الجرنيكا..
بين وحشية الحرب وساحات القضاء
1
الخميس 19إبريل - نيسان 2007
عبدالرحمن القادر
في تاريخ الفن، نشاهد عدة ظواهر إبداعية جديرة بالتقييم والتنويه كانت بمثابة علامات بارزة وتحولات عظيمة في المسار الفني، على أيدي الكثير من عباقرة الفن الذين لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا وسجلوها في روائعهم الفنية الخالدة التي حفلت بالأحداث المروعة والحروب الطاحنة، ومواقف تاريخية حظيت بالنصيب الأوفر من عطاء هؤلاء الفنانين الأفذاذ..ويحدثنا التاريخ عن تلك القرائح الفنية المتقدة التي تتفاعل مع الأحداث وتنفعل بما يدور حولها من تحولات مصيرية.. فتستلهم هذه وتلك وتسجلها في أعمال فنية هي علامات بارزة تحدد معالم المسيرة الإنسانية على مر العصور..وبدون ذلك تنتهي الأحداث والمواقف التاريخية كما ينتهي البشر..وكما تخمد ألسنة اللهب لتصبح رماداً..ولكن آثار الفنانين والعلماء تظل باقية في ذمة التاريخ والفكر والوجدان.. أسوق هذه المقدمة وأنا بصدد الحدث عن «جرنيكا» بيكاسو الفنان العظيم. في عام 1950م عرضت فرنسا فيلماً سينمائياً عن مأساة «جرنيكا» اعتبره النقاد تجربة رائدة في عالم السينما، حيث حصل على جائزة أحسن فيلم عن الفنون التشكيلية، فقد كتب مادته شاعر فرنسا الكبير «بول إيلوار» عام 1947م وكانت عبارة عن قصيدة رمزية مطولة تفيض بالمشاعر الدرامية والشجن الدامي، متأثراً بلوحة جرنيكا الشهيرة التي رسمها الفنان «بابلوبيكاسو» عام 1936م بعد أسابيع قليلة من المأساة المروعة التي راح ضحيتها سكان القرية الاسبانية الوادعة «جرنيكا» عندما ألقى عليها الألمان وابلاً من قنابلهم فدمرت القرية بمن فيها عن آخرهم..واندثرت تحت الأنقاض جثث ألفين من القرويين العزل هم كل سكان هذه القرية البائسة. وقصة الجرنيكا حدث مروع من أحداث القرن العشرين الذي يزخر بالصراعات المأسوية والأطماع الاستعمارية والتسلط، وقد اتخذ من هذا الحدث الجلل مادة درامية للشعراء والأدباء والفنانين وكل صنوف الفكر الإنساني المعاصرة، ولكي نستعرض مأساة قرية جرنيكا على أيدي قوى الشر النازية نعود إلى عام 1931م في اسبانيا فنرى أن الملك «الفونسو» قد تنازل عن الحكم ولم يصمد أمام قوة الجمهوريين المناوئة لحكمه آنذاك ونتيجة لذلك أعلنت الجمهورية الاسبانية الثانية برئاسة «زامورا» الذي استمر في الحكم سنوات مليئة بالقلاقل والاضطرابات بين التقليديين والراديكاليين وكانت فرصة سانحة للقوى النازية الألمانية التي كانت تتأهب للسيطرة على مقدرات أوروبا والعالم بأسره فاحتضنت ال***** «فرانكو» وكان مرابطاً بقواته في المغرب ـ وشجعته على الزحف بقواته والاستيلاء على حكم البلاد..وضعت تحت يده العتاد الحربي والطائرات النازية لتنفيذ هذه المغامرة وكان لابد من كبش فداء لبث الرعب في نفوس القوى المعارضة فوقع الاختيار على قرية جرنيكا، وهي إحدى قرى اقليم «الباسك» في شمال اسبانيا وفي صباح يوم 26 ابريل من عام 1936م وكان يوم السوق الأسبوعي للقرية ـ فوجئ السكان البسطاء بالسماء من فوق رؤوسهم وقد امتلأت بالطائرات الألمانية الغازية؟ تلقي بقنابلها عليهم وتدك البلدة بمافيها ومن فيها حتى أحالتها إلى دمار ورماد وأشلاء..وعلى مدى ثلاث ساعات ونصف الساعة قتل ألفان من المدنيين هم كل سكان القرية..وبهذا العمل الوحشي، سهلت مهمة ال***** فرانكو بعد أن تحققت أهداف النازية في إرهاب الشعب الاسباني لكي يخضع لسلطة عميلها والاستيلاء تماماً على كل أرجاء البلاد وكان هذا العمل المشين، مقدمة للحرب الأهلية الاسبانية التي اندلعت في 18 يوليو من ذلك العام كما كان في نفس الوقت ـ مقدمة وتمهيداً للحرب العالمية الثانية التي اشتعل أوارها بعد ذلك بنحو خمس سنوات. الانفعال والعطاء وكان طبيعياً أن ينفعل الفنان الاسباني الكبير بابلوبيكاسو بهذا الحدث المروع، فأعد لوحة ضخمة «عرضها نحو ثمانية أمتار وارتفاعها ثلاثة أمتار ونصف المتر» وبدأ بعد أسابيع قليلة من مأساة جرنيكا وبعد أن أصبح في قمة تفاعله وانفعاله برسم هذه اللوحة التي قدر لها بعد ذلك أن تشغل العالم بأسره قرابة نصف قرن وبالرغم من أن بيكاسو حاول دائماً أن يكون بعيداً عن السياسة وكان يقيم بصفة دائمة في فرنسا، إلا أن قدره هيأ له أن يلعب دوراً هاماً وفريداً في الحرب الأهلية الاسبانية بهذه اللوحة العملاقة وقد ألزم نفسه في لوحة «جرنيكا» باللونين الأبيض والأسود مع درجات متفاوتة من اللون الرمادي، وحرم نفسه تماماً من استخدام الألوان الأخرى كالأحمر والأصفر والأزرق، وهي الأكثر قدرة على التعبير كماهو متبع في مثل هذه اللوحات الرمزية الضخمة
إنه موقف يذكرنا بمافرضه على نفسه أبو العلاء المعري في الروميات، حيث ألزم نفسه بمالايلزم ولكن في مقابل استغنائه عن الألوان أجبر بيكاسو على أن تكون أي لمسة في اللوحة الكبيرة رمزاً أو علامة مميزة على المأساة والرعب المجسد الذي يعانيه أناس جثم عليهم شبح الدمار والموت الرهيب! وعندما افتتح المعرض الدولي في باريس عام 1937م عرضت الجرنيكا لأول مرة واحتلت مكان الصدارة في الجناح الاسباني وسرعان ماأصبحت بؤرة الاهتمام ومثار التعليقات في الصحافة العالمية، وتحول ازاءها المثقفون والنقاد والمتذوقون إلى مؤيد ومعارض..وخرجت من هذا المعرض تعليقات وشعارات مدوية على لسان القادة والمفكرين من كبار الشخصيات المعاصرة وكتب عنها الشاعر الشهير ـ حينذاك مايكل ليريس قصيدة يقول في مطلعها: إنها ـ أي الجرنيكا ـ جرس إنذار؟ إن كل ماتحبه أن كل مانحبه يوشك أن ينزوي ويندثر، تحت أقدام الغزاة! وفي عام 1939م..وكانت سحب الحرب العالمية الثانية تتراكم حالكة السواد في سماء أوروبا والعالم..ونذر الدمار تنذر بالخراب الشامل القريب، خشي بيكاسو على اللوحة فقرر إرسالها بعيداً عن أوروبا لتحفظ في نيويورك بمتحف الفن الحديث هناك وظلت اللوحة في امريكا.. وكان طبيعياً أن تعود اللوحة بعد انتهاء الحرب..ولكن بيكاسو أعلن أن «الجرنيكا» تخص الشعب الاسباني وطلب من أمريكا أن تحتفظ باللوحة حتى تتخلص اسبانيا من حكم الفاشية وتعود مرة أخرى جمهورية ديمقراطية ونص عند إعادتها أن تذهب إلى متحف «برادو» بمدريد وظلت اسبانيا تحت حكم فرانكو، يحكمها حكماً دكتاتورياً مطلقاً..