الفنّ والاعدام لوحة ماني بعيون فوكو
لقد أتى فنّ الرسم على كلّ شيء من أحذية فان غوغ الى ليله المرصّع بالنجوم ومن تفّاحة سيزان الى جبله، ومن “الساعات الرخوة”لدالي الى أجسام بيكن المشوّهة. لكن لا شيء جميل في الرسم الحديث غير رقص الألوان على سطح اللوحة.. وماتبقى قبح عميق و شرس أثار حيرة كبار المفكّرين المعاصرين. وهو ماحصل مع ميشال فوكو ازاء لوحة “اعدام ماكسيمليان لماني”. يقول فوكو في نصّ له يحمل عنوانا مثيرا “بم يحلم الفلاسفة ؟” عن الرسّام الفرنسي ادوارد ماني ما يلي :“انّي أعتقد أنّ ثمّة أشياء تبهرني و تحيّرني تماما مثل ماني. القبح مثلا ، شراسة القبح لديه.. ثمّة قبح عميق لازال الى اليوم يواصل العويل و الصرير”.
أيّ قبح أعمق من رسم الاعدام على سطح لوحة بكماء باردة لا شيء يقلق راحتها على صدر جدار يتيم ؟ في محاضرة تحت عنوان “الأسود و السطح” أنجزها فوكو بنادي الطاهر الحدّاد في تونس سنة 1971 يشدّد فوكو على المنزلة التي يحتلّها الرسّام ماني في فنّ الرسم الغربي في القرن التاسع عشر معتبرا هذا الرسّام قد أدخل “تقنيات جديدة في اللون ،استعمال ألوان خالصة.. استعمال أشكال من الاضاءة لم تكن معروفة من قبل”.أمّا ما يمثّل موضع طرافة رسومات ماني فهو تحديدا أنّ هذا الرسّام قد جعل المكان ينبثق مرّة أخرى داخل اللوحة. حيث أنّ فنّ الرسم قبل ماني قد حاول في كلّ مرّة أن يمحو أو أن يُخفي الأبعاد الحقيقية للفضاء ، فضاء اللوحة التي يستقرّ عليه الرسم نفسه. تحرير الفضاء من سلطة اللوحة و السماح له بالظهور بكل أبعاده المادية. و ذلك ضدّ تقليد ساد في فنّ الرسم منذ القرن الخامس عشر : محاولة اخفاء أو تزييف أو انكار أنّ للوحة مكانا قد يكون قطعة قماش أو جدار أو قطعة من الخشب أو حتى قطعة ورق هشّ. فالرسم التقليدي قبل ماني هو رسم عمد الى انكار المكان المادي بأبعاده و تعويضه بمكان آخر. بل و أكثر من ذلك فانّ ماني قد حرّر الاضاءة أيضا التي وقع اغفالها في الرسم التقليدي بوصفه رسما ينكر الاضاءة الفعلية :أي أنّ ثمّة مكان عميق تضيئه شمس حقيقية و يمكن النظر اليه بوصفه مشهدا و بوصفنا متفرّجين..
اعدام ماكسيمليان 1867
يتعلّق الأمر باللوحة الأكثر شهرة للرسّام الفرنسي ادوارد ماني
ولد في باريس في 23 جانفي 1832 ومات في 30 أفريل 1883.. يعتبر أهمّ رسّام حديث قد حرّر الفنّ من الطابع الأكاديمي له. ويعتبر رائد الحركة الانطباعية ثمّ صديقا للانطباعيين وخاصة كلوك موني..
ماكسميليان جــنرال نمساوي نصّبه نابليون الثالث على المكسيك دون أن يوفّر له الدعم العسكري اللازم. انهزم أمام الجيش الجمهوري و وقعت محاكمته ثمّ اعدامه مع جنـرالين من جـنرالااته.. بعد شهر من اعدامه بدأ ماني في رسم صيغة أوّلية عن هذا الحدث الفظيع الذي زلزل ماني تلك الطريقة المرعبة التي انتهى بها الأمير الشاب النمساوي.
