الإفساد في الأرض حكمه و خطره و آثاره
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، أحمده -جل وعلا-
وأُثْنِي عليه، هو وحده المستحق للثناء، وأشهد ألا إله إلا الله وحده
لا شريك له، ولا معبود بحق سواه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله،
صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن سار على هُدَاه،
واقتفى أثره إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا، ثم أما بعد:
إن موضوع بحثنا موضوع مهم جدًّا، يجب على المسلم أن يهتم به،
وأن يرعاه، وأن يَتَفَطَّنَ له، وأن يتنبه إلى ما حذره الله تعالى،
فينتهي ويرتدع ويبتعد عن كل أمر وعمل يفسد عليه دينه.
الحكمة من خلق الإنسان
إن الله -جل وعلا- لم يخلقك يا عبد الله لتلهو في هذه الحياة الدنيا،
وتلعب، وتتكاثر في الأموال والأولاد، وإنما خلقك الله لأمر عظيم،
فقد خلقك الله -جل وعلا- لعبادته فقال -جل وعلا-:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}
[سورة الذاريات : الآية 56].
يجب أن نسعى لتحقيق العبادة بفعل ما أمر الله-عز وجل-،
والانتهاء عما نهى الله -عز وجل- عنه، وأن ننصرف عن كل ما نهانا
الله -عز وجل- عنه، وزجرنا عنه نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
لا بد من السعي لتحقيق العبودية، إذا كنا نريد الجنة والدار الآخرة،
فنحشر مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.
عبادة الله تكون على بصيرة، وعلى نور، وعلى برهان، فنعبد الله
-جل وعلا- كما شرع، وأن نتبع شرعه ظاهرًا وباطنًا، سرًّا وعلانية،
ونعلم أن الله مطلع على أحوالنا عالم بسرائر أفعالنا وأعمالنا قال تعالى:
﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
[سورة ق : الآية 18].
مراقبة الله تعالى
إذا علمت أن الله -عز وجل- مطلع على جميع أعمالك وأنه:
{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
[سورة ق : الآية 18]
{مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ}
[سورة المجادلة : الآية 7]،
فالله -جل وعلا- يعلم ما تَعمل، وما تحدث به نفسك، وما تتكلم به
يعلمه الله -جل وعلا- ويُسَجَّلُ عليك في سجل ستجده أمامك،
إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر قال تعالى:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}
[سورة فصلت : الآية 46]،
فالملائكة الكتبة يكتبون في سجل أعمالك ما عملت من عمل،
هل أديت الصلاة في وقتها؟ هل أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر؟
هل حافظت على ذكر الله -عز وجل-؟ هل قمت بصلة الأرحام وبر الوالدين؟
هل أديت ما أوجب الله عليك من واجبات؟ هل حفظت السمع والبصر؟
وحفظت اللسان ألا يتكلم فيما حرم الله؟
{هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
[سورة الجاثية : الآية 29].
النهي عن الفساد في الأرض
إذا تنبه المسلم لذلك وجب عليه أن يسعى للإصلاح في الأرض
لا للإفساد فيها، هذا أمر الله -عز وجل- قال سبحانه:
{وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}
[سورة الأعراف : الآية 56 ]
في كتابه ، وجاءت سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك .
إن الإفساد في الأرض أمر يجب التحذير منه والتنبه له،
لأنه أمر مخالف لدعوة الأنبياء والرسل -عليهم السلام-
الذين جاءوا بالإصلاح في الأرض،
وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله -عز وجل-،
جاءوا ليسعدوا الناس، ولينشروا الخير بينهم، والفلاح والصلاح،
وإن الإفساد في الأرض له ضرر عظيم على البلاد والعباد،
وحتى على الحيوانات، والبر والبحر، كل يتضرر من إفساد العباد في الأرض،
لذا جاءت الآيات في كتاب الله -عز وجل- بالتحذير من الإفساد في الأرض.
