إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الواقعية السحرية في ادب غبريال ماركيز

تقليص
هذا الموضوع مغلق.
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    بيئة القصة:

    ربما كانت مواضيع الرواية غير العادية سبباً
    في اعتماد الكاتب بناء غير عادي لروايته
    فهو لم يلتزم جدولاً زمنياً منتظماً لروايته،
    بل جعل حركة التاريخ تكرر نفسها وصولاً الى
    دورانها داخل حلقة واحدة،
    جامعاً بين الماضي والحاضر والمستقبل،
    تماماً كما جمع بين الأسطورة والواقع،
    الحرب والسلم، التخلف والتقدم،
    الشخصي والعام، وكما تعمّد ألا يكون للرواية
    بطلاً رئيسياً، ناهيك عن تكراره غير المألوف
    لأسماء أبطال الرواية.

    ومثلما ترك الكاتب خيار زمان الرواية للقارىء،
    ترك أيضاً أحداثها تتحرك في أمكنة
    غير محددة المعالم. فالكاتب وإن عرض
    بين الحين والآخر بعض التفاصيل المحيطة بأشخاصه،
    لم يصف مثلاً، بدقة وبشكل متكامل
    منزل أسرة "أوريليانو" رغم ايوائه للعشرات
    من أبنائها والمئات من زائريهم،
    كذلك لم يرسم صورة مترابطة لمعالم
    بلدة"ماكوندو" وأبنيتها وساحاتها
    وحقول موزها ومحيطها.
    وكأنه أراد للأمكنة أن يكون معزولاً
    بعضها عن البعض على شاكلة أحداث
    وأشخاص الرواية. علماً بأنه ترك القارىء
    يتخيل أشكال وصور هذه الأمكنة
    من خلال أساليب حياة وأنشطة قاطنيها
    والمتحركين في فلكها.
    وهكذا تصبح الأماكن وهمية لكنها
    في نفس الوقت شبيهة بتلك الأماكن الحقيقية
    التي نعرفها أو نستطيع تخيلها في
    معظم بلدان العالم الثالث،
    فقط من خلال أسلوب الكاتب السردي الرائع
    ومزجه الحذق بين الأسطوري والواقعي.

    طريقة العرض:

    يعتمد الكاتب الأسلوب السردي
    في معظم أجزاء الرواية،
    دون أن يتخلى تماماً عن الأسلوب الحواري
    الذي نقع عليه، بين الحين والآخر،
    وفي جميع فصولها.
    والواضح أن ماركيز عوّض عن تماديه
    في السرد على حساب حوار أشخاص الرواية
    باستخدامه الفذ لأسلوب تصويري أخّاذ،
    بحيث لا ينتبه القارىء لغياب الحوار،
    ما دامت مشاهد الأشخاص وطريقة تفكيرهم
    وأفعالهم كلها تأخذ الى نفس الخلاصات
    التي يبغيها الحوار.
    في هذا الأسلوب مزح ماركيز
    بين عناصر كتابية فنية متنوعة ليس أقلها
    الشعرية والغنائية والتلقائية البعيدة
    عن التكلف والمحسنات اللفظية،
    ناهيك عن بعض التقنيات السينمائية
    بما فيها تقنيات المونتاج والصورة
    عن قرب التي تجمع بشكل شديد التأثير،
    بين الفكاهة والبشاعة من جهة
    والدراما والمأساة من جهة أخرى.
    حتى أن العديد من النقاد
    اعتبروا أن الكاتب استطاع
    في رواية "مئة عام من العزلة"
    أن يصور البشاعة بأجمل حللها.

    تعليق


    • #32
      بعض الاقتباسات
      من رواية "مئة عام من العزلة":

      للأشياء حياتها الخاصة بها
      وما القضية سوى إيقاظ أرواحها.

      إن المرء لا يموت عندما يتوجب عليه الموت،
      وإنما عندما يستطيع الموت.

