حكايا جدته و راس الحمار المرعبة
طلبت من صديق لي يعيش حاليا في الريف
أن يجمع لي حكايا جدته التي سمعت الكثير
عنها و طمعت أيضا في أن أحصل منه
على ذكر لبعض ما جرى له هناك في الأرياف
من قصص و أحداث أعرف أنه يبرع في وصفها و انتقائها
فكتب لي يقول كل من عرف جدتي أحبها كانت تملك مخزوناً هائلاً
من الحكايات العامرة بالجمال و الموعظة كانت تحب
أن أقرأ لها القصص مهما كان نوعها و كانت تحب أن
تعلق على أحداث القصة و تمتدح الطيبين من شخوصها
و تضرع إلى الله بعيون دامعة أن يتولى أمر الأشرار
أما أنا فقد كنت شديد التدقيق في اختيار القصص التي
أحضرها لها معي من المدينة كل صيف و كنت أكتشف
كل يوم قصة جديدة حفظتها جدتي من مكان ما
كنت أركب سيارة متهالكة تئن كثيراً و هي تصعد طريقاً
جبلية ساحرة تكتنفها كل أنواع الأشجار الحرجية
و تفوح روائح النباتات البرية العطرية مع كل هبة نسيم
و عندما أصل إلى بيت جدتي أجد بابا خشبياً مصفحاً برقائق
معدنية مدهونة بلون أخضر محبب و حالما أدخل الدار تقابلني
شجرة توت عملاقة و مصطبة من التراب الأبيض الناعم النظيف
في كثير من الأحيان لم أكن أجد أحداً في البيت و رغم
ذلك تكون الأبواب كلها مفتوحة و كأنما هي في انتظاري و خلف
باب غرفة المعيشة كوة كبيرة في الجدار مظلمة دائماً تقبع
فيها جرة ماء كم كنت أحب ذلك الماء بارد دوماً أشرب
منه فأرتوي و أتلذذ برؤية الجدران المطلية بالكلس الأبيض
ثم أرنو ببصري إلى السقف الخشبي الذي اسود كثيراً من
دخان الموقد المحفور في أرض الغرفة لم أصادف هذا
الموقد مشتعلاً أبداً لأن كل زياراتي للقرية كانت في الصيف
و لكنني كنت استمتع كثيراً بمنظر النار المشتعلة بين حجرين
كبيرين في الباحة الخارجية للدار كانت الفئران تركض
و هي تصرخ بين العوارض الخشبية السوداء في السقف
و يتساقط التراب أحياناً فوق رأسي فئران لها بطن أبيض
ناعم و ظهررمادي فئران مختلفة غير مقرفة
و حالما تحضر جدتي تقبلني عشرات القبلات و تبكي من
الفرح و تسأل عن الجميع و لا تجلس أبداً طالما هناك
ضوء نهار لا تقعد لديها دائما عمل يجب إنجازه
إطعام الدجاجات إبعادها عن بعض الأشياء التي لا أذكر ما هي
ربما بعض الخضراوات المزروعة أو بعض الثمار
المفروشة في طبق من القش ظلال الأشجار كانت مقعدي
و ما أكثرها كل ما حولي كان غارقاً في الظل فعلى
اشجار البلوط صعدت عرائش العنب و رسمت مظلة
كثيفة من الأغصان و الأوراق و على الأجزاء السفلى من الجذوع
تسلقت نباتات القرع و حملت ثماراً تشبه جرار الماء
و انتشرت أشجار الرمان و التين و الخوخ في كل فراغ تحت
أشجار البلوط و السندبان العملاقة و بين الأغصان راحت
السناجب و العصافير تعزف سمفونية أحلامها و تعلن حدود
ممالكها المنسية الهشة و طوال النهار كنت اتأمل ذلك
الخلق البديع لخالق كريم رحيم أعطانا الأمان و السلام و أتساءل
لماذا أنا وحدي هنا يا رب ألا يوجد في هذه الأرض طفل
صغير مثلي يحب تأمل هذا الجمال و الحديث عنه و حالما
يأتي المساء تدب حياة جديدة مختلفة تماما يعود عمي
و زوجته من الحقول و المساكب التي تحتاج إلى عمل دائب
لتعطي ثمارها و يتدفق سيل كثيف هادر من الأبقار و الأغنام
و الماعز و الحمير فوق الطريق الترابية عائدين إلى المنازل
و أتساءل أنا أين كان كل ذلك الحشد و تتعالى الضوضاء