وطال حكمه ومات بيكاسو عام 1973م قبل أن تتحقق الديمقراطية التي كان يتمناها لبلاده..وبذلك كتب على اللوحة أن تتشرد إلى أن يقضي الله برحيل فرانكو..وبعد وفاة بيكاسو بعامين 1975م مات فرانكو..وبدأ التفكير في إعادة اللوحة إلى اسبانيا وهنا ظهرت المشاكل التي احتلت ساحات القضاء الأمريكي والاسباني معاً. واحتدم النزاع طالب ورثة بيكاسو بأحقيتهم في امتلاك اللوحة وأثار محامي العائلة « رولاندرومكان» اعتراضهم على تنفيذ الوصية التي تنص على أن تذهب الجرنيكا إلى متحف برادو ـ وفي نفس الوقت طالب سكان مدينة «مالاجا» أو «ملقة» الاسبانية بأنهم أحق من غيرهم في امتلاك اللوحة حيث أن مالاجا هي مسقط رأس الفنان بيكاسو وحري بهم أن تتشراف المدينة بإقتناء عمل من أهم أعماله الخالدة! إلا أن مدينة برشلونة تصدت لهذا الإدعاء وطالبه في ساحات العدالة بأن يكون هذا الميراث من حق سكانها لأن بيكاسو رحل إلى برشلونة وعمره اثنتا عشرة سنة حيث درس في مدرسة الفنون هناك، واستقر في المدينة إلى أن صار فناناً حتى رحل إلى باريس، وأضافوا إلى ذلك أن «متحف بيكاسو» ببرشلونة يضم نحو ألف وستمائة لوحة من أهم أعماله..ويجب أن تكون «الجرنيكا» على رأس هذه الأعمال التي اهداها بيكاسو بنفسه إلى مدينته المحببة التي كان يفضلها على سواها من المدن الاسبانية أما الجهة الرابعة فهي مدريد فقد تمسك أهالي العاصمة بتنفيذ وصية الفنان وهي إيداع اللوحة في متحف البرادو العريق غير أن مديري المتحف بالرغم من تلهفهم على تنفيذ الوصية ـ يجدون أنفسهم في موقف ضعيف إذ أن نظام التهوية والإضاءة في المتحف الذي انشئ عام 1918م لايناسب المواصفات العالمية المطلوبة للحفاظ على مثل هذا العمل الثمين، وهنا ثار أهالي العاصمة..وعقدوا الاجتماعات الشعبية المتحمسة وتعهدوا بعمل اكتتاب لتدعيم المتحف وتجديده وأبدوا تمسكهم باستقبال اللوحة تنفيذاً لوصية الفنان العظيم وتحركت الجهة الخامسة التي لزمت الصمت طوال هذه المنازعات..إنها مدينة جرنيكا.. صاحبة المأساة ومسرح الحدث الدرامي المروع فقد انبرت هي الأخرى لتقول: إننا لا نفاخر بألف وستمائة لوحة من أعمال بيكاسو كما فعلت برشلونة، ولكننا نستطيع أن نحصي أكثر من ألف وتسع مائة قتيل خلفتهم الطائرات النازية وراءها يوم الغارة الوحشية..وعلى ذلك فإن أحقيتنا في امتلاك اللوحة مشروعة ومشفوعة بدماء الشهداء! إلا أن قسماً كبيراً من أهل جرنيكا أعربوا عن تنازلهم عن هذه الأحقية بل وعارضوا بشدة مشاهدة اللوحة في مدينتهم حتى لاتجدد أحزانهم وتذكرهم بمأساة آبائهم تلك المأساة الدامية التي يندى لها جبين الإنسانية.. وهددوا بحرق اللوحة إذا هي عادت إليهم وبذلك انسحب من الساحة أحد المطالبين بالميراث..واحتدم النزاع وشهدت ساحات القضاء الاسباني والأمريكي هذه الدعاوى التي يحشد كل طرف فيها قدر مايستطيع من الحجج والأسانيد والدوافع والبراهين..وأخيراً..