تعريف الفساد
ما المقصود بالفساد؟
معناه كما ذكر أهل اللغة
: أن الفساد مصدر فَسَدَ يُفْسُدُ فَسادًا، وهو ضد الإصلاح.( 1) قال الليث:
الفساد نقيض الإصلاح. وقال الراغب: الفساد خروج الشيء عن الاعتدال.
( 2) سواء أكان الخروج عليه قليلا أو كثيرًا، وكل اعتداء على الدين،
أو العقل، أو المال، أو العرض، أو النفس فهو إفساد .
وأما الإفساد في الاصطلاح
:فقد ذكر أهل العلم: أنه إخراج الشيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح.
هذا هو تعريف الإفساد في اللغة وفي الاصطلاح.
ما الفرق بين الإفساد والظلم؟
الإفساد أشمل وأعم من الظلم، لأن الظلم هو النقص، فمن سرق
من مال الناس فقد نقص حق غيره فقط، وأما من أفسد في أموال الناس
فإنه يقع على هذا وعلى غيره.
النهي عن الفساد والإفساد في القرآن
جاءت آيات كثيرة في كتاب الله -عز وجل- تنهى عن الإفساد في الأرض،
قال تعالى:
{وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}
[سورة الأعراف : الآية 56 ]
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في تفسير هذه الآية:
“قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله،
بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل، وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله،
فإن عبادة غير الله ، والدعوة إلى غيره،
والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة
إنما هو بالشرك به، ومخالفة أمره، قال تعالى:
{ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}
[سورة الروم : الآية 41]،
وقال عطية في الآية: “ولا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر،
ويهلك الحرث بمعاصيكم”، وقال غير واحد من السلف:
“إذا قحط المطر فإن الدواب تلعن عصاة بني آدم وتقول:
اللهم العنهم، فبسببهم أجدبت الأرض، وقحط المطر”.
وبالجملة فالشرك والدعوة إلى غير الله، وإقامة معبود غيره،
ومطاع متبع غير رسول الله هو أعظم الفساد في الأرض،
ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود،
والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا،
وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول، فإذا أمر بمعصيته
وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة، فإن الله أصلح الأرض برسوله،
ودينه، وبالأمر بتوحيده، ونهي عن إفسادها بالشرك به،
وبمخالفة رسوله.
ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله،
وعبادته، وطاعة رسوله، وكل شر في العالم، وفتنة، وبلاء، وقحط،
وتسليط عدو، وغير ذلك، فسببه مخالفة رسوله،
والدعوة إلى غير الله ورسوله.
ومن تدبر هذا حق التدبر وتأمل أحوال العالم منذ قام إلى الآن،
وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين،
وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه، وفي حق غيره عموما وخصوصا،
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”. اهـ ( 3)
تنبه لهذا الكلام من الإمام ابن القيم -رحمه الله-، فإن سبب فساد الناس
أنهم تركوا التوحيد، وتركوا العمل به، وتركوا الاهتمام به.
ومن الآيات التي جاءت في كتاب الله -عز وجل- تنهى عن الفساد والإفساد
في الأرض قوله -جل وعلا-:
{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ}
[سورة البقرة : الآية 205]
يقول ابن جرير الطبري -رحمه الله-: اختلف أهل التأويل في معنى الإفساد
الذي أضافه الله -جل وعلا- إلى هذا المنافق الذي ذكره الله في الآية،
فقيل: هو قاطع الطريق. وقيل: الذي يسفك دم المسلمين، إلى آخره.
ويدخل في الإفساد جميع المعاصي.
قال ابن جرير الطبري -رحمه الله-: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ:
إِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَصَفَ هَذَا الْمُنَافِقَ بِأَنَّهُ إِذَا تَوَلَّى مُدْبِرًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَمِلَ فِي أَرْضِ اللَّهِ بِالْفَسَادِ. وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْإِفْسَادِ
جَمِيعُ الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَعَاصِي إِفْسَادٌ فِي الْأَرْضِ،
فَلَمْ يُخَصِّصِ اللَّهُ وَصْفَهُ بِبَعْضِ مَعَانِي الْإِفْسَادِ دُونَ بَعْضٍ.