في المنزل ساعة ريثما يأخذ كل حي مكانه البقرة في مكان
منخفض قرب السور الحجري المغطى بالحطب اليابس
و الأغنام و الماعز في زاوية رطبة مظلمة تحت أجمة الرمان
و الحمار قرب النافذة مربوط إلى شجرة التوت و يهدأ كل
شيء و يختفي الجميع أنا وجدتي فقط نجلس في الغرفة
التي يتراقص فيها ضوء السراج شحيحاً ضعيفاً يثيرالخيال
و يرسم على الجدران مئات الأشكال المرعبة و الفئران في
السقف تعزف ألحان شجاراتها المتواصلة و تبدأ جدتي حكايتها
قائلة :
اسمع يا ولدي سأقص عليك قصة الفلاح الذي شاب وهو في
ريعان الشباب ثم قصة شاب اخر اشتعل رأسه بالشيب حتى
غدا أبيضاً كالحليب بعد أن كان أسوداً كالفحم ثم قصة أرملة
صالح الشحاذ التي ابيض رأسها كالثلج في ليلة باردة عاصفة
و تزفر جدتي زفرة عميقة و تتلمس رأسها الأشيب و لا تبوح أبدا
بقصة شيبها هي و أقترب أنا منها خائفاً و أحس قشعريرة تسري
في جسدي و رعباً يملأ صدري و أكاد أقول لها توقفي بالله عليك
لا أريد سماع القصص المرعبة و لكن جدتي تريد أن تزيح عن
كاهلها شيئاً ما و لن أحرمها الفرصة و أتظاهر بأنني مقبل على
الحكايا و أنا زاهد فيها رحمة بجدتي التي يثقلها بوح ما تريد
أن يشاركها إياه طفل عاقل مثلي لطالما عاملته بكل تقدير
و تتابع جدتي الكلام قائلة :
في يوم من الأيام يا سيدنا الأفندي و في ليلة مظلمة ليس فيها ضوء
قمر سقط المطر فجأة على رأس الفلاح العائد إلى قريته من القرية
المجاورة و هبت ريح شرقية عاوية فطاش صواب المسكين و راحت
عيونه تجوس الأنحاء بحثاً عن ملاذ فلم تبصر إلا الظلام و الخواء
و بصيص نور ضعيف ينبعث من بعيد فركض الفلاح إليه مؤملا
ركنا دافئا
طلبت من صديق لي يعيش حاليا في الريف
أن يجمع لي حكايا جدته التي سمعت الكثير
عنها و طمعت أيضا في أن أحصل منه
على ذكر لبعض ما جرى له هناك في الأرياف
من قصص و أحداث أعرف أنه يبرع في وصفها و انتقائها
فكتب لي يقول كل من عرف جدتي أحبها كانت تملك مخزوناً هائلاً
من الحكايات العامرة بالجمال و الموعظة كانت تحب
أن أقرأ لها القصص مهما كان نوعها و كانت تحب أن
تعلق على أحداث القصة و تمتدح الطيبين من شخوصها
و تضرع إلى الله بعيون دامعة أن يتولى أمر الأشرار
أما أنا فقد كنت شديد التدقيق في اختيار القصص التي
أحضرها لها معي من المدينة كل صيف و كنت أكتشف
كل يوم قصة جديدة حفظتها جدتي من مكان ما
كنت أركب سيارة متهالكة تئن كثيراً و هي تصعد طريقاً
جبلية ساحرة تكتنفها كل أنواع الأشجار الحرجية
و تفوح روائح النباتات البرية العطرية مع كل هبة نسيم
و عندما أصل إلى بيت جدتي أجد بابا خشبياً مصفحاً برقائق
معدنية مدهونة بلون أخضر محبب و حالما أدخل الدار تقابلني
شجرة توت عملاقة و مصطبة من التراب الأبيض الناعم النظيف
في كثير من الأحيان لم أكن أجد أحداً في البيت و رغم
ذلك تكون الأبواب كلها مفتوحة و كأنما هي في انتظاري و خلف
باب غرفة المعيشة كوة كبيرة في الجدار مظلمة دائماً تقبع
فيها جرة ماء كم كنت أحب ذلك الماء بارد دوماً أشرب
منه فأرتوي و أتلذذ برؤية الجدران المطلية بالكلس الأبيض
ثم أرنو ببصري إلى السقف الخشبي الذي اسود كثيراً من
دخان الموقد المحفور في أرض الغرفة لم أصادف هذا
الموقد مشتعلاً أبداً لأن كل زياراتي للقرية كانت في الصيف