تدخل الكونجرس الأمريكي وحسم النزاع فقرر في مايو 1978م أن اللوحة ينبغي إعادتها إلى الشعب الاسباني وحكومة الديمقراطية وبعد أربعة عشر شهراً من هذا القرار منح شعب الباسك الحكم الذاتي وصدر في اسبانيا دستور ديمقراطي جديد ولم يلبث أن أعلن بعد ذلك أن لوحة جرنيكا فخر الفن الاسباني الحديث تعبر الاطلنطي مرة أخرى في عام 1981م لتعود إلى وطنها الأصلي أثناء الاحتفالات التي ستقام في اسبانيا بمناسبة مرور مائة عام على مولد بيكاسو. وفي صباح يوم 10 سبتمبر من عام 1981م نزلت طائرة أمريكية عملاقة على أرض المطار بالعاصمة الاسبانية مدريد وهي تحمل لوحة جرنيكا وكان في استقبالها حرس شرف رسمي كما يستقبل العظماء، وقد فرشت الأرض من تحتها ببساط أحمر واطلقت المدفعية احتفاءً بها إحدى وعشرين طلقة قبل أن تأخذ طريقها إلى متحف البرادو لتنفيذ الوصية. وهكذا قوبلت اللوحة الشهيرة بمثل مايقابل به الملوك والرؤساء وإن لم تكن هذه اللفتة الكريمة تحية للرسام الكبير فهي أروع تحية للفن الرفيع الذي يثير الوجدان ضد الحرب..ويدعو إلى الحرية والسلام.
بين وحشية الحرب وساحات القضاء
1
الخميس 19إبريل - نيسان 2007
عبدالرحمن القادر
في تاريخ الفن، نشاهد عدة ظواهر إبداعية جديرة بالتقييم والتنويه كانت بمثابة علامات بارزة وتحولات عظيمة في المسار الفني، على أيدي الكثير من عباقرة الفن الذين لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا وسجلوها في روائعهم الفنية الخالدة التي حفلت بالأحداث المروعة والحروب الطاحنة، ومواقف تاريخية حظيت بالنصيب الأوفر من عطاء هؤلاء الفنانين الأفذاذ..ويحدثنا التاريخ عن تلك القرائح الفنية المتقدة التي تتفاعل مع الأحداث وتنفعل بما يدور حولها من تحولات مصيرية.. فتستلهم هذه وتلك وتسجلها في أعمال فنية هي علامات بارزة تحدد معالم المسيرة الإنسانية على مر العصور..وبدون ذلك تنتهي الأحداث والمواقف التاريخية كما ينتهي البشر..وكما تخمد ألسنة اللهب لتصبح رماداً..ولكن آثار الفنانين والعلماء تظل باقية في ذمة التاريخ والفكر والوجدان.. أسوق هذه المقدمة وأنا بصدد الحدث عن «جرنيكا» بيكاسو الفنان العظيم. في عام 1950م عرضت فرنسا فيلماً سينمائياً عن مأساة «جرنيكا» اعتبره النقاد تجربة رائدة في عالم السينما، حيث حصل على جائزة أحسن فيلم عن الفنون التشكيلية، فقد كتب مادته شاعر فرنسا الكبير «بول إيلوار» عام 1947م وكانت عبارة عن قصيدة رمزية مطولة تفيض بالمشاعر الدرامية والشجن الدامي، متأثراً بلوحة جرنيكا الشهيرة التي رسمها الفنان «بابلوبيكاسو» عام 1936م بعد أسابيع قليلة من المأساة المروعة التي راح ضحيتها سكان القرية الاسبانية الوادعة «جرنيكا» عندما ألقى عليها الألمان وابلاً من قنابلهم فدمرت القرية بمن فيها عن آخرهم..واندثرت تحت الأنقاض جثث ألفين من القرويين العزل هم كل سكان هذه القرية البائسة. وقصة الجرنيكا حدث مروع من أحداث القرن العشرين الذي يزخر بالصراعات المأسوية والأطماع الاستعمارية والتسلط، وقد اتخذ من هذا الحدث الجلل مادة درامية للشعراء والأدباء والفنانين وكل صنوف الفكر الإنساني المعاصرة، ولكي نستعرض مأساة قرية جرنيكا على أيدي قوى الشر النازية نعود إلى عام 1931م في اسبانيا فنرى أن الملك «الفونسو» قد تنازل