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِفْسَادُ مِنْهُ كَانَ بِمَعْنَى قَطْعِ الطَّرِيقِ،
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ فَقَدْ كَانَ إِفْسَادًا فِي الْأَرْضِ،
لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مَعْصِيَةٌ. غَيْرَ أَنَّ الْأَشْبَهَ بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ
أَنْ يَكُونَ كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَيُخِيفُ السَّبِيلَ، لِأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-
وَصَفَهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا،
وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ، وَالنَّسْلَ، وَذَلِكَ بِفِعْلٍ مُخِيفِ السَّبِيلِ،
أَشْبَهَ مِنْهُ بِفِعْلِ قُطَّاعِ الرَّحِمِ. ( 4)
يقول القرطبي -رحمه الله-:
{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ}
[سورة البقرة : الآية 205]
قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ:
الْفَسَادُ هُوَ الْخَرَابُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ:
قَطْعُ الدَّرَاهِمِ مِنَ الْفَسَادِ في الأرض.
وقال عطاء:
إن رجلا كان يُقَالُ لَهُ عَطَاءُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَنْزِعَهَا. قَالَ قَتَادَةُ قُلْتُ لِعَطَاءٍ:
إِنَّا كُنَّا نَسْمَعُ أَنْ يَشُقَّهَا، فَقَالَ عَطَاءٌ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.
قُلْتُ: وَالْآيَةُ بِعُمُومِهَا تَعُمُّ كُلَّ فَسَادٍ كَانَ فِي أَرْضٍ أَوْ مَالٍ أَوْ دِينٍ،
وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قِيلَ: مَعْنَى لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ أَيْ لَا يُحِبُّهُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ، أَوْ لَا يُحِبُّهُ دِينًا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لا يأمر به، والله أعلم. اهـ. (5 )
ومعنى قوله تعالى:
{ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ}
[سورة الروم : الآية 41]
سمى الله -عز وجل- الجدب في البر والقحط في البحر فسادًا،
بسبب ما كسبت أيدي الناس، ويعفو عن كثير -جل وعلا- .
جزاء المفسدين في الأرض
بَيَّنَ الله -عز وجل- لنا في هذه الآيات أن من اعتدى على أموال الناس،
وأعراضهم، ودينهم، أنه مفسد في الأرض، فما جزاء هذا الذي يفسد ويعتدي؟
بَيَّنَ الله -جل وعلا- الجزاء في كتابه فقال -جل وعلا-:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا
أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُواأَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ
أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ}
[سورة المائدة : الآية 33 ]
هذا جزاء من أفسد في الأرض التي أمر الله -جل وعلا- بإعمارها بطاعته -
جل وعلا-، والانشغال بذكره -جل وعلا-.
يقول الإمام الرازي في تفسيره : لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى تَغْلِيظَ الْإِثْمِ
فِي قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ قَتْلِ نَفْسٍ وَلَا فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ أَنَّ الْفَسَادَ
فِي الْأَرْضِ الَّذِي يُوجِبُ الْقَتْلَ مَا هُوَ، فَإِنَّ بَعْضَ مَا يَكُونُ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ
لَا يُوجِبُ الْقَتْلَ فَقَالَ :
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }
[سورة المائدة : الآية 33 ]. ( 6)
وقد صرح جمع من أهل العلم أنه بمجرد قطع الطريق، أو إخافة السبيل
فهنا ترتكب الكبيرة، فكيف إذا أخذ المال، أو جَرَح، أو قَتَل، أو فعل كبيرة، فكل هذا لا يجوز.
صور الإفساد في الأرض
الصورة الأولى: الشرك بالله -عز وجل-
ما ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم -رحمهما الله- وهي:
الشرك بالله -عز وجل-
والشرك هو مساواة غير الله بالله، فعبادة غير الله -عز وجل-،
والذبح لغير الله، والنذر لغير الله، والدعوة للقبور والمزارات
أن تعبد من دون الله -عز وجل-، أن تُشَدَّ الرحال إليها،
والتوكل عليها، والاستعانة بها ،
والحلف بها، كل هذا من الإفساد في الأرض.
