[frame="1 80"]رمضان: صياغة الواقع النفسي للإنسان
لسماحة الشيخ جعفر النمر - الدمام
لم يتبقى إلا أيام معدودات على انقضاء شهر شعبان المبارك، ودخول شهر رمضان الشريف المبارك الكريم. وفي رحاب هذا الشهر المبارك، ومن المناسب أن نتطرق لبعض المطالب التي تتعلق بهذا الشهر:
المطلب الأول: نظرية التكامل:
هناك بعدين يؤكد عليهما القران الكريم في مواضع مختلفة وبالسنة متعددة. هناك الدنيا، وهناك بعد الآخرة. هناك بعد الشهادة، وهناك بعد الغيب. هناك بعد يأكل في الطعام ويمشى في الأسواق، وهناك بعد نفخت فيه من روحي. كل هذه الأبعاد يمكن تقسيمها جميعا إلى قسمين:
- الدنيا والشهادة، والبعد المادي في الإنسان.
- الآخرة والغيب والروح وعالم الأمر.
هذا التقسيم الذي كرره وأكد عليه القران الكريم كان الغرض منه بناء نظرية متكاملة؟ ِلم يحتاج إليه الإنسان في هذا العالم؟ حتى يصل إلى غايته وهدفه. وعلى أساس هذا التقسيم جاء النظام العبادي في الإسلام ليكون إرضاءً لروح الإنسان ومتناسبا مع متطلبات جسمه وبدنه.
الذي يستخلص من التراث الإسلامي المبارك الكريم: هو أن الروح في هذا العالم، عالم الدنيا مثلها مثل المسافر. السفر كما ورد في الرواية:«قطعة من العذاب» . فكما أن الإنسان إذا بذل جهدا شاقا يحس بالتعب والإرهاق والإنهاك. كذلك الروح تحس بالتعب والإرهاق والإنهاك إذا ابتعدت بشكل كامل عن عالمها، ولم يكن هناك ما يربطها ويشدها بهذا العالم.
فالروح تحتاج كالبدن إلى استراحة، وقد ورد في النصوص ما يؤكد هذا المعنى. النبي (ص) كان يقول: «أرحنا بالصلاة يا بلال». هذه الراحة هي الراحة التي يحسها رسول الله بروحه، التي كانت تتطلبها روحه المباركة .
غذاء الروح:
ورد في التراث في الرواية المباركة في تفسير قوله تعالى: ﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ﴾ ( عبس، آية 24). أن المراد بالطعام هاهنا: العلم. أي فلينظر إلى علمه ممن يأخذه. العلم منزلته بالنسبة إلى الروح، منزلة الطعام المادي بالنسبة إلى البدن. فكما أن البدن يحتاج إلى الطعام المادي لئلا يتهالك، كذلك الروح تحتاج إلى طعام وغذاء. لكن غذاؤها العلم والمعرفة والارتباط بالله سبحانه وتعالى، الذي هو عين الاعتقاد به سبحانه وتعالى.
إذا العبادة التي أكد عليها الدين الشريف، والشرع المبارك تصب في اتجاه تغذية الإنسان. وقد أشار العلماء في مواضع متعددة من أبحاثهم إلى المناسبات التي تتواجد في العبادات بالنسبة إلى الاجتماع. وهو البعد المادي في حياة الإنسان، وإلى الأبعاد التي تتناسب مع الروح، وهو البعد الآخر في وجود هذا الإنسان. الله عز وجل يقول: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ (البقرة، آية 185).
إشارة الآية المباركة إلى أن هذا الشهر هو الفرصة التي تفتح فيها نوافذ الغيب لهذا الإنسان في هذا العالم. تتنزل فيها البركات على الإنسان في هذا العالم. يرتبط الإنسان فيها بربه ارتباطا مباشرا حيث يكون الإنسان معدا للارتباط القرآني. ويكون هذا الإنسان مُشرفاً لان يخاطبه الله سبحانه وتعالى بهذا الخطاب القرآني الذي لا يعادله خطاب آخر. كل هذه الخيرات، وهذه البركات تستتبع طبعا بركات مادية عظيمة جدا. من جملة هذه البركات أن أصبحت الأمة الإسلامية أمة تناطح سائر الأمم الأخرى من تعاظمها، ومن استيلائها على خيراتها وبركاتها واستغلالها. كل هذه البركات المادية على ضالتها قليلة، لان القران الكريم يقول: ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ ﴾ ( النساء، آية 77). هذه البركات على عظمتها في أعين الناس من بركات القران الكريم.