عن الحكم ولم يصمد أمام قوة الجمهوريين المناوئة لحكمه آنذاك ونتيجة لذلك أعلنت الجمهورية الاسبانية الثانية برئاسة «زامورا» الذي استمر في الحكم سنوات مليئة بالقلاقل والاضطرابات بين التقليديين والراديكاليين وكانت فرصة سانحة للقوى النازية الألمانية التي كانت تتأهب للسيطرة على مقدرات أوروبا والعالم بأسره فاحتضنت ال***** «فرانكو» وكان مرابطاً بقواته في المغرب ـ وشجعته على الزحف بقواته والاستيلاء على حكم البلاد..وضعت تحت يده العتاد الحربي والطائرات النازية لتنفيذ هذه المغامرة وكان لابد من كبش فداء لبث الرعب في نفوس القوى المعارضة فوقع الاختيار على قرية جرنيكا، وهي إحدى قرى اقليم «الباسك» في شمال اسبانيا وفي صباح يوم 26 ابريل من عام 1936م وكان يوم السوق الأسبوعي للقرية ـ فوجئ السكان البسطاء بالسماء من فوق رؤوسهم وقد امتلأت بالطائرات الألمانية الغازية؟ تلقي بقنابلها عليهم وتدك البلدة بمافيها ومن فيها حتى أحالتها إلى دمار ورماد وأشلاء..وعلى مدى ثلاث ساعات ونصف الساعة قتل ألفان من المدنيين هم كل سكان القرية..وبهذا العمل الوحشي، سهلت مهمة ال***** فرانكو بعد أن تحققت أهداف النازية في إرهاب الشعب الاسباني لكي يخضع لسلطة عميلها والاستيلاء تماماً على كل أرجاء البلاد وكان هذا العمل المشين، مقدمة للحرب الأهلية الاسبانية التي اندلعت في 18 يوليو من ذلك العام كما كان في نفس الوقت ـ مقدمة وتمهيداً للحرب العالمية الثانية التي اشتعل أوارها بعد ذلك بنحو خمس سنوات. الانفعال والعطاء وكان طبيعياً أن ينفعل الفنان الاسباني الكبير بابلوبيكاسو بهذا الحدث المروع، فأعد لوحة ضخمة «عرضها نحو ثمانية أمتار وارتفاعها ثلاثة أمتار ونصف المتر» وبدأ بعد أسابيع قليلة من مأساة جرنيكا وبعد أن أصبح في قمة تفاعله وانفعاله برسم هذه اللوحة التي قدر لها بعد ذلك أن تشغل العالم بأسره قرابة نصف قرن وبالرغم من أن بيكاسو حاول دائماً أن يكون بعيداً عن السياسة وكان يقيم بصفة دائمة في فرنسا، إلا أن قدره هيأ له أن يلعب دوراً هاماً وفريداً في الحرب الأهلية الاسبانية بهذه اللوحة العملاقة وقد ألزم نفسه في لوحة «جرنيكا» باللونين الأبيض والأسود مع درجات متفاوتة من اللون الرمادي، وحرم نفسه تماماً من استخدام الألوان الأخرى كالأحمر والأصفر والأزرق، وهي الأكثر قدرة على التعبير كماهو متبع في مثل هذه اللوحات الرمزية الضخمة
إنه موقف يذكرنا بمافرضه على نفسه أبو العلاء المعري في الروميات، حيث ألزم نفسه بمالايلزم ولكن في مقابل استغنائه عن الألوان أجبر بيكاسو على أن تكون أي لمسة في اللوحة الكبيرة رمزاً أو علامة مميزة على المأساة والرعب المجسد الذي يعانيه أناس جثم عليهم شبح الدمار والموت الرهيب! وعندما افتتح المعرض الدولي في باريس عام 1937م عرضت الجرنيكا لأول مرة واحتلت مكان الصدارة في الجناح الاسباني وسرعان ماأصبحت بؤرة الاهتمام ومثار التعليقات في الصحافة العالمية، وتحول ازاءها المثقفون والنقاد والمتذوقون إلى مؤيد ومعارض..