و لكنني كنت استمتع كثيراً بمنظر النار المشتعلة بين حجرين
كبيرين في الباحة الخارجية للدار كانت الفئران تركض
و هي تصرخ بين العوارض الخشبية السوداء في السقف
و يتساقط التراب أحياناً فوق رأسي فئران لها بطن أبيض
ناعم و ظهررمادي فئران مختلفة غير مقرفة
و حالما تحضر جدتي تقبلني عشرات القبلات و تبكي من
الفرح و تسأل عن الجميع و لا تجلس أبداً طالما هناك
ضوء نهار لا تقعد لديها دائما عمل يجب إنجازه
إطعام الدجاجات إبعادها عن بعض الأشياء التي لا أذكر ما هي
ربما بعض الخضراوات المزروعة أو بعض الثمار
المفروشة في طبق من القش ظلال الأشجار كانت مقعدي
و ما أكثرها كل ما حولي كان غارقاً في الظل فعلى
اشجار البلوط صعدت عرائش العنب و رسمت مظلة
كثيفة من الأغصان و الأوراق و على الأجزاء السفلى من الجذوع
تسلقت نباتات القرع و حملت ثماراً تشبه جرار الماء
و انتشرت أشجار الرمان و التين و الخوخ في كل فراغ تحت
أشجار البلوط و السندبان العملاقة و بين الأغصان راحت
السناجب و العصافير تعزف سمفونية أحلامها و تعلن حدود
ممالكها المنسية الهشة و طوال النهار كنت اتأمل ذلك
الخلق البديع لخالق كريم رحيم أعطانا الأمان و السلام و أتساءل
لماذا أنا وحدي هنا يا رب ألا يوجد في هذه الأرض طفل
صغير مثلي يحب تأمل هذا الجمال و الحديث عنه و حالما
يأتي المساء تدب حياة جديدة مختلفة تماما يعود عمي
و زوجته من الحقول و المساكب التي تحتاج إلى عمل دائب
لتعطي ثمارها و يتدفق سيل كثيف هادر من الأبقار و الأغنام
و الماعز و الحمير فوق الطريق الترابية عائدين إلى المنازل
و أتساءل أنا أين كان كل ذلك الحشد و تتعالى الضوضاء
في المنزل ساعة ريثما يأخذ كل حي مكانه البقرة في مكان
منخفض قرب السور الحجري المغطى بالحطب اليابس
و الأغنام و الماعز في زاوية رطبة مظلمة تحت أجمة الرمان
و الحمار قرب النافذة مربوط إلى شجرة التوت و يهدأ كل
شيء و يختفي الجميع أنا وجدتي فقط نجلس في الغرفة
التي يتراقص فيها ضوء السراج شحيحاً ضعيفاً يثيرالخيال
و يرسم على الجدران مئات الأشكال المرعبة و الفئران في
السقف تعزف ألحان شجاراتها المتواصلة و تبدأ جدتي حكايتها
قائلة :
اسمع يا ولدي سأقص عليك قصة الفلاح الذي شاب وهو في
ريعان الشباب ثم قصة شاب اخر اشتعل رأسه بالشيب حتى
غدا أبيضاً كالحليب بعد أن كان أسوداً كالفحم ثم قصة أرملة
صالح الشحاذ التي ابيض رأسها كالثلج في ليلة باردة عاصفة
و تزفر جدتي زفرة عميقة و تتلمس رأسها الأشيب و لا تبوح أبدا
بقصة شيبها هي و أقترب أنا منها خائفاً و أحس قشعريرة تسري
في جسدي و رعباً يملأ صدري و أكاد أقول لها توقفي بالله عليك
لا أريد سماع القصص المرعبة و لكن جدتي تريد أن تزيح عن
كاهلها شيئاً ما و لن أحرمها الفرصة و أتظاهر بأنني مقبل على
الحكايا و أنا زاهد فيها رحمة بجدتي التي يثقلها بوح ما تريد
أن يشاركها إياه طفل عاقل مثلي لطالما عاملته بكل تقدير
و تتابع جدتي الكلام قائلة :
في يوم من الأيام يا سيدنا الأفندي و في ليلة مظلمة ليس فيها ضوء
قمر سقط المطر فجأة على رأس الفلاح العائد إلى قريته من القرية
المجاورة و هبت ريح شرقية عاوية فطاش صواب المسكين و راحت
عيونه تجوس الأنحاء بحثاً عن ملاذ فلم تبصر إلا الظلام و الخواء
و بصيص نور ضعيف ينبعث من بعيد فركض الفلاح إليه مؤملا
ركنا دافئا
تعليق