قضية الشهداء وضحايا التعذيب.. عِبرة لمن يعتبر.. ومؤشر للاصلاح او التضليل
لجنة الشهداء وضحايا التعذيب التي عقدت دورتها الجديدة مؤخراً، تتحمّل وطنياً مسؤلية أخطر ملفات الاستبداد والقمع في تاريخ البحرين، وهي لذلك لن تكون بمنأى عن الصعوبات ومحاولات الإعاقة. الخطوة الصعبة في هذا الملف، هي البدء في تسوية حسابات الماضي، وهي خطوة تبدأ عملياً عبر لجان تقصي الحقائق، وعبور مرحلة القمع والاضطهاد من خلال التراضي بين الحكم والشعب. وهذا الأمر غير حاصل في الوضع البحريني نهائياً. فمن جهة، يحظى الجناة بالحماية من أعلى مستوى في الهرم، ولا تزال العقلية التي أوجدت الجلادين والقتلة تسيطر على مقاليد الحكم، من جهة أخرى. غياب هذه التسوية الانتقالية، حوّل كلّ دعايات الإصلاح إلى ركام من الخداع، ومن المؤسف أن ثمة منْ لا يزال يصرُّ على الهرولة باتجاه هذا الركام، وتحويل الخداع إلى حقيقة متخيلة.
التعثر الدائم في محاولات الخروج من دائرة الأزمة، يعود لتعنت الحكم وعدم رغبته في إمضاء تسوية عادلة بناءً على المصارحة وكشف الحقائق والاحتكام إلى لجان قضائية نزيهة. النظام يرفض ذلك كله، فهو ليس جاداً في إنهاء الفساد واجتثاثه من الجذور، ولمّا يُنجز تغييراً يُذكر بداخل تكوينه الثقافي والذهني، وظلّ يحتفظ بموروث القبيلة الغازية التي تنهب وتسلب، وتحتفظ لنفسها بالامتيازات الخاصة. بقاء الوضع على ما هو عليه، يعني أن النظام الخليفي يتغذى من الفساد ويتنفس من خلاله، ويجد في الإصلاح الحقيقي طريقاً إلى نهاية امتيازاته غير العادلة، وإنهاءً لهيمنته المطلقة على البلاد. يُفهم من ذلك هروبه من الاعتراف بأسباب اندلاع الأزمات في الداخل، وتحويل الأنظار إلى الخارج وفبركة مؤامرات قلب النظام وإثارة الشغب. وفي السياق نفسه، كان تهرُّب العائلة الخليفية من الحوار الجاد، وقلبها الطاولة كل مرة، وتلاعبها بالنوايا الحسنة للمعارضة واستهتارها بالتعهدات والمواثيق. فهذه العائلة وهي بهذا الحال؛ لا يمكنها أن تعترف بأخطاء الماضي، ويستحيل أن تجلس مع المعارضة الشعبية للتفاوض وإعطاء كلّ ذي حقّ حقه.
وهذه عناوين نضعها بين يدي الجميع:
- الجهد المبذول في ملف الشهداء وضحايا التعذيب دون المأمول والمطلوب. فحجم الاهتمام والمساندة لهذا الملف غير كافية حتى الآن. وهذه مفارقة خطيرة لابد أن يتكاشف بها الجميع قبل أن تحدث كارثة جديدة. فهذا الملف هو القاطرة الحقيقية لأي انتقال ديمقراطي في البلاد، والانشغال عنه اليوم سيعرّضه لمخاطر غير محمودة. وعندما ننظر إلى دلالات هذا الملف، وموضعه الفعلي في بقية بلدان العالم، فسوف نجد أن إهماله من جانب قوى المعارضة، ستكون كلفته باهظة جداً، وربما فرّغ من قيمة كل ما يمكن أن تتوصّل إليه المعارضة من استحقاق جزئي. إننا ندعو رموز المعارضة إلى الاهتمام أكثر بهذا الملف، واحتضانه بقوة، والإسهام في ترشيد حركته في الداخل والخارج، وعزله عن كلّ التجاذبات السياسية الظرفية وضغوطات المساومة غير المرضية، بل ونأمل أن يتعزّز الانتشار النوعي والعددي للجنة الوطنية المختصة بهذا الملف، وتصبح الهم الوطني الأكبر لأبناء البحرين وبناتها.
- رفضَ الضحايا وأهالي الشهداء استبدال حق التعويضات بقانون المكرمات، والتنازل عن محاسبة مرتكبي جرائم حقوق الإنسان. وبموازاة ذلك، سيرفض الجميع تصفية الملف والإخلال به عبر وسائل التهديد والإرهاب، أو وسائل الإغراء المكشوف. ولابد أن يلتفت الجميع إلى احتمال سعي النظام إلى معالجة هذا الملف من خلال الدخول من بوابة "حقوق الإنسان" ورشوة بعض ضعفاء النفوس للتقليل من خطورة وجدية هذا الملف في أوساط المنظمات الحقوقية، ومع أن هذا المسعى سيبوء بالفشل بالنظر إلى الأحقية الكاملة لهذا الملف والأدلة الدامغة التي يحتويها، ولكن من المهم الاحتياط، خاصة أن النظام حاولَ في الفترة الأخيرة إرسال موظفيه إلى هذه الأوساط لترويج بضائع النظام البائرة.