الصورة الثانية: نشر البدعة:
النبي -صلى الله عليه وسلم- حَذَّرَ من الابتداع في الدين،
فقال في حديث عائشة -رضي الله عنها- عنه -صلى الله عليه وسلم-:
«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»( 7).
يقول ابْنُ الْمَاجِشُونِ:
سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: “مَنِ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً،
زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَانَ الرِّسَالَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ:
{اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}
[سورة المائدة : الآية 3]،
فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا، فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا. ( 8)
فمن يدعو الناس إلى البدع، وأن هناك بدعة حسنة،
فإن هذا من تنقص دعوته -صلى الله عليه وسلم-،
واتهام للنبي -صلى الله عليه وسلم-
أنه لم يؤد الرسالة كاملة -صلى الله عليه وسلم-.
الصورة الثالثة : نشر المنكرات والدعوة إليها:
ونشر الفاحشة بين الناس، وتحبيبهم لها، وتذليل الصعوبات التي تواجهها،
والله -عز وجل- نهى عن ذلك فقال:
{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ}
[سورة هود : الآية 116]،
فمدح الله -عز وجل- من يأمر الناس بالمعروف وينهى عن المنكر،
وأنهم يسعون في الأرض بالإصلاح .
الصورة الرابعة: السحر:
السحر سمى الله -عز وجل- فاعله مفسدًا فقال تعالى:
{فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ
إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ}
[سورة يونس : الآية 81]،
وسمى الله عمل السحرة والسحر بأنه عمل المفسدين،
فهم من المفسدين في الأرض.
إن السحر نهى الله – عز وجل- عنه ، ونهى عنه النبي
-صلى الله عليه وسلم-، قال الله -جل وعلا-:
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ}
[سورة البقرة : الآية 102]، ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم-
عن السحر، وبين أنه من السبع الموبقات فقال -صلى الله عليه وسلم-:
«اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ:
«الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ،
وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ
المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ».( 9)
الصورة الخامسة: قتل النفس التي حرم الله
إن من أعظم الحرمات الاعتداء على حرمة المؤمن، فإنه حرمته
من أعظم الحرمات، وهي أعظم من حرمة البيت الحرام،
يقول ابن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- وهو ينظر إلى الكعبة:
“مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ”(10 ).
إن قتل الأنفس المعصومة من كبائر الذنوب، ومن الإفساد في الأرض،
ومن عِظَمِ منزلة المؤمن أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
أولى الناس به في الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه-
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
«مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}
[سورة الأحزاب : الآية 6]
فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، فَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا،
أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهُ»( 11) .
إن الدنيا وما فيها منذ أن خلقها ربنا -عز وجل- إلى قيام الساعة،
إن زوال هذه الدنيا وما فيها أهون عند الله -عز وجل- من قتل رجل مسلم،
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
«لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ»( 12).
وبَيَّنَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مجرد ترويع المسلم لا يحل
فقال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث:
«لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا»( 13).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
«لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا»
رواه البخاري ( 14).
ليس فقط الاعتداء على المسلم أو على النفس المعصومة،
بل حمل السلاح عليها وترويعها وإخافة الآمنين،
كل هذا من الإفساد في الأرض يقول -صلى الله عليه وسلم-:
«مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا»
رواه البخاري ومسلم( 15).
فهذه الأحاديث والأقوال تبين خطر الاعتداء على دماء المسلمين،
بل إن أول ما يحكم بين الناس يوم القيامة في الدماء،
كما ثبت ذلك عند البخاري ومسلم ، من حديث عبد الله بن مسعود
-رضي الله عنه-:
«أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ»( 16).
فإن من صور الإفساد في الأرض ليس قتل نفس المؤمن المسلم،
بل أيضا يشمل ذلك المعاهد، والمستأمن، فإن الله -عز وجل-
قد حفظ له حقه، فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما-
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا
لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»( 17).
