأمن القومي. منذ اقامة الدولة لم تُشكل أي حكومة هيئات استشارية مهنية قادرة على مساعدتها بصورة جدية في تدارس وتفحص اقتراحات الجيش وخططه. في هذه المرة، مثل كل المرات السابقة، كان الجيش وليس الحكومة هو الذي حدد ما ستفعله “إسرائيل” في لبنان. مجلس الأمن القومي الذي يعتبر هذا دوره المنوط به لم يُطالب بتمحيص خطط الجيش وآثارها واقتراح البدائل.
الغطرسة والثقة الذاتية المفرطة التي ميزت قيادة الجيش تسببت في اهمال تحصين الجبهة الداخلية. ذلك لأنه اذا كان من الواضح أن سلاح الجو سيقضي على القواعد الصاروخية خلال عدة ايام فلماذا يُطلب من سكان المنطقة الشمالية اعداد الملاجىء والتزود بالمؤن. النتيجة معروفة. أكثر من مليون مواطن قبعوا في الملاجىء لأكثر من شهر باحثين عن الطعام من دون ظروف حياتية ملائمة.
وبطبيعة الحال الاستخبارات ايضا. المفاجآت تتالت مرة اخرى ومعها الاخفاقات، التي يعود بعضها لتبني النظرية الخاطئة بصدد قوة وقدرات حزب الله. نجاح حزب الله في مفاجأة دورية للجيش “الإسرائيلي” واختطاف اثنين من عناصرها، الأمر الذي أدى الى اندلاع هذه الحرب، نابع من فشل استخباري. مخابرات الجيش “الإسرائيلي” لم تُقدر بصورة صحيحة قدرات حزب الله القتالية، ولم تعرف بوجود أنفاق على مقربة من مواقع التنظيم، كما اخطأت في جمع المعلومات حول استعدادية حزب الله وجاهزيتهم في بنت جبيل وغيرها المزيد المزيد من الاخفاقات الاستخبارية.
استخبارات سلاح الجو فشلت هي الاخرى عندما لم تعرف بوجود صواريخ ارض - جو الايرانية لدى حزب الله، والتقدير الاستخباري بصدد المحافظة على القدرة الصاروخية للحزب واستمراره. الاستخدام الناجح للصواريخ المضادة للدبابات على يد مقاتلي حزب الله كشف هو الآخر عن فشل استخباري يُذكر بدرجة كبيرة لما حدث في عام 1973.
الجيش “الإسرائيلي” قام بنصب بطاريات الباتريوت بصورة صاخبة ومدوية بجانب حيفا وصفد. التغطية الاعلامية الواسعة لنصب هذه المنظومة الدفاعية رمت الى طمأنة سكان الشمال. ولكن منذئذ لم نسمع حتى كلمة واحدة عن هذه المنظومة الدفاعية المدهشة. كل ما هو معروف أنه لم تجر محاولة واحدة حتى لاعتراض صواريخ حزب الله. لجنة التحقيق ستضطر ايضا الى التحقق من قرارات الجيش في مجال الوقاية من الصواريخ الهجومية. مليارات الدولارات صُرفت على المنظومة المضادة للصواريخ، إلا أنها لم تتجسد في ساعة الاختبار. كما يتوجب التحقيق في قرار الجيش للتوقف عن تطوير مشروع “النيوتيلوس”، المنظومة الدفاعية القائمة على استخدام الليزر ضد الكاتيوشا.
الدولة تخصص 11 مليار دولار في كل سنة لميزانية الدفاع 15 في المائة تقريبا من المنتوج القومي الخام مخصصة للأمن. ومع ذلك، عندما يستدعون جنود الاحتياط يتبين أنهم يفتقدون للعتاد الأساسي: الخوذات، والسيارات وحتى النقالات. وحدات كاملة اضطرت للقتال أكثر من يوم من دون طعام وماء. الى أين ذهب كل هذا المال؟ هذا موضوع يجب أن تتناوله لجنة التحقيق.
يبدو أن ذروة الوقاحة هي تلميحات ضباط كبار في أن النقص في العتاد للجنود الذين أُرسلوا الى لبنان نابع من تقليص الميزانية الأمنية. ربما تعتبر هذه فرصة للقضاء على الذريعة المتواصلة التي تذرع بها الجيش وهي تقليص الميزانية. هذه الميزانية لم تتقلص في العقد الأخير، بل ازدادت، و”إسرائيل” تخصص للميزانية الدفاعية من مجموع مواردها أكثر من أي دولة ديمقراطية اخرى في العالم (15 ضِعفاً بالمقارنة مع اليابان وثلاثة أضعاف بالمقارنة مع امريكا). هذه مسألة يتوجب التحقق من مصداقيتها ومبرراتها.
حرب يوم الغفران “أكتوبر/تشرين الأول 73” محفورة في الذاكرة كحدث انعطافي استنهاضي، حيث تصدعت بسببه ثقة الجمهور بالجيش. مرت سنوات غير قليلة الى أن استعاد الجيش هذه الثقة. ما زال من المبكر أن نُقدر اذا كانت حرب لبنان الثانية ستُستذكر كخط انكسار سيصحو الجمهور من بعده من وهم قوة الجيش الإسرائيلي غير المحدودة.
تحياتي
تعليق