      ومع ذلك، وقبل أن يصل إلى بيت الشعر الأخير،
      كان قد أدرك أنه لن يخرج أبداً من هذه الغرفة،
      لأنه مقدر لمدينة المرايا (أو السراب)
      أن تذروها الرياح، وتنفى من ذاكرة البشر،
      في اللحظة التي ينتهي فيها أوريليانو بوينديا
      من حل رموز الرقاق،
      وأن كل ما هو مكتوب فيها لا يمكن أن يتكرر،
      منذ الأزل إلى الأبد، لأن السلالات المحكومة
      بـ « مئة عام من العزلة » ليست لها
      فرصة أخرى على الأرض.

      لم يكن يهتم بالموت وإنما بالحياة،
      ولهذا فإن الإحساس الذى راوده
      عندما نطقوا بالحكم،
      لم يكن إحساساً بالخوف وإنما بالحنين.

      بدأ يدرك كم يحب فى الواقع الأشخاص
      الذين كرههم أكثر من سواهم.

      من المؤكد أن ما رأيتموه كان حلماً،
      ففي ماكوندو لم يحدث ولا يحدث شيء،
      ولن يحدث شيء أبداً، إنها قرية سعيدة.

      لا ينتسب الإنسان إلى أرض
      لا موتى له تحت ترابها.

      من الأفضل ألا ننام،
      لأن الحياة ستصبح أكثر عطاء.

      الماضي لم يكن سوى كذبة،
      وأن لا عودة للذاكرة، وأن كل ربيع
      يمضي لا يمكن أن يستعاد،
      وأن أعنف الحب وأطوله وأبقاه
      لم يكن في النهاية سوى حقيقة عابرة.

      وهكذا، فإن المقابلة المنتظرة منذ وقت طويل،
      والتى أعدّ لها كل منهما الأسئلة،
      بل وتوقع الأجوبة عنها،
      تحولت إلى حديث يومي عادي.

      تحدث في العالم أشياء لا تصدق،
      فهناك بالضبط، على ضفة النهر الآخر،
      توجد كل أنواع الأجهزة السحرية،
      بينما نواصل نحن العيش كالحمير.

      تظاهرا بجهل ما يعرفانه كلاهما،
      وما يعرف كل منهما أن الآخر يعرفه.

      أن الأدب أفضل حيلة اخترعها الإنسان
      للسخرية من الآخرين.

      إن العلم قد ألغى المسافات،
      وبعد زمن قصير سيكون في قدرة الإنسان
      أن يرى ما يحدث في أي مكان في العالم
      دون أن يغادر بيته.

      لكل شيء من الأشياء حياته الخاصة،
      والمسألة ببساطة هي بعث اليقظة في أرواحها.

      تقبلها آنذاك لقدرها كان عميقاً إلى حد لا يقلقها
      معه اليقين بأن كل إمكانيات التصحيح باتت مغلقة.

      سوف ينحدر هذا العالم إلى الدرك الأسفل،
      عندما يسافر الناس في الدرجة الأولى،
      بينما يوضع الأدب في مركبة الشحن.

      أن سر الشيخوخة السعيدة ليس إلا؛
      في عقد اتفاق شريف مع الوحدة.

      سوف نفنى هنا، ونتحول إلى تراب في هذا
      البيت الذي لم يبق فيه رجال،
      ولكننا لن ندع لهذه البلدة النكدة فرصة
      للشماتة بنا ورؤية دموعنا.

      لا تقولي وداعاً،
      لا تستعطفي أحداً ولا تنحني أمام إنسان،
      تصوري أنهم أعدموني منذ مدة.

      خير الأصدقاء هو الصديق الميت!

      وكأن الذي كان لم يكن سوى وهم ضائع.

      تعليق


      • #33
        ساحر هو بكل المقاييس

        إن رجلاً مثل ماركيز لن يخرج من
        ذاكرة هذا العالم بسهولة
        حتى و إن أصيبت بالعطب.
        لأنه ترك خلفه أكثر من ذاكرة .....
        وأكثر وجه ......
        والكثير من الأسماء التي تكبر بيننا نيابة عنه.