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، أحمده -جل وعلا-
وأُثْنِي عليه، هو وحده المستحق للثناء، وأشهد ألا إله إلا الله وحده
لا شريك له، ولا معبود بحق سواه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله،
صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن سار على هُدَاه،
واقتفى أثره إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا، ثم أما بعد:
إن موضوع بحثنا موضوع مهم جدًّا، يجب على المسلم أن يهتم به،
وأن يرعاه، وأن يَتَفَطَّنَ له، وأن يتنبه إلى ما حذره الله تعالى،
فينتهي ويرتدع ويبتعد عن كل أمر وعمل يفسد عليه دينه.
الحكمة من خلق الإنسان
إن الله -جل وعلا- لم يخلقك يا عبد الله لتلهو في هذه الحياة الدنيا،
وتلعب، وتتكاثر في الأموال والأولاد، وإنما خلقك الله لأمر عظيم،
فقد خلقك الله -جل وعلا- لعبادته فقال -جل وعلا-:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}
[سورة الذاريات : الآية 56].
يجب أن نسعى لتحقيق العبادة بفعل ما أمر الله-عز وجل-،
والانتهاء عما نهى الله -عز وجل- عنه، وأن ننصرف عن كل ما نهانا
الله -عز وجل- عنه، وزجرنا عنه نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
لا بد من السعي لتحقيق العبودية، إذا كنا نريد الجنة والدار الآخرة،
فنحشر مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.
عبادة الله تكون على بصيرة، وعلى نور، وعلى برهان، فنعبد الله
-جل وعلا- كما شرع، وأن نتبع شرعه ظاهرًا وباطنًا، سرًّا وعلانية،
ونعلم أن الله مطلع على أحوالنا عالم بسرائر أفعالنا وأعمالنا قال تعالى:
﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
[سورة ق : الآية 18].
مراقبة الله تعالى
إذا علمت أن الله -عز وجل- مطلع على جميع أعمالك وأنه:
{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
[سورة ق : الآية 18]
{مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ}
[سورة المجادلة : الآية 7]،
فالله -جل وعلا- يعلم ما تَعمل، وما تحدث به نفسك، وما تتكلم به
يعلمه الله -جل وعلا- ويُسَجَّلُ عليك في سجل ستجده أمامك،
إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر قال تعالى:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}
[سورة فصلت : الآية 46]،
فالملائكة الكتبة يكتبون في سجل أعمالك ما عملت من عمل،
هل أديت الصلاة في وقتها؟ هل أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر؟
هل حافظت على ذكر الله -عز وجل-؟ هل قمت بصلة الأرحام وبر الوالدين؟
هل أديت ما أوجب الله عليك من واجبات؟ هل حفظت السمع والبصر؟
وحفظت اللسان ألا يتكلم فيما حرم الله؟
{هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
[سورة الجاثية : الآية 29].
النهي عن الفساد في الأرض
إذا تنبه المسلم لذلك وجب عليه أن يسعى للإصلاح في الأرض
لا للإفساد فيها، هذا أمر الله -عز وجل- قال سبحانه:
{وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}
[سورة الأعراف : الآية 56 ]
في كتابه ، وجاءت سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك .
إن الإفساد في الأرض أمر يجب التحذير منه والتنبه له،
لأنه أمر مخالف لدعوة الأنبياء والرسل -عليهم السلام-
الذين جاءوا بالإصلاح في الأرض،
وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله -عز وجل-،
جاءوا ليسعدوا الناس، ولينشروا الخير بينهم، والفلاح والصلاح،
وإن الإفساد في الأرض له ضرر عظيم على البلاد والعباد،
وحتى على الحيوانات، والبر والبحر، كل يتضرر من إفساد العباد في الأرض،
لذا جاءت الآيات في كتاب الله -عز وجل- بالتحذير من الإفساد في الأرض.