- سيكتشف المهتمون بإصلاح فساد النظام، أنّ الطريق لابد أن يتقاطع مع عصابة الثلاثة عقود التي عاثت فساداً ونهباً بدون حسيب أو رقيب. فالاستبداد يتقاطع مع الاستيلاء على خيرات البلاد وحرمان المواطنين منها. حكومة الشيخ خليفة بن سلمان جمعت بين الجريمة السياسية والجريمة الاقتصادية معاً، وكما أنها متورطة في انتهاك الأعراض وسفك الدماء البريئة، فإنها احترفت فنون الجريمة المنظمة، وطوّرت نظاماً متشابكاً من الأعراف والمافيات الجديدة. هذه المافيات التي يتزعمها رئيس الحكومة لا تزاول فقط الفساد المالي والإداري بالمعنى التقني للكلمة، بل إنها متوغلة في النهب وسرقات المال العام وتعميم نظام السُُخرة الجديد، وذلك في تكتم شديد بعيداً عن الأوراق الرسمية كما تفعل المافيات المحترفة. وأكذوبة "باني النهضة الحديثة" أو "راعي التنمية الحديثة" سرعان ما تنهار مع ملاحظة الحرمان المقصود الذي فُرضَ على المناطق والقرى الشيعية خاصة، والتي نظرَ إليها خليفة بن سلمان على أنها مناطق تمرد محتملة، وأنزل عليها عقابا جماعياً. الحرمان وسوء التنمية والتخطيط وتفشي البطالة والفقر وسوء الخدمات يدحض ما تروّج له دعايات النظام وأقلام المرتزقة والتقارير المفبركة، ولو أنّ هناك نظاماً رقابياً مستقلاً منذ سبعينات القرن الماضي، تعهّد بصرف جزءٍ من مداخيل النفط في مجال التنمية الشاملة والعادلة، لكان وضع البلاد العمراني والاقتصادي والاجتماعي اليوم مختلفاً تماماً، ولما نُظرَ إليها بدونية بالمقارنة مع دول الخليج المجاورة. إنّ انتشار مافيات المال العام واحتضانها من جانب الحكومة، وغياب المؤسسة الرقابية المستقلة، سمح للعائلة الخليفية والمتعاونين معها باستنزاف خيرات البلاد لصالح الجيوب الخاصة والأرصدة في الخارج، وشجعها على إهدار الموارد في المشاريع العجولة، وتوجيه نسبة كبيرة من الميزانية لصالح وزارات الأمن والجيش وشراء منظومة صواريخ بأكثر من 40 مليون دولار من الميزانية، في بلدٍ تحيط به القواعد الأميركية وأساطيلها براً وبحراً وجواً. هذه هي التنمية التي جاءت بها حكومة آل خليفة، فهل مِنْ متعظ؟!
- لقد كانت مقاطعة دستور الشيخ حمد ومجالسه، الطريق الآمن الوحيد. فالاندماج مع مشاريع النظام - تحت أية ذريعة كانت - يعني تهريب الأزمات إلى الأجيال المقبلة، ويعني القبول بالإصلاحات الشكلية والاحتفاء بعقلية القبيلة الغازية. لقد قبَر النظام الخليفي إصلاحاته المزعومة أكثر من مرة، وأعطى البرهان القاطع على قمعه وإرهابه وفساده. والمعارضة يجب أن لا تتهاون في خطوط الرجعة التي بلورها المؤتمر الدستوري، وعليها أن تضع في الحسبان مناورات النظام وحيله التي لا تنتهي، وعلى المعارضة أن تستحث الخطى في برامجها الإصلاحية، وتوسِّع نطاقها ومستوى حرفيتها وجديتها. أما الذين لازالوا يوهمون أنفسهم بحلم التغيير من الداخل، وأعطوا أيديهم للمجهول والتمنيات البسيطة، فلن يكونوا إلا أدوات في يد النظام، مهما كانت نواياهم حسنة، فلا النظام مستعد لتصفية موروثاته القبلية، ولا هو صادق في وعوده، ولن يسمح للمعارضة بامتلاك أدواتها الإعلامية والسياسية المستقلة لتدير اللعبة السياسية من خلالها، وسيظل النظام ومريدوه يحتكرون أدوات اللعبة، ويمنعون الآخرين عنها وبالوسائل القانونية أيضاً، كما شاهدنا حينما تعرّضت الجمعيات الأربع لتهديد الإغلاق. والحل الوحيد هو معارضة حقيقية، تملك خطابا متوحِّدا، وتهندس جدول حراكها السياسي والمطلبي بدقة ونظام، وتعتمد مقولة "السياسة رهن الثوابت" بدلاً من "السياسة فن الممكن". فهل منْ مُذكِّر؟!
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار واجعل لهم قدم صدق عندك
حركة أحرار البحرين الإسلامية
29 يوليو 2004
تحياتي
الفيلسوف
تعليق