وهي لوحة نشهد فيها على غلق عنيف واضح وشديد اللهجة للفضاء بحضور جدار كبير ، هو جدار لا يغدو أن يكون الوجود المضاعف للوحة. انّ هذه اللوحة حسب قراءة فوكو،. تجعلنا كأنّنا نرى خطّا أفقيا ثمّ خطّا عمودي ثمّ فتحة مع شخوص صغيرة بصدد التحديق في المشهد..في هذه اللوحة حيث سيعدم ماكسيمليان ثمّة أيضا جدار وقع غلقه وركح يبدأ ههنا.. وفوق الجدار ركح صغير هو وجود مضاعف للوحة.. أمّا عن شخوص اللوحة ففي حالة ازدحام شديد ، متراصّين الواحد تلو الآخر في مكان صغير غير قادر على تحمّلهم.. كيف للوحة أن تستوعب اذن كل هذا الشعب من الشخوص وتوزّعها بكل لطف الفرشاة على مساحة صغيرة.. ثمّ تغلق الجدار على الجميع وتجعلهم يحدّقون في هذا الركح غير آبهة بهشاشة اللون وامكانية انهيار المرسم في كل لحظة ؟ اضافة الى ذلك ثمّة هؤلاء الجنود على صدر اللوحة و مضاعفة عدد الخطوط و المدارت الأفقية والعمودية.. ليس ثمّة في هذه اللوحة مسافة بين الضحية والجلاّد : أي بين الجنود الذين سيقتلون والضحايا الذين سيُعدمون.. متراصّين في لوحة واحدة في شكل من تضامن الرعب. مع ماني نشهد حسب فوكو على تصور جديد للفضاء : حيث ندخل معه فضاء تشكيليا لا يمكن فيه أن نرى المسافة و انّ العمق لم يعد هو الآخر موضوع نظر وأنّ الموقع المكاني ليس سوى علامات لا معنى لها ولا وظيفة الاّ داخل فنّ الرسم.
في هذه اللوحة نشاهد ماكسيمليان واقفا بين جـنرا ليه : أحدهما أسمر اللون وهو مكسيكي وهو الذي يتلقى الرصاصة أوّلا.. أمّا ماكسيمليان فوجهه بلا ملامح في وقفة باردة ببشرة صافية وضّاحة.. ينتظر موته ببرودة فظيعة.. ماسكا بيد الجــنرال الثاني الذي لم يُقتل بعدُ. أمّا المكسيكي المقتول الأوّل فيتلقى موته في حركة ارتعاد هستيرية.
لا وجود في هذه اللوحة التي ترسم اعدام ماكسيمليان أيّة مشاعر تراجيدية. ليس ثمّة توابيت تنتظر القتلى ولا راهب يضمن رحيلهم و لا دموع.. فقط جدار ومتطفّلون يزدحمون على مشهد القتل.. هم الشعب المكسيكسي نفسه الذي تحوّل الى متطفّل على مصيره.. المثير في هذا الحدث التشكيلي التاريخي هو: برودة الرسّام ازاء هكذا حدث جلل. وهو أمر التقطه جورج باتاي قائلا عن ماني : “أنّه يرسم واقعة الاعدام بنفس اللامبالاة التشكيلية التي يرسم بها وردة أو سمكة”. ازاء اعدام ماكسيمليان يكتفي الرسّام ماني بالرسم بكل هدوء و لامبالاة كي يوقّع لنا دون عواطف حادثة “موت الذات”. انّها وحشية قبح مايحدث و قساوته التي يحوّل فيها الرسّام اللوحة -التي تجعل هذا القبح مرئيّا- الى نوع من العنف الاستطيقي على المشاهد.
انّ لوحة اعدام ماكسيمليان تمثّل بالنسبة الى ميشال فوكو أرشيفا أسود لجانب مؤلم من تاريخ الغرب، وثيقة من وثائق اللامقول الذي لا يقال بل يُرسم لأنّه لا ينتمي الى تاريخ القول بل الى تاريخ الصمت. فمتى سنكتب تاريخ صمتنا ؟.. والى أن يحين وقت تحويل اعداماتنا واغتيالاتنا - التي بقيت الى حدّ الآن ممنوعة من الرسم، مستحيلة عن العدل ،- الى أحداث تشكيلية سنواصل الحديث عن لوحات الغرب الذي بدأ منذ زمن في التأريخ للجانب المتوحّش من ذاكرته علّنا نتعرّف عمّ لسنا نحن، كي نتدرّب على وجهة أخرى في الانتماء الى أنفسنا..