تعريف الفساد
ما المقصود بالفساد؟
معناه كما ذكر أهل اللغة
: أن الفساد مصدر فَسَدَ يُفْسُدُ فَسادًا، وهو ضد الإصلاح.( 1) قال الليث:
الفساد نقيض الإصلاح. وقال الراغب: الفساد خروج الشيء عن الاعتدال.
( 2) سواء أكان الخروج عليه قليلا أو كثيرًا، وكل اعتداء على الدين،
أو العقل، أو المال، أو العرض، أو النفس فهو إفساد .
وأما الإفساد في الاصطلاح
:فقد ذكر أهل العلم: أنه إخراج الشيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح.
هذا هو تعريف الإفساد في اللغة وفي الاصطلاح.
ما الفرق بين الإفساد والظلم؟
الإفساد أشمل وأعم من الظلم، لأن الظلم هو النقص، فمن سرق
من مال الناس فقد نقص حق غيره فقط، وأما من أفسد في أموال الناس
فإنه يقع على هذا وعلى غيره.
النهي عن الفساد والإفساد في القرآن
جاءت آيات كثيرة في كتاب الله -عز وجل- تنهى عن الإفساد في الأرض،
قال تعالى:
{وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}
[سورة الأعراف : الآية 56 ]
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في تفسير هذه الآية:
“قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله،
بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل، وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله،
فإن عبادة غير الله ، والدعوة إلى غيره،
والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة
إنما هو بالشرك به، ومخالفة أمره، قال تعالى:
{ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}
[سورة الروم : الآية 41]،
وقال عطية في الآية: “ولا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر،
ويهلك الحرث بمعاصيكم”، وقال غير واحد من السلف:
“إذا قحط المطر فإن الدواب تلعن عصاة بني آدم وتقول:
اللهم العنهم، فبسببهم أجدبت الأرض، وقحط المطر”.
وبالجملة فالشرك والدعوة إلى غير الله، وإقامة معبود غيره،
ومطاع متبع غير رسول الله هو أعظم الفساد في الأرض،
ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود،
والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا،
وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول، فإذا أمر بمعصيته
وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة، فإن الله أصلح الأرض برسوله،
ودينه، وبالأمر بتوحيده، ونهي عن إفسادها بالشرك به،
وبمخالفة رسوله.
ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله،
وعبادته، وطاعة رسوله، وكل شر في العالم، وفتنة، وبلاء، وقحط،
وتسليط عدو، وغير ذلك، فسببه مخالفة رسوله،
والدعوة إلى غير الله ورسوله.
ومن تدبر هذا حق التدبر وتأمل أحوال العالم منذ قام إلى الآن،
وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين،
وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه، وفي حق غيره عموما وخصوصا،
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”. اهـ ( 3)
تنبه لهذا الكلام من الإمام ابن القيم -رحمه الله-، فإن سبب فساد الناس
أنهم تركوا التوحيد، وتركوا العمل به، وتركوا الاهتمام به.
ومن الآيات التي جاءت في كتاب الله -عز وجل- تنهى عن الفساد والإفساد
في الأرض قوله -جل وعلا-:
{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ}
[سورة البقرة : الآية 205]
يقول ابن جرير الطبري -رحمه الله-: اختلف أهل التأويل في معنى الإفساد
الذي أضافه الله -جل وعلا- إلى هذا المنافق الذي ذكره الله في الآية،
فقيل: هو قاطع الطريق. وقيل: الذي يسفك دم المسلمين، إلى آخره.
ويدخل في الإفساد جميع المعاصي.
قال ابن جرير الطبري -رحمه الله-: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ:
إِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَصَفَ هَذَا الْمُنَافِقَ بِأَنَّهُ إِذَا تَوَلَّى مُدْبِرًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَمِلَ فِي أَرْضِ اللَّهِ بِالْفَسَادِ. وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْإِفْسَادِ
جَمِيعُ الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَعَاصِي إِفْسَادٌ فِي الْأَرْضِ،
فَلَمْ يُخَصِّصِ اللَّهُ وَصْفَهُ بِبَعْضِ مَعَانِي الْإِفْسَادِ دُونَ بَعْضٍ.