        كانت الكتابة حياته
        حتى اللحظات الأخيرة من عمره......
        حتى وهو يعاني فقدان الذاكرة
        كان يكتب كطفل صغير
        أول حرف من اسمه،
        وأسماء العصافير،
        وألوان قوس قزح.

        طوال حياته لم يستسلم للمألوف،
        كان مختلفاً في صنع حكايته وأبطاله.
        يمزج الخيال بالواقع بطريقته الخاصة.....
        بتفاصيله التي يتقن صنعها.....
        بالاقتراب من مركز الألم والحزن والموت
        من دون أن يرتجف قلمه.

        استطاع بمهارة
        أن يحرك بوصلة الكتابة الروائية
        نحو وجهة أخرى.
        أصاب الجميع بالدهشة
        و كأنه تحول فجأة
        لحقل شاسع من الحروف الناضجة....
        ينبت لنا حكايات تشبهنا.

        لذلك كان علينا أن نلوح له
        ونقول :
        شكراً «غابو»
        لأنك كنت لسان الإنسانية
        الذي عاش من أجل أن يروي لنا.

        طيب الله أوقاتكم
        تحياتي

        تعليق


        • #34
          في ذكرى رحيله الخامسة
          كتب ناصر عراق
          مرثية بفكرة رائعة

          كيف استقبل نجوم رواياته خبر موته؟
          ماذا قال الجنرال والبطريرك والدكتور
          والعاشق المحروم عندما رأوا جثمانه؟

