

قصة تحويل القبلة
( فلنولينك قبلة ترضاها )

عندما فُرضت الصلاة على المسلمين و الرسول صلى الله عليه و سلم
فى رحلة الإسراء و المعراج ، كانت قبلتهم نحو البيت المقدس
وظل المسلمون طيلة العهد المكّي يتوجّهون في صلاتهم إلى بيت
المقدس ؛ امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى ، الذي أمر باستقبالها ،
وجعلها قبلةً للصلاة ..

وفي تلك الأثناء كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمتثل
الحكم الإلهي وفي فؤاده أمنية كبيرة طالما ظلّت تراوده ،
وتتمثّل في التوجّه إلى الكعبة بدلاً من بيت المقدس ،
ذلك لأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام وهو أولى الناس به ،
وأوّل بيتٍ وضع للناس للناس ،
ولحرصه على أن تتميّز الأمة الإسلامية في عبادتها
عن غيرها من الأمم التي حرّفت وبدّلت
ويدلّ على ذلك قول البراء بن عازب رضي الله عنه :
" وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة "
رواه البخاري .

وما كان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو العبد المأمور
أن يخالف أمر ربّه ،
بيد أنه استطاع الجمع بين رغبته في التوجّه إلى الكعبة
وعدم مخالفة الأمر بالتوجّه إلى بيت المقدس
بأن يصلّي أمام الكعبة ولكن متّجها إلى الشمال ،
بأن كان يستقبل القبلة من الركن اليمانى فيكون متوجها نحو
الكعبة و فى نفس الوقت نحو البيت المقدس
كما يدلّ عليه الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنه
حيث قال :
" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو بمكة
نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه "
رواه أحمد .
ثم أذن الله بالهجرة ، ووصل المسلمون إلى المدينة ،
وبُنيت المساجد ، وشرع الأذان ،
والنبي - صلى الله عليه وسلم -لم ينس حبّه الأوّل للكعبة ،
ويحزنه ألا يستطيع استقبال القبلتين جميعاً كما كان يفعل في مكّة ،
وكان شأنه بين أن يخفض رأسه خضوعاً لأمر ربّه
وأن يرفعه أملاً في إجابة دعوته ،
ويصف القرآن الكريم حال النبي – صلى الله عليه وسلم –
بقوله : { قد نرى تقلب وجهك في السماء }( البقرة : 144 )

وفي منتصف شعبان ،
وبعد مرور ستة عشر شهراً من استقبال بيت المقدس ،
نزل جبريل عليه السلام بالوحي إلى النبي
– صلى الله عليه وسلم – ليزفّ البشرى بالتوجّه إلى جهة الكعبة ،
قال تعالى :
{ فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام
وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره }
( البقرة : 144 ) .
ويحدّث الصحابي الجليل البراء بن عازب رضي الله عنه ،
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أول ما قدم المدينة نزل
على أخواله من الأنصار ،
وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ،
وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت ،
وأنه صلّى - أول صلاة صلاها - صلاة العصر ، وصلى معه قوم ،
فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون ،
فقال : أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- قِبَل مكة فداروا كما هم قِبَل البيت ،
رواه البخاري .
وعلى الرغم من انتشار الخبر وذيوعه ،
إلا أنّه تأخّر عن أهل قباء حتى صلاة الصبح ،
فجاء إليهم رجل فقال :
" أنزل الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآنا
أن يستقبل الكعبة فاستقبِلُوها "، فتوجهوا إلى الكعبة ،
رواه البخاري .
ولأنّ نسخ الأحكام لم يكن معهوداّ عند المسلمين من قبل ،
كما قال ابن عباس رضي الله عنهما :
"... فأول ما نسخ من القرآن القبلة " ،
رواه النسائي ،

لذلك كرّر الله الأمر بها تأكيداً وتقريراً ثلاث مرّات :
الأولى
في قوله تعالى :
{ فول وجهك شطر المسجد الحرام
وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره }
( البقرة : 144 ) ،
والثانية
في قوله تعالى :
{ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام
وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون }
( البقرة : 149 ) ،
والثالثة
في قوله تعالى :
{ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام
وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره
لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم }
( البقرة : 150 ) .

وقد تباينت ردود أفعل الناس تجاه هذا الحادث غير المألوف ،
أما المؤمنين فلم يترددوا لحظة عن التحوّل طاعةً لله ورسوله ،
فامتدحهم الله تعالى ،
وبيّن لهم أن هذه الحادثة إنما كانت اختبارا للناس وامتحاناً لهم
كما قال تعالى :
{ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن
ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله }
( البقرة : 143 ) .
وأظهر بعض المسلمين القلق على من لم يكتب الله له شرف
الصلاة إلى الكعبة ممن مات قبلهم ، وخافوا من حبوط أعمالهم ،
وقالوا :
يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا
وهم يصلون إلى بيت المقدس ، ؟
فأنزل الله { وما كان الله ليضيع إيمانكم }
( البقرة : 143 )
- يعني صلاتكم -
رواه الترمذي وأصله في الصحيح.

وأما اليهود فقد عابوا على المسلمين رجوعهم عن بيت المقدس
إلى الكعبة ،
وقابلوا ذلك بالسخرية والاستهجان ،
واستغلّوا ذلك الحدث بدهاءٍ ليمرّروا من خلاله الشكوك
والتساؤلات طعناً في الشريعة وتعميةً لحقائقها ،
وقد حذّر الله سبحانه وتعالى المسلمين
وأخبرهم بموقف اليهود قبل وقوعه فقال :
{ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها
قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }
( البقرة : 142 ) .
وهكذا تحقّق للمسلمين فضل التوجّه إلى القبلتين جميعاً ،
واستطاعوا أن يجتازوا هذا الامتحان الإلهي ،
وبذلك نالوا شهادة الله :
{وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء
على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا }
( البقرة : 143 ) ،

وكان ذلك التحوّل إيذاناً بنهاية الشرك وسقوط رايته ،
وأصبحت الكعبة قبلةً للمسلمين
إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

تعليق