جارى رفع الصور تعديل الموضوع تابعونا لاحقا
لقد أتى فنّ الرسم على كلّ شيء من أحذية فان غوغ الى ليله المرصّع بالنجوم ومن تفّاحة سيزان الى جبله، ومن “الساعات الرخوة”لدالي الى أجسام بيكن المشوّهة. لكن لا شيء جميل في الرسم الحديث غير رقص الألوان على سطح اللوحة.. وماتبقى قبح عميق و شرس أثار حيرة كبار المفكّرين المعاصرين. وهو ماحصل مع ميشال فوكو ازاء لوحة “اعدام ماكسيمليان لماني”. يقول فوكو في نصّ له يحمل عنوانا مثيرا “بم يحلم الفلاسفة ؟” عن الرسّام الفرنسي ادوارد ماني ما يلي :“انّي أعتقد أنّ ثمّة أشياء تبهرني و تحيّرني تماما مثل ماني. القبح مثلا ، شراسة القبح لديه.. ثمّة قبح عميق لازال الى اليوم يواصل العويل و الصرير”.
أيّ قبح أعمق من رسم الاعدام على سطح لوحة بكماء باردة لا شيء يقلق راحتها على صدر جدار يتيم ؟ في محاضرة تحت عنوان “الأسود و السطح” أنجزها فوكو بنادي الطاهر الحدّاد في تونس سنة 1971 يشدّد فوكو على المنزلة التي يحتلّها الرسّام ماني في فنّ الرسم الغربي في القرن التاسع عشر معتبرا هذا الرسّام قد أدخل “تقنيات جديدة في اللون ،استعمال ألوان خالصة.. استعمال أشكال من الاضاءة لم تكن معروفة من قبل”.أمّا ما يمثّل موضع طرافة رسومات ماني فهو تحديدا أنّ هذا الرسّام قد جعل المكان ينبثق مرّة أخرى داخل اللوحة. حيث أنّ فنّ الرسم قبل ماني قد حاول في كلّ مرّة أن يمحو أو أن يُخفي الأبعاد الحقيقية للفضاء ، فضاء اللوحة التي يستقرّ عليه الرسم نفسه. تحرير الفضاء من سلطة اللوحة و السماح له بالظهور بكل أبعاده المادية. و ذلك ضدّ تقليد ساد في فنّ الرسم منذ القرن الخامس عشر : محاولة اخفاء أو تزييف أو انكار أنّ للوحة مكانا قد يكون قطعة قماش أو جدار أو قطعة من الخشب أو حتى قطعة ورق هشّ. فالرسم التقليدي قبل ماني هو رسم عمد الى انكار المكان المادي بأبعاده و تعويضه بمكان آخر. بل و أكثر من ذلك فانّ ماني قد حرّر الاضاءة أيضا التي وقع اغفالها في الرسم التقليدي بوصفه رسما ينكر الاضاءة الفعلية :أي أنّ ثمّة مكان عميق تضيئه شمس حقيقية و يمكن النظر اليه بوصفه مشهدا و بوصفنا متفرّجين..
اعدام ماكسيمليان 1867
يتعلّق الأمر باللوحة الأكثر شهرة للرسّام الفرنسي ادوارد ماني
ولد في باريس في 23 جانفي 1832 ومات في 30 أفريل 1883.. يعتبر أهمّ رسّام حديث قد حرّر الفنّ من الطابع الأكاديمي له. ويعتبر رائد الحركة الانطباعية ثمّ صديقا للانطباعيين وخاصة كلوك موني..
ماكسميليان جــنرال نمساوي نصّبه نابليون الثالث على المكسيك دون أن يوفّر له الدعم العسكري اللازم. انهزم أمام الجيش الجمهوري و وقعت محاكمته ثمّ اعدامه مع جنـرالين من جـنرالااته.. بعد شهر من اعدامه بدأ ماني في رسم صيغة أوّلية عن هذا الحدث الفظيع الذي زلزل ماني تلك الطريقة المرعبة التي انتهى بها الأمير الشاب النمساوي.