          يجلس الكولونيل أورليانو بوينديا
          بطل رواية مائة عام من العزلة
          حزينا لقد كان أول الواصلين
          حين داهمه الخبر المؤلم
          وهو ينظف سلاحه تحت خيمة
          منصوبة على أطراف قريته ماكوندو.
          يوزع بصره بين العشرات الذين
          خرجوا من الكتب،
          وهجروا الروايات والقصص
          وجاءوا إلى المكسيك
          يعتريهم فزع شديد..
          يتأمل ملامح الميت فيدخل
          في نوبة بكاء حارة..
          لم يهتم الكولونيل بمنصبه الرسمي
          ولا بدلته العسكرية ولا حروبه
          الاثنتين والثلاثين التي خاضها
          بقلب جسور وخسرها جميعًا،
          ولا أبناءه السبعة عشر
          الذين قتلوا كلهم في ليلة واحدة،
          ولا زوجاته المجهولات..
          لم يهتم بكل الواقفين والذاهلين
          والحزانى، لم يهتم حتى بالبطريرك
          الذي وصل إلى هنا بكامل ملابسه
          الرسمية ونياشينه الذهبية وأعوامه
          غير المحددة.. لم يهتم الكولونيل
          بأحد وترك روحه تنعم بلذة
          البكاء على الفقيد.
          أما فلورنتينو أريثا العاشق المحروم
          في رواية الحب في زمن الكوليرا
          فقد هرع من قمرة الغرام
          وأمر قبطان السفينة أن يتوقف
          فورًا عندما أخبره برحيل
          سيد الروائيين وامبراطور الرواية..
          لم ينتظر فلورنتينو أريثا حبيبته
          التاريخية لترتدي ملابسها وتلحق به،
          إذ لم يخطر بباله قط أن تكون
          أجراس الكنائس قد قرعت إعلانا
          بوفاة ماركيز. لقد انتظر العاشق
          الفذ من قرن إلى آخر ودون تذمر
          موت غريمه في الرواية الدكتور
          خوفينال أربينو، حتى يظفر
          بمعشوقة الفؤاد، وهو ما تحقق له،
          لكنه أبدًا لم يضع غياب "مخترعه"
          في جدول أحوال الميتين.
          اخترق فلورنتيو أريثا الحشود التي
          انهمرت على بيت ماركيز بالمسكيك،
          فعرفه معظم الحاضرين من ملابسه
          التي تعود موضتها إلى
          القرن التاسع عشر وملامحه التي
          تشبه "كلبًا مضروبًا بالعصا".
          أفسحوا له الطريق إلى بهو الدار،
          حيث يرقد الرجل الوحيد في هذا
          العالم الذي يعرف أسرار العاشق
          المنبوذ ومغامراته الليلية.
          اقترب فلورنتينو من الجثمان المسجى
          في تابوت خشبي مرصع بورود كثيرة،
          فتساءل خاطره "كل هذه الورود
          من أجل ميت واحد..
          حقا لقد كان ماركيز رجلا عبقريًا"**
          بعكازه وسنواته الثمانية والسبعين
          انحنى بطل "الحب في زمن الكوليرا"
          ليعاين وجه
          "أجمل رجل ميت في العالم"،
          فرنا إلى حاجبيه الكثيفين
          وعينيه النائمتين وشعره الأبيض،
          فانفطر قلبه ووضع وجهه
          في راحتيه واستسلم لموجة نحيب صامت!
          في تلك اللحظة بالضبط،
          كانت فيرمينا داثا قد وصلت
          إلى حيث يقف أول عشاقها
          التي لم تتزوجه أبدًا، فخشيت عليه
          أن يسقط من فرط الحزن والشيخوخة.
          لملمت ثلاثة أرباع القرن من عمرها
          واتكأت على أحزانها، واقتادته نحو
          زاوية قصية في بهو الدار ليستريح
          على أول كرسي، لكنها لم تنس أن
          تلقي نظرة على جثمان ماركيز،
          فاكتشفت أن شاربه صار أجمل
          حين صبغه الزمن باللون الأبيض.
          أمسك فلورنتينو أريثا يد محبوبته
          كطفل تائه، والتصق بها ليحمي نفسه
          من ورطة السقوط على الأرض
          إذا خانته ساقاه النحيلتان،
          لكنه لم ينتبه أبدًا إلى الدموع
          غير المرئية التي ظلت تذرفها فيرمينا
          على ماركيز الذي نفخ في روحها
          وجعلها تنافس عشيقات سابقات
          في التاريخ والكتب مثل كليوباترا
          وجولييت وليلى وبثينة.
          على الأرض.. عند حافة التابوت
          جلس سانتياجو نصار محزونا مقهورًا،
          لقد منحه ماركيز صك العبور
          بسلاسة في أروقة الزمن حين
          اختاره ليكون بطل تحفته الروائية..
          الأعجوبة (سرد أحداث موت معلن).
          كان سانتياجو مازال شابًا