الإنسان إذا بلغ مرتبة الإنسانية الكاملة لم يقف أمامه شيء ولم يستطع أن يعوق مسيرته شيء، ولم يمكن أن يكون هناك كنز من الكنوز لا يستطيع الإنسان الكامل أن يضع يده عليه ويوظفه في اتجاه استجلاب الذي خلقه الله عز وجل له. لذلك وجدنا أن النبي (ص) يتيما لا أب له، فقيرا لا مال له، ضعيفا في قومه. الله عز وجل بسط له في الملك، حتى قال أبو سفيان للعباس لما دخل النبي (ص) مكة المكرمة: «أن ملك ابن أخيك لعظيم». هذا بسبب القران الكريم. لم يكن عند النبي (ص) شيء إلا انه اعتز بالله سبحانه وتعالى. الصوم هو إحدى هذه العبادات التي إذا أحسن الإنسان التعامل معها بلغ مراحل عظيمة.
المطلب الثاني: التعامل مع الله سبحانه:
درجت الأمة، ودأبت على الاحتفال بشهر رمضان المبارك، ويناسب أن نسأل أنفسنا: لِم يكاد أن يكون شهر رمضان عيدا عند المسلمين؟ الصلاة عبادة جليلة، الزكاة عبادة جليلة. ما الذي خصص شهر رمضان أن يتخذ فيه مظاهر الفرح ويحتفل به في جميع الأقطار حتى أصبح لقدوم شهر رمضان تقاليد وأعراف تختلف من بلد إلى آخر. كل هذه التقاليد يجمعها جامع مشترك وهو الفرح بدخول شهر رمضان. ما هو السر؟
الجواب: السر في ذلك أن شهر رمضان من عظيم بركاته أن يكون مقبلا بانبساط نفس الإنسان المؤمن وإقباله على الله عز وجل. مما يعبر عنه في اللغة الدارجة بالارتياح النفسي. هذا الارتياح سره أن شهر رمضان يعيد صياغة الواقع النفسي للإنسان المؤمن مع ربه. ويعبر عنه في كثير من التعبيرات الروحية بالسلام مع النفس. الإنسان المؤمن وان لم يستطع أن يصل إلى النقطة المحددة في هذا الترتيب، لكن في الواقع هو يحس بسلام مع العالم، مع ربه، مع نفسه. يحس بالارتياح ونحن نعبر عن ذلك بان شهر رمضان قد اقبل وهو شهر المغفرة. إذا أنت تتعامل في هذا الشهر مع الله سبحانه وتعالى. هذه النظرة التي يحملها الإنسان المؤمن والإنسان المسلم هي أساس الفرح بدخول شهر رمضان المبارك.
تغير بعض المفاهيم:
كل حقيقة تمر عليها الأيام تقابلها بعض الشوائب. الفرح الذي كان يظهر على الإنسان المسلم عند دخول شهر رمضان المبارك أصبح شيئا فشيئا يكتسب مظاهر مادية. من قبيل لم الشمل، والإيلام للناس، تظافر صيغ المباركة والتبريك. هذه المظاهر أصبحت شيئا فشيئا تطغى على الإنسان المؤمن عند دخول شهر رمضان المبارك على حساب المظاهر الروحية. وهذا الطغيان، وهذه المبالغة في هذا الجانب كانت تتناسب مع الوضع المادي للمسلمين الذي كان يتجه نحو الانحدار.
لذلك كتب التاريخ تنقل لنا إن أعظم مظاهر الفرح بدخول شهر رمضان في مصر كانت تشهدها العصور المملوكية. عصر المملوكيين كانت عصور الانحطاط في مصر. أصبح للمظاهر المادية طغيان على المظاهر الروحية، لان الجانب الروحي في المجتمع الإسلامي كان يشهد انحطاطا. وكان من الطبيعي أن يتعاظم الجانب المادي على الجانب الروحي في المجتمعات الإسلامية. حتى أصبح دخول شهر رمضان المبارك في أيامنا هذه عبارة عن بداية موسم اللهو، والذي يتناقض قلبا وقالبا، مضمونا وشكلا مع الطرح الإسلامي لشهر رمضان.