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِفْسَادُ مِنْهُ كَانَ بِمَعْنَى قَطْعِ الطَّرِيقِ،
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ فَقَدْ كَانَ إِفْسَادًا فِي الْأَرْضِ،
لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مَعْصِيَةٌ. غَيْرَ أَنَّ الْأَشْبَهَ بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ
أَنْ يَكُونَ كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَيُخِيفُ السَّبِيلَ، لِأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-
وَصَفَهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا،
وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ، وَالنَّسْلَ، وَذَلِكَ بِفِعْلٍ مُخِيفِ السَّبِيلِ،
أَشْبَهَ مِنْهُ بِفِعْلِ قُطَّاعِ الرَّحِمِ. ( 4)
يقول القرطبي -رحمه الله-:
{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ}
[سورة البقرة : الآية 205]
قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ:
الْفَسَادُ هُوَ الْخَرَابُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ:
قَطْعُ الدَّرَاهِمِ مِنَ الْفَسَادِ في الأرض.
وقال عطاء:
إن رجلا كان يُقَالُ لَهُ عَطَاءُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَنْزِعَهَا. قَالَ قَتَادَةُ قُلْتُ لِعَطَاءٍ:
إِنَّا كُنَّا نَسْمَعُ أَنْ يَشُقَّهَا، فَقَالَ عَطَاءٌ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.
قُلْتُ: وَالْآيَةُ بِعُمُومِهَا تَعُمُّ كُلَّ فَسَادٍ كَانَ فِي أَرْضٍ أَوْ مَالٍ أَوْ دِينٍ،
وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قِيلَ: مَعْنَى لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ أَيْ لَا يُحِبُّهُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ، أَوْ لَا يُحِبُّهُ دِينًا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لا يأمر به، والله أعلم. اهـ. (5 )
ومعنى قوله تعالى:
{ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ}
[سورة الروم : الآية 41]
سمى الله -عز وجل- الجدب في البر والقحط في البحر فسادًا،
بسبب ما كسبت أيدي الناس، ويعفو عن كثير -جل وعلا- .
جزاء المفسدين في الأرض
بَيَّنَ الله -عز وجل- لنا في هذه الآيات أن من اعتدى على أموال الناس،
وأعراضهم، ودينهم، أنه مفسد في الأرض، فما جزاء هذا الذي يفسد ويعتدي؟
بَيَّنَ الله -جل وعلا- الجزاء في كتابه فقال -جل وعلا-:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا
أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُواأَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ
أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ}
[سورة المائدة : الآية 33 ]
هذا جزاء من أفسد في الأرض التي أمر الله -جل وعلا- بإعمارها بطاعته -
جل وعلا-، والانشغال بذكره -جل وعلا-.
يقول الإمام الرازي في تفسيره : لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى تَغْلِيظَ الْإِثْمِ
فِي قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ قَتْلِ نَفْسٍ وَلَا فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ أَنَّ الْفَسَادَ
فِي الْأَرْضِ الَّذِي يُوجِبُ الْقَتْلَ مَا هُوَ، فَإِنَّ بَعْضَ مَا يَكُونُ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ
لَا يُوجِبُ الْقَتْلَ فَقَالَ :
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }
[سورة المائدة : الآية 33 ]. ( 6)
وقد صرح جمع من أهل العلم أنه بمجرد قطع الطريق، أو إخافة السبيل
فهنا ترتكب الكبيرة، فكيف إذا أخذ المال، أو جَرَح، أو قَتَل، أو فعل كبيرة، فكل هذا لا يجوز.
صور الإفساد في الأرض
الصورة الأولى: الشرك بالله -عز وجل-
ما ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم -رحمهما الله- وهي:
الشرك بالله -عز وجل-
والشرك هو مساواة غير الله بالله، فعبادة غير الله -عز وجل-،
والذبح لغير الله، والنذر لغير الله، والدعوة للقبور والمزارات
أن تعبد من دون الله -عز وجل-، أن تُشَدَّ الرحال إليها،
والتوكل عليها، والاستعانة بها ،
والحلف بها، كل هذا من الإفساد في الأرض.