          في الحادية والعشرين برغم أنه قتل
          في الرواية منذ أربعة عقود تقريبًا.
          لم يلحظ أحد كيف مرق الشاب القتيل
          بين الجموع التي تتزايد كل لحظة،
          ولم ينتبه أحد إلى أنه سانتياجو
          نفسه إلا حين صرخ الدكتور
          خوفينال أوربينو في وجهه:
          (ألست سانتياجو؟).
          هذه الصرخة ألقت في قلب زوجته
          فيرمينا داثا الذعر، إذ رأت رجل حياتها
          قد بعث حيًا، فتعجبت متسائلة:
          (ألم يمت خوفينال قبل أعوام قليلة،
          وتركني نهبًا لوحدة فظيعة بعد زواج
          نصف قرن، فمن أين أتى؟)،
          ثم أخفت نفسها خلف ظهر
          العاشق القديم، وظلت تترصد زوجها بقلق!
          لم ينتبه فلورنتينو أريثا إلى المأزق
          الذي سببه موت ماركيز،
          الذي جمع الزوج والزوجة والعشيق
          أمام جثمانه ليودعوه بعد نحو 28 سنة
          على احتلالهم أكرم ركن في
          قصر الرواية العالمية.
          ولم يدر أنه الآن في موقف صعب
          لا يحسد عليه، فماذا سيقول للدكتور
          إذا علم أن زوجته كانت تبادله الغرام
          منذ قرن من الزمان؟
          وأنها الآن – بعد رحيل الزوج –
          استردت حيوية القلب ونشوة الجسد
          في حضنه، وأنهما سعيدان إلى
          أقصى مدى برغم أنهما يبحران
          في سفينة تعجز عن التوقف
          في أي ميناء بسبب جائحة الكوليرا؟
          ولعل ذلك ما دفع فيرمينا إلى
          الارتباك الشديد، إذ وجدت نفسها
          مختبئة خلف عاشق متهالك،
          ونظراتها موزعة بين زوج قام من
          الأموات، وروائي اختار العزلة الأبدية
          بعد نصف قرن من الإبداع الساحر.
          لاح الدكتور خوفينال أمام التابوت
          مستمتعًا بأناقته المعتادة،
          بدلة كتان بيضاء فوق قميص أبيض
          ورابطة عنق غامقة،
          ممسكا بعصا من الأبنوس ومن جيب
          سترته تتدلى ساعة ذهبية ابتاعها
          من باريس. انحنى بصعوبة فوق
          جثمان الرجل الذي عبث بحياته
          وأدخله حظيرة الموت بسبب
          ببغاء طائشة..
          مدّ يده ليلمس جفن ماركيز،
          وكأنه يريد أن يتأكد من أنه غادر
          حياتنا بالفعل.. ثم هتف كأنه يلقي
          درسًا على تلاميذه في كلية الطب:
          (انظروا جيدًا.. إنه مازال حيًا..
          ماركيز مازال حيًا..
          لا تحزنوا ولا تقلقوا،
          فهذا النوع من البشر لا يموت أبدًا).
          لم يسمعه سوى سانتياجو نصار
          الذي هب واقفا، بعد أن جفف
          دموعه بكم قميصه الملوث بالدم،
          وسأله بقلب واجف:
          (كيف لا يموت ماركيز،
          وقد جعلهم يقتلونني غدرًا وظلمًا).
          سدد له الدكتور خوفينال نظرة استخفاف،
          واكتفى بأن ألقى في أذنه هذه العبارة:
          (يا بني.. لا أعرف إن كنت مظلومًا
          أم ظالمًا، أرجوك..
          لا تدخلني في مسائل الشرف)،
          ثم ترك موقعه ودار حول نفسه باحثا
          عن مقعد ليجلس. ومن عجب أن
          المقعد الشاغر الوحيد كان بجوار الكرسي
          الذي استقبل فلورنتينو أريثا، وهكذا
          مرّ الدكتور أمام زوجته، ولم يلحظها،
          لأنها راقبت حركته، فاستدارت في
          الجهة المقابلة، لكن بعد أقل من
          ثلاثين ثانية لاحظت فيرمينا أن زوجها
          سليل الأسر الأرستقراطية قد استسلم
          لقوانين الغفوة، وانزلق نحو وادي
          النوم العميق غير عابئ بالجموع
          والدموع والجنازة، فانتهزت الفرصة
          وسحبت محبوبها، وتوجهت به نحو أريكة
          في ركن قصي من البهو.
          ازدادت الجلبة، وانهمر الآلاف على
          بيت أعظم روائي في القرن العشرين،
          وشكلت الحشود القادمة من قرية
          ماكوندو أكبر كتلة بشرية في هذا
          الحشد الجنائزي، وقد رفع شبان
          القرية لافتات عزاء وامتنان للرجل
          الذي أوجدها من العدم، وأدخلها
          أبهى صفحة في كتب التاريخ،
          ثم أقبلت كتلة بشرية أخرى تحمل
          جثمان رجل خارق الطول، بالغ الجمال
          والوسامة، ويرفع شبابها ونساءها
          لافتات كتب عليها