أصبح شهر رمضان شهر الأفلام، شهر المسلسلات، شهر المجون، شهر الارتباط بالدنيا بأشكالها المختلفة. وهذا يتناقض مع مضمون العبادة التي طرحها الإسلام في هذا الشهر المبارك. هذه سواء كانت خطة مدروسة في قبل الأعداء، أو كانت اتجاها ماديا طبيعيا غريزيا في الإنسان. على كل حال هذه السنة تتناقض مع روح شهر رمضان، ومع مضمون الصوم في شهر رمضان، ومع غاية الإنسان التي خلقها الله عز وجل لها. وهذه النقطة ترتبط بالنقطة التي ذكرتها، وهي أن الصوم إنما شرع ليكون قناة لترقي الإنسان من انحطاط عالم الدنيا إلى أوج عالم الآخرة، من تساقط العالم المادي إلى حقائق عالم الروح، من الانغماس في عالم الخلق إلى الارتباط بالله سبحانه وتعالى. هذه غاية العبادة، وغاية الإنسان التي يقررها الله عز وجل في كتابه الكريم للإنسان في هذا العالم.
المطلب الثالث:الورع عن محارم الله:
أهم ما يراد من الإنسان في الشهر المبارك: الورع عن محارم الله. من الطبيعي أن كل شيء معلوم يحتاج إلى إيجاد العلة، وإيجاد المقتضي، ورفع المانع، وتحقيق الشرط. كثير من الناس يجتهد في العبادة حتى يحظى بالمغفرة والرحمة. وقد ورد في الرواية: «من انسلخ عنه شهر رمضان ولم يغفر له فلا غفر الله له». هذه دعوة نبي الرحمة (ص) ، وهي كناية على انه لا يستحق الرحمة. الذي ينسلخ عنه شهر رمضان ولم يغفر له فهو غير مستحق للرحمة الواسعة. وقد ورد في الخطبة النبوية الكريمة إن الأغلال مرفوعة عن الإنسان، وان الأغلال موضوعة على الشيطان. فلا تفتحوا أبواب الشيطان. وان أبواب الجنة مفتحة فلا تغلقوها، وان الرحمة تتنزل في هذا الشهر المبارك فعلينا أن نتعرض لها.
إذا عدم وصول الإنسان إلى مسألة الرحمة ناشئ من عدم استحقاقه هو للرحمة الإلهية الواسعة. هذا يعني أن الإنسان عليه أن يبحث عما يمنع وصول الرحمة ليرفعه عن طريقه. الذي يمنع من وصول الرحمة إلى الإنسان هو محارم الله سبحانه وتعالى، التي لا يريد من أحد أن يتجاوزها، أو أن يصل إليها، أو أن يباشرها.
الورع عن محارم الله أفضل الأعمال في هذا الشهر المبارك.
ما هي محارم الله؟
الجواب: محارم الله هي عبارة عن المحرمات التي حرم الله على الإنسان أن يفعلها في هذا الشهر وفي غيره، ولكن عظمة شهر رمضان توجب على الإنسان أن يراقب نفسه أكثر فأكثر لئلا يقع في هذه المحارم. من هذه المحارم: قطع الرحم، ومنها حجب الحقوق، ومنها التقصير في العبادة، ومن هذه المحارم الاستخفاف بالصلاة، ومن هذه المحارم الاستخفاف بالتوبة. بمعنى أن الإنسان يدخل عليه شهر رمضان ويخرج عنه الشهر وحاله في الجانب الروحي العبادي كما هو. لم يستطع أن يستفيد من شهر رمضان لا خلقا حسنا، ولا عبادة راتبة، ولا استطاع أن يكبل هذا اللسان لئلا يلج في أعراض الناس وفي حرماتهم. هذا استخفاف، وهذا الاستخفاف من اشد الحرمات.
ورد في الرواية الكريمة: «اتقوا المحقرات من الذنوب» ولما سؤل الأمام (ع) عن المحقرات من الذنوب، قال: إنها الذنوب التي يشتهي الإنسان أن لا تكون له غيرها. يقول إذا مت وليس عندي إلا هذا الذنب فأني ناجي إنشاء الله تعالى. هذا الفعل استخفاف بالذنب. الذنب مع الاستخفاف كبيرة. حيث يقولون الإصرار على الصغائر يجعل الصغائر كبائر. والتوبة مع الكبائر تجعل الكبائر صغائر. أي انه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
إلى متى يكون الإنسان سافرا في غيه، متجها نحو الغفلة عن الله عز وجل بحيث يشتهي أن تكون كل دنياه فسح، وكل دنياه لذائد، وكل دنياه معاملات مع الناس. وأين المعاملة مع الله سبحانه وتعالى؟ أيريد أن يتعامل مع الله عز وجل بالبيع والشراء في الأسواق! أم يريد أن يتعامل مع الله عز وجل بالكلام الذي لا فائدة فيه باللهو في الكلام!