الصورة الثانية: نشر البدعة:
النبي -صلى الله عليه وسلم- حَذَّرَ من الابتداع في الدين،
فقال في حديث عائشة -رضي الله عنها- عنه -صلى الله عليه وسلم-:
«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»( 7).
يقول ابْنُ الْمَاجِشُونِ:
سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: “مَنِ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً،
زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَانَ الرِّسَالَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ:
{اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}
[سورة المائدة : الآية 3]،
فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا، فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا. ( 8)
فمن يدعو الناس إلى البدع، وأن هناك بدعة حسنة،
فإن هذا من تنقص دعوته -صلى الله عليه وسلم-،
واتهام للنبي -صلى الله عليه وسلم-
أنه لم يؤد الرسالة كاملة -صلى الله عليه وسلم-.
الصورة الثالثة : نشر المنكرات والدعوة إليها:
ونشر الفاحشة بين الناس، وتحبيبهم لها، وتذليل الصعوبات التي تواجهها،
والله -عز وجل- نهى عن ذلك فقال:
{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ}
[سورة هود : الآية 116]،
فمدح الله -عز وجل- من يأمر الناس بالمعروف وينهى عن المنكر،
وأنهم يسعون في الأرض بالإصلاح .
الصورة الرابعة: السحر:
السحر سمى الله -عز وجل- فاعله مفسدًا فقال تعالى:
{فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ
إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ}
[سورة يونس : الآية 81]،
وسمى الله عمل السحرة والسحر بأنه عمل المفسدين،
فهم من المفسدين في الأرض.
إن السحر نهى الله – عز وجل- عنه ، ونهى عنه النبي
-صلى الله عليه وسلم-، قال الله -جل وعلا-:
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ}
[سورة البقرة : الآية 102]، ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم-
عن السحر، وبين أنه من السبع الموبقات فقال -صلى الله عليه وسلم-:
«اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ:
«الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ،
وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ
المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ».( 9)
الصورة الخامسة: قتل النفس التي حرم الله
إن من أعظم الحرمات الاعتداء على حرمة المؤمن، فإنه حرمته
من أعظم الحرمات، وهي أعظم من حرمة البيت الحرام،
يقول ابن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- وهو ينظر إلى الكعبة:
“مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ”(10 ).
إن قتل الأنفس المعصومة من كبائر الذنوب، ومن الإفساد في الأرض،
ومن عِظَمِ منزلة المؤمن أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
أولى الناس به في الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه-
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
«مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}
[سورة الأحزاب : الآية 6]
فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، فَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا،
أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهُ»( 11) .
إن الدنيا وما فيها منذ أن خلقها ربنا -عز وجل- إلى قيام الساعة،
إن زوال هذه الدنيا وما فيها أهون عند الله -عز وجل- من قتل رجل مسلم،
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
«لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ»( 12).
وبَيَّنَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مجرد ترويع المسلم لا يحل
فقال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث:
«لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا»( 13).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
«لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا»
رواه البخاري ( 14).
ليس فقط الاعتداء على المسلم أو على النفس المعصومة،
بل حمل السلاح عليها وترويعها وإخافة الآمنين،
كل هذا من الإفساد في الأرض يقول -صلى الله عليه وسلم-:
«مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا»
رواه البخاري ومسلم( 15).
فهذه الأحاديث والأقوال تبين خطر الاعتداء على دماء المسلمين،
بل إن أول ما يحكم بين الناس يوم القيامة في الدماء،
كما ثبت ذلك عند البخاري ومسلم ، من حديث عبد الله بن مسعود
-رضي الله عنه-:
«أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ»( 16).
فإن من صور الإفساد في الأرض ليس قتل نفس المؤمن المسلم،
بل أيضا يشمل ذلك المعاهد، والمستأمن، فإن الله -عز وجل-
قد حفظ له حقه، فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما-
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا
لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»( 17).
تعليق