          "نحن أهالي قرية إستبان..
          قرية أجمل رجل غريق في العالم"،
          وقد لاحت بوادر مشاحنات خفيفة
          بين أهالي قريتي ماكوندو وإستبان
          بسبب إصرار كل منهما على الالتصاق
          بالتابوت والاستحواذ البصري على
          جثمان ماركيز، لكن فجأة سُمع صراخ
          شديد اخترق الجدران وأسقط النجفة
          المعلقة في الصالة المجاورة،
          فكف البكاءون عن البكاء،
          وتوقفت النساء عن الولولة،
          واشرأب الجميع نحو صاحب الصوت
          المخيف، فكان هو الرئيس البطريرك المعجزة
          بطل رواية خريف البطريرك
          وقد أزعجه الصخب، وضايقته المشاحنات،
          وهو يستمتع بغفوته على أريكة
          فخمة تعود إلى فترة حكمة السابعة.
          أفاق البطريك مرتعشا يتصبب عرقا
          وحنينا، إذ كان يحلم بأمه بائعة الدجاج
          في السوق الشعبي، فصرخ آمرًا
          الجميع بالصمت، إذ صاح
          "اصمتوا يا أوباش.. التوقيع أنا..
          وأكرر أنا شخصيًا".
          لم يعرف أحد أبدًا كيف استقرت
          هذه الأريكة الفخمة أمام التابوت
          الذي ينام فيه ماركيز للمرة الأخيرة،
          فمن قال إنهم أتوا بها احترامًا
          لفخامة الرئيس/ البطريرك الذي لا يموت،
          ومن زعم أن ماركيز نفسه هو الذي
          أوصى بتقديم كافة المراسيم اللائقة
          في جنازته إلى أهم شخصية روائية اخترعها،
          ومن قال إن الرئيس/ البطريرك اكتشف
          وجود هذه الأريكة في المكان المميز
          أمام التابوت،
          وكان يجلس عليها أربعة أشخاص،
          فأمر حراسه بإطلاق الرصاص عليهم،
          وتصفيتهم في الحال، ليستريح
          عليها دون إزعاج!
          مثلما أفاق البطريك فجأة،
          وأطلق على الجميع رصاصات السخط
          لأنهم أزعجوه وأيقظوه من حلمه مع أمه،
          عاد سيرته الأولى، واضطجع على جانبه الأيمن، واستسلم لنعمة النوم في ثوان،
          فارتفع البكاء، وانتشر اللغط،
          لأن سانتياجو نصار صرخ:
          "لقد اختفى جثمان ماركيز"،
          وانكفأ الناس على التابوت فوجدوه
          فارغا، إلا من الورود الكثيرة،
          وتبودلت اتهامات، وانطلقت تخمينات،
          وأقسم أحد الحضور أنه رأى
          جثمان ماركيز يرتفع إلى السماء،
          وأعلنت امرأة عجوز من ماكوندو
          أنه أخبرها بنيته في الذهاب
          إلى شاطئ الكاريبي ليجرب الموت
          بطريقة أخرى،
          وغمغم الكولونيل أورليانو بوينديا:
          "إن الكل يكذب..
          لأن لا أحد في العالم يعلم
          ماذا سيفعل ماركيز بالضبط؟"،
          لكن فيرمينا داثا أشارت للجميع
          أن يصمت حين لاحظت السفير
          الكولومبي يدخل من البهو الرئيسي،
          فالتفتوا نحو السفير
          الذي قال بصوت معدني:
          "لقد أحرقنا جثمان ماركيز".
          هزت الجموع رؤوسها استسلاما
          لنهاية متوقعة، كما هي العادة،
          لكن فيرمينا داثا لم تملك نفسها
          من البكاء، فارتجف فلورنتينو أريثا،
          وتحامل على نفسه ونهض وأحاطها
          بذراعه غير عابئ بزوجها النائم،
          وودّ لو يقبّل رموشها التي
          التمعت بنور الدموع،
          لكنه تحرج من الزحام،
          وهمس في أذنها بصوت عاشق
          ملهوف أدركت جيدًا رنينه السحري
          المتدفق منذ القرن قبل الماضي:
          "حبيبتي لا تجزعي فماركيز حي،
          ويكفيه ويكفينا أنه أدخلنا
          كتب التاريخ ليزدان فن الرواية
          بحكايتنا المذهلة"**

          تعليق

          مواضيع تهمك

          تقليص

          المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 06-08-2025 الساعة 11:33 PM
          المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 06-04-2025 الساعة 05:29 PM
          المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 05-31-2025 الساعة 10:07 PM
          المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 05-30-2025 الساعة 11:48 PM
          المنتدى: التصنيع والانتاج نشرت بواسطة: HaMooooDi الوقت: 05-30-2025 الساعة 09:36 AM
          يعمل...
          X