ششهر رمضان وهو أهم الأشهر في السنة جاء بصيغة عجيبة من الله. ورد في الرواية:«كل أعمال ابن آدم له إلا الصوم فانه لي وأنا اجز (أو اجزي ) به » - على اختلاف القراءة في هذه الرواية -. لِم كان الصوم لله سبحانه وتعالى.الجواب: الصوم لله تعالى لأنه جاء بصفة الترك. جاء بصيغة الكف. الأعمال الثانية: الصلاة فعل، الجهاد فعل، الزكاة إعطاء، أما الصوم فانه إمساك. امسك هذه إشارة إلى أن الإنسان لو استطاع أن يجعل نفسه عبدا لله في ولاية الله لنجى ونجح. الإنسان يحتاج أن يتولاه الله سبحانه.
تهيئة المكان لهذا النازل:
تأملوا في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ (الأعراف، آية 196). هناك ارتباط بين ولاية الله تعالى وبين إنزال الكتاب وتنزيله. متى نزل الله الكتاب؟ الجواب: قوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ َبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ (البقرة، آية 185). كيف انزل فيه القران؟ الجواب: قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾( البقرة، آية 183). التقوى هي الأداة التي انزل الله بها القران. هذا القلب لا يحتمل أن يخاطبه الله عز وجل وهو ما زال مملوءً بالتعلق بأسباب الدنيا، والحرص، والمصالح، وغير ذلك من الصفات والرذائل. القلب يجب أن يكون مؤهلا لكي يحل فيه القران الكريم. فعلينا أن نؤهل هذا المنزل لهذا النازل.
شهر رمضان ربيع القران الكريم. الزمان الذي ينزل فيه القران الكريم، هو شهر رمضان. وسقاء شهر رمضان الصوم، وسقاء شهر رمضان الكف عن محارم الله سبحانه وتعالى.[/frame]
لسماحة الشيخ جعفر النمر - الدمام
لم يتبقى إلا أيام معدودات على انقضاء شهر شعبان المبارك، ودخول شهر رمضان الشريف المبارك الكريم. وفي رحاب هذا الشهر المبارك، ومن المناسب أن نتطرق لبعض المطالب التي تتعلق بهذا الشهر:
المطلب الأول: نظرية التكامل:
هناك بعدين يؤكد عليهما القران الكريم في مواضع مختلفة وبالسنة متعددة. هناك الدنيا، وهناك بعد الآخرة. هناك بعد الشهادة، وهناك بعد الغيب. هناك بعد يأكل في الطعام ويمشى في الأسواق، وهناك بعد نفخت فيه من روحي. كل هذه الأبعاد يمكن تقسيمها جميعا إلى قسمين:
- الدنيا والشهادة، والبعد المادي في الإنسان.
- الآخرة والغيب والروح وعالم الأمر.
هذا التقسيم الذي كرره وأكد عليه القران الكريم كان الغرض منه بناء نظرية متكاملة؟ ِلم يحتاج إليه الإنسان في هذا العالم؟ حتى يصل إلى غايته وهدفه. وعلى أساس هذا التقسيم جاء النظام العبادي في الإسلام ليكون إرضاءً لروح الإنسان ومتناسبا مع متطلبات جسمه وبدنه.
الذي يستخلص من التراث الإسلامي المبارك الكريم: هو أن الروح في هذا العالم، عالم الدنيا مثلها مثل المسافر. السفر كما ورد في الرواية:«قطعة من العذاب» . فكما أن الإنسان إذا بذل جهدا شاقا يحس بالتعب والإرهاق والإنهاك. كذلك الروح تحس بالتعب والإرهاق والإنهاك إذا ابتعدت بشكل كامل عن عالمها، ولم يكن هناك ما يربطها ويشدها بهذا العالم.
فالروح تحتاج كالبدن إلى استراحة، وقد ورد في النصوص ما يؤكد هذا المعنى. النبي (ص) كان يقول: «أرحنا بالصلاة يا بلال». هذه الراحة هي الراحة التي يحسها رسول الله بروحه، التي كانت تتطلبها روحه المباركة .