وهي لوحة نشهد فيها على غلق عنيف واضح وشديد اللهجة للفضاء بحضور جدار كبير ، هو جدار لا يغدو أن يكون الوجود المضاعف للوحة. انّ هذه اللوحة حسب قراءة فوكو،. تجعلنا كأنّنا نرى خطّا أفقيا ثمّ خطّا عمودي ثمّ فتحة مع شخوص صغيرة بصدد التحديق في المشهد..في هذه اللوحة حيث سيعدم ماكسيمليان ثمّة أيضا جدار وقع غلقه وركح يبدأ ههنا.. وفوق الجدار ركح صغير هو وجود مضاعف للوحة.. أمّا عن شخوص اللوحة ففي حالة ازدحام شديد ، متراصّين الواحد تلو الآخر في مكان صغير غير قادر على تحمّلهم.. كيف للوحة أن تستوعب اذن كل هذا الشعب من الشخوص وتوزّعها بكل لطف الفرشاة على مساحة صغيرة.. ثمّ تغلق الجدار على الجميع وتجعلهم يحدّقون في هذا الركح غير آبهة بهشاشة اللون وامكانية انهيار المرسم في كل لحظة ؟ اضافة الى ذلك ثمّة هؤلاء الجنود على صدر اللوحة و مضاعفة عدد الخطوط و المدارت الأفقية والعمودية.. ليس ثمّة في هذه اللوحة مسافة بين الضحية والجلاّد : أي بين الجنود الذين سيقتلون والضحايا الذين سيُعدمون.. متراصّين في لوحة واحدة في شكل من تضامن الرعب. مع ماني نشهد حسب فوكو على تصور جديد للفضاء : حيث ندخل معه فضاء تشكيليا لا يمكن فيه أن نرى المسافة و انّ العمق لم يعد هو الآخر موضوع نظر وأنّ الموقع المكاني ليس سوى علامات لا معنى لها ولا وظيفة الاّ داخل فنّ الرسم.
في هذه اللوحة نشاهد ماكسيمليان واقفا بين جـنرا ليه : أحدهما أسمر اللون وهو مكسيكي وهو الذي يتلقى الرصاصة أوّلا.. أمّا ماكسيمليان فوجهه بلا ملامح في وقفة باردة ببشرة صافية وضّاحة.. ينتظر موته ببرودة فظيعة.. ماسكا بيد الجــنرال الثاني الذي لم يُقتل بعدُ. أمّا المكسيكي المقتول الأوّل فيتلقى موته في حركة ارتعاد هستيرية.
لا وجود في هذه اللوحة التي ترسم اعدام ماكسيمليان أيّة مشاعر تراجيدية. ليس ثمّة توابيت تنتظر القتلى ولا راهب يضمن رحيلهم و لا دموع.. فقط جدار ومتطفّلون يزدحمون على مشهد القتل.. هم الشعب المكسيكسي نفسه الذي تحوّل الى متطفّل على مصيره.. المثير في هذا الحدث التشكيلي التاريخي هو: برودة الرسّام ازاء هكذا حدث جلل. وهو أمر التقطه جورج باتاي قائلا عن ماني : “أنّه يرسم واقعة الاعدام بنفس اللامبالاة التشكيلية التي يرسم بها وردة أو سمكة”. ازاء اعدام ماكسيمليان يكتفي الرسّام ماني بالرسم بكل هدوء و لامبالاة كي يوقّع لنا دون عواطف حادثة “موت الذات”. انّها وحشية قبح مايحدث و قساوته التي يحوّل فيها الرسّام اللوحة -التي تجعل هذا القبح مرئيّا- الى نوع من العنف الاستطيقي على المشاهد.
انّ لوحة اعدام ماكسيمليان تمثّل بالنسبة الى ميشال فوكو أرشيفا أسود لجانب مؤلم من تاريخ الغرب، وثيقة من وثائق اللامقول الذي لا يقال بل يُرسم لأنّه لا ينتمي الى تاريخ القول بل الى تاريخ الصمت. فمتى سنكتب تاريخ صمتنا ؟.. والى أن يحين وقت تحويل اعداماتنا واغتيالاتنا - التي بقيت الى حدّ الآن ممنوعة من الرسم، مستحيلة عن العدل ،- الى أحداث تشكيلية سنواصل الحديث عن لوحات الغرب الذي بدأ منذ زمن في التأريخ للجانب المتوحّش من ذاكرته علّنا نتعرّف عمّ لسنا نحن، كي نتدرّب على وجهة أخرى في الانتماء الى أنفسنا..
جارى رفع الصور تعديل الموضوع تابعونا لاحقا
تعليق