غذاء الروح:
ورد في التراث في الرواية المباركة في تفسير قوله تعالى: ﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ﴾ ( عبس، آية 24). أن المراد بالطعام هاهنا: العلم. أي فلينظر إلى علمه ممن يأخذه. العلم منزلته بالنسبة إلى الروح، منزلة الطعام المادي بالنسبة إلى البدن. فكما أن البدن يحتاج إلى الطعام المادي لئلا يتهالك، كذلك الروح تحتاج إلى طعام وغذاء. لكن غذاؤها العلم والمعرفة والارتباط بالله سبحانه وتعالى، الذي هو عين الاعتقاد به سبحانه وتعالى.
إذا العبادة التي أكد عليها الدين الشريف، والشرع المبارك تصب في اتجاه تغذية الإنسان. وقد أشار العلماء في مواضع متعددة من أبحاثهم إلى المناسبات التي تتواجد في العبادات بالنسبة إلى الاجتماع. وهو البعد المادي في حياة الإنسان، وإلى الأبعاد التي تتناسب مع الروح، وهو البعد الآخر في وجود هذا الإنسان. الله عز وجل يقول: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ (البقرة، آية 185).
إشارة الآية المباركة إلى أن هذا الشهر هو الفرصة التي تفتح فيها نوافذ الغيب لهذا الإنسان في هذا العالم. تتنزل فيها البركات على الإنسان في هذا العالم. يرتبط الإنسان فيها بربه ارتباطا مباشرا حيث يكون الإنسان معدا للارتباط القرآني. ويكون هذا الإنسان مُشرفاً لان يخاطبه الله سبحانه وتعالى بهذا الخطاب القرآني الذي لا يعادله خطاب آخر. كل هذه الخيرات، وهذه البركات تستتبع طبعا بركات مادية عظيمة جدا. من جملة هذه البركات أن أصبحت الأمة الإسلامية أمة تناطح سائر الأمم الأخرى من تعاظمها، ومن استيلائها على خيراتها وبركاتها واستغلالها. كل هذه البركات المادية على ضالتها قليلة، لان القران الكريم يقول: ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ ﴾ ( النساء، آية 77). هذه البركات على عظمتها في أعين الناس من بركات القران الكريم.
الإنسان إذا بلغ مرتبة الإنسانية الكاملة لم يقف أمامه شيء ولم يستطع أن يعوق مسيرته شيء، ولم يمكن أن يكون هناك كنز من الكنوز لا يستطيع الإنسان الكامل أن يضع يده عليه ويوظفه في اتجاه استجلاب الذي خلقه الله عز وجل له. لذلك وجدنا أن النبي (ص) يتيما لا أب له، فقيرا لا مال له، ضعيفا في قومه. الله عز وجل بسط له في الملك، حتى قال أبو سفيان للعباس لما دخل النبي (ص) مكة المكرمة: «أن ملك ابن أخيك لعظيم». هذا بسبب القران الكريم. لم يكن عند النبي (ص) شيء إلا انه اعتز بالله سبحانه وتعالى. الصوم هو إحدى هذه العبادات التي إذا أحسن الإنسان التعامل معها بلغ مراحل عظيمة.
المطلب الثاني: التعامل مع الله سبحانه:
درجت الأمة، ودأبت على الاحتفال بشهر رمضان المبارك، ويناسب أن نسأل أنفسنا: لِم يكاد أن يكون شهر رمضان عيدا عند المسلمين؟ الصلاة عبادة جليلة، الزكاة عبادة جليلة. ما الذي خصص شهر رمضان أن يتخذ فيه مظاهر الفرح ويحتفل به في جميع الأقطار حتى أصبح لقدوم شهر رمضان تقاليد وأعراف تختلف من بلد إلى آخر. كل هذه التقاليد يجمعها جامع مشترك وهو الفرح بدخول شهر رمضان. ما هو السر؟
الجواب: السر في ذلك أن شهر رمضان من عظيم بركاته أن يكون مقبلا بانبساط نفس الإنسان المؤمن وإقباله على الله عز وجل. مما يعبر عنه في اللغة الدارجة بالارتياح النفسي. هذا الارتياح سره أن شهر رمضان يعيد صياغة الواقع النفسي للإنسان المؤمن مع ربه. ويعبر عنه في كثير من التعبيرات الروحية بالسلام مع النفس. الإنسان المؤمن وان لم يستطع أن يصل إلى النقطة المحددة في هذا الترتيب، لكن في الواقع هو يحس بسلام مع العالم، مع ربه، مع نفسه. يحس بالارتياح ونحن نعبر عن ذلك بان شهر رمضان قد اقبل وهو شهر المغفرة. إذا أنت تتعامل في هذا الشهر مع الله سبحانه وتعالى. هذه النظرة التي يحملها الإنسان المؤمن والإنسان المسلم هي أساس الفرح بدخول شهر رمضان المبارك.
تغير بعض المفاهيم:
كل حقيقة تمر عليها الأيام تقابلها بعض الشوائب. الفرح الذي كان يظهر على الإنسان المسلم عند دخول شهر رمضان المبارك أصبح شيئا فشيئا يكتسب مظاهر مادية. من قبيل لم الشمل، والإيلام للناس، تظافر صيغ المباركة والتبريك. هذه المظاهر أصبحت شيئا فشيئا تطغى على الإنسان المؤمن عند دخول شهر رمضان المبارك على حساب المظاهر الروحية. وهذا الطغيان، وهذه المبالغة في هذا الجانب كانت تتناسب مع الوضع المادي للمسلمين الذي كان يتجه نحو الانحدار.
لذلك كتب التاريخ تنقل لنا إن أعظم مظاهر الفرح بدخول شهر رمضان في مصر كانت تشهدها العصور المملوكية. عصر المملوكيين كانت عصور الانحطاط في مصر. أصبح للمظاهر المادية طغيان على المظاهر الروحية، لان الجانب الروحي في المجتمع الإسلامي كان يشهد انحطاطا. وكان من الطبيعي أن يتعاظم الجانب المادي على الجانب الروحي في المجتمعات الإسلامية. حتى أصبح دخول شهر رمضان المبارك في أيامنا هذه عبارة عن بداية موسم اللهو، والذي يتناقض قلبا وقالبا، مضمونا وشكلا مع الطرح الإسلامي لشهر رمضان.
أصبح شهر رمضان شهر الأفلام، شهر المسلسلات، شهر المجون، شهر الارتباط بالدنيا بأشكالها المختلفة. وهذا يتناقض مع مضمون العبادة التي طرحها الإسلام في هذا الشهر المبارك. هذه سواء كانت خطة مدروسة في قبل الأعداء، أو كانت اتجاها ماديا طبيعيا غريزيا في الإنسان. على كل حال هذه السنة تتناقض مع روح شهر رمضان، ومع مضمون الصوم في شهر رمضان، ومع غاية الإنسان التي خلقها الله عز وجل لها. وهذه النقطة ترتبط بالنقطة التي ذكرتها، وهي أن الصوم إنما شرع ليكون قناة لترقي الإنسان من انحطاط عالم الدنيا إلى أوج عالم الآخرة، من تساقط العالم المادي إلى حقائق عالم الروح، من الانغماس في عالم الخلق إلى الارتباط بالله سبحانه وتعالى. هذه غاية العبادة، وغاية الإنسان التي يقررها الله عز وجل في كتابه الكريم للإنسان في هذا العالم.
المطلب الثالث:الورع عن محارم الله:
أهم ما يراد من الإنسان في الشهر المبارك: الورع عن محارم الله. من الطبيعي أن كل شيء معلوم يحتاج إلى إيجاد العلة، وإيجاد المقتضي، ورفع المانع، وتحقيق الشرط. كثير من الناس يجتهد في العبادة حتى يحظى بالمغفرة والرحمة. وقد ورد في الرواية: «من انسلخ عنه شهر رمضان ولم يغفر له فلا غفر الله له». هذه دعوة نبي الرحمة (ص) ، وهي كناية على انه لا يستحق الرحمة. الذي ينسلخ عنه شهر رمضان ولم يغفر له فهو غير مستحق للرحمة الواسعة. وقد ورد في الخطبة النبوية الكريمة إن الأغلال مرفوعة عن الإنسان، وان الأغلال موضوعة على الشيطان. فلا تفتحوا أبواب الشيطان. وان أبواب الجنة مفتحة فلا تغلقوها، وان الرحمة تتنزل في هذا الشهر المبارك فعلينا أن نتعرض لها.
إذا عدم وصول الإنسان إلى مسألة الرحمة ناشئ من عدم استحقاقه هو للرحمة الإلهية الواسعة. هذا يعني أن الإنسان عليه أن يبحث عما يمنع وصول الرحمة ليرفعه عن طريقه. الذي يمنع من وصول الرحمة إلى الإنسان هو محارم الله سبحانه وتعالى، التي لا يريد من أحد أن يتجاوزها، أو أن يصل إليها، أو أن يباشرها.
الورع عن محارم الله أفضل الأعمال في هذا الشهر المبارك.
ما هي محارم الله؟
الجواب: محارم الله هي عبارة عن المحرمات التي حرم الله على الإنسان أن يفعلها في هذا الشهر وفي غيره، ولكن عظمة شهر رمضان توجب على الإنسان أن يراقب نفسه أكثر فأكثر لئلا يقع في هذه المحارم. من هذه المحارم: قطع الرحم، ومنها حجب الحقوق، ومنها التقصير في العبادة، ومن هذه المحارم الاستخفاف بالصلاة، ومن هذه المحارم الاستخفاف بالتوبة. بمعنى أن الإنسان يدخل عليه شهر رمضان ويخرج عنه الشهر وحاله في الجانب الروحي العبادي كما هو. لم يستطع أن يستفيد من شهر رمضان لا خلقا حسنا، ولا عبادة راتبة، ولا استطاع أن يكبل هذا اللسان لئلا يلج في أعراض الناس وفي حرماتهم. هذا استخفاف، وهذا الاستخفاف من اشد الحرمات.
ورد في الرواية الكريمة: «اتقوا المحقرات من الذنوب» ولما سؤل الأمام (ع) عن المحقرات من الذنوب، قال: إنها الذنوب التي يشتهي الإنسان أن لا تكون له غيرها. يقول إذا مت وليس عندي إلا هذا الذنب فأني ناجي إنشاء الله تعالى. هذا الفعل استخفاف بالذنب. الذنب مع الاستخفاف كبيرة. حيث يقولون الإصرار على الصغائر يجعل الصغائر كبائر. والتوبة مع الكبائر تجعل الكبائر صغائر. أي انه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
إلى متى يكون الإنسان سافرا في غيه، متجها نحو الغفلة عن الله عز وجل بحيث يشتهي أن تكون كل دنياه فسح، وكل دنياه لذائد، وكل دنياه معاملات مع الناس. وأين المعاملة مع الله سبحانه وتعالى؟ أيريد أن يتعامل مع الله عز وجل بالبيع والشراء في الأسواق! أم يريد أن يتعامل مع الله عز وجل بالكلام الذي لا فائدة فيه باللهو في الكلام!
ششهر رمضان وهو أهم الأشهر في السنة جاء بصيغة عجيبة من الله. ورد في الرواية:«كل أعمال ابن آدم له إلا الصوم فانه لي وأنا اجز (أو اجزي ) به » - على اختلاف القراءة في هذه الرواية -. لِم كان الصوم لله سبحانه وتعالى.الجواب: الصوم لله تعالى لأنه جاء بصفة الترك. جاء بصيغة الكف. الأعمال الثانية: الصلاة فعل، الجهاد فعل، الزكاة إعطاء، أما الصوم فانه إمساك. امسك هذه إشارة إلى أن الإنسان لو استطاع أن يجعل نفسه عبدا لله في ولاية الله لنجى ونجح. الإنسان يحتاج أن يتولاه الله سبحانه.
تهيئة المكان لهذا النازل:
تأملوا في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ (الأعراف، آية 196). هناك ارتباط بين ولاية الله تعالى وبين إنزال الكتاب وتنزيله. متى نزل الله الكتاب؟ الجواب: قوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ َبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ (البقرة، آية 185). كيف انزل فيه القران؟ الجواب: قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾( البقرة، آية 183). التقوى هي الأداة التي انزل الله بها القران. هذا القلب لا يحتمل أن يخاطبه الله عز وجل وهو ما زال مملوءً بالتعلق بأسباب الدنيا، والحرص، والمصالح، وغير ذلك من الصفات والرذائل. القلب يجب أن يكون مؤهلا لكي يحل فيه القران الكريم. فعلينا أن نؤهل هذا المنزل لهذا النازل.
شهر رمضان ربيع القران الكريم. الزمان الذي ينزل فيه القران الكريم، هو شهر رمضان. وسقاء شهر رمضان الصوم، وسقاء شهر رمضان الكف عن محارم الله سبحانه وتعالى.[/frame]
تعليق