وخرجت من هذا المعرض تعليقات وشعارات مدوية على لسان القادة والمفكرين من كبار الشخصيات المعاصرة وكتب عنها الشاعر الشهير ـ حينذاك مايكل ليريس قصيدة يقول في مطلعها: إنها ـ أي الجرنيكا ـ جرس إنذار؟ إن كل ماتحبه أن كل مانحبه يوشك أن ينزوي ويندثر، تحت أقدام الغزاة! وفي عام 1939م..وكانت سحب الحرب العالمية الثانية تتراكم حالكة السواد في سماء أوروبا والعالم..ونذر الدمار تنذر بالخراب الشامل القريب، خشي بيكاسو على اللوحة فقرر إرسالها بعيداً عن أوروبا لتحفظ في نيويورك بمتحف الفن الحديث هناك وظلت اللوحة في امريكا.. وكان طبيعياً أن تعود اللوحة بعد انتهاء الحرب..ولكن بيكاسو أعلن أن «الجرنيكا» تخص الشعب الاسباني وطلب من أمريكا أن تحتفظ باللوحة حتى تتخلص اسبانيا من حكم الفاشية وتعود مرة أخرى جمهورية ديمقراطية ونص عند إعادتها أن تذهب إلى متحف «برادو» بمدريد وظلت اسبانيا تحت حكم فرانكو، يحكمها حكماً دكتاتورياً مطلقاً..وطال حكمه ومات بيكاسو عام 1973م قبل أن تتحقق الديمقراطية التي كان يتمناها لبلاده..وبذلك كتب على اللوحة أن تتشرد إلى أن يقضي الله برحيل فرانكو..وبعد وفاة بيكاسو بعامين 1975م مات فرانكو..وبدأ التفكير في إعادة اللوحة إلى اسبانيا وهنا ظهرت المشاكل التي احتلت ساحات القضاء الأمريكي والاسباني معاً. واحتدم النزاع طالب ورثة بيكاسو بأحقيتهم في امتلاك اللوحة وأثار محامي العائلة « رولاندرومكان» اعتراضهم على تنفيذ الوصية التي تنص على أن تذهب الجرنيكا إلى متحف برادو ـ وفي نفس الوقت طالب سكان مدينة «مالاجا» أو «ملقة» الاسبانية بأنهم أحق من غيرهم في امتلاك اللوحة حيث أن مالاجا هي مسقط رأس الفنان بيكاسو وحري بهم أن تتشراف المدينة بإقتناء عمل من أهم أعماله الخالدة! إلا أن مدينة برشلونة تصدت لهذا الإدعاء وطالبه في ساحات العدالة بأن يكون هذا الميراث من حق سكانها لأن بيكاسو رحل إلى برشلونة وعمره اثنتا عشرة سنة حيث درس في مدرسة الفنون هناك، واستقر في المدينة إلى أن صار فناناً حتى رحل إلى باريس، وأضافوا إلى ذلك أن «متحف بيكاسو» ببرشلونة يضم نحو ألف وستمائة لوحة من أهم أعماله..ويجب أن تكون «الجرنيكا» على رأس هذه الأعمال التي اهداها بيكاسو بنفسه إلى مدينته المحببة التي كان يفضلها على سواها من المدن الاسبانية أما الجهة الرابعة فهي مدريد فقد تمسك أهالي العاصمة بتنفيذ وصية الفنان وهي إيداع اللوحة في متحف البرادو العريق غير أن مديري المتحف بالرغم من تلهفهم على تنفيذ الوصية ـ يجدون أنفسهم في موقف ضعيف إذ أن نظام التهوية والإضاءة في المتحف الذي انشئ عام 1918م لايناسب المواصفات العالمية المطلوبة للحفاظ على مثل هذا العمل الثمين، وهنا ثار أهالي العاصمة..وعقدوا الاجتماعات الشعبية المتحمسة وتعهدوا بعمل اكتتاب لتدعيم المتحف وتجديده وأبدوا تمسكهم باستقبال اللوحة تنفيذاً لوصية الفنان العظيم وتحركت الجهة الخامسة التي لزمت الصمت طوال هذه المنازعات..إنها مدينة جرنيكا.. صاحبة المأساة ومسرح الحدث الدرامي المروع فقد انبرت هي الأخرى لتقول: إننا لا نفاخر بألف وستمائة لوحة من أعمال بيكاسو كما فعلت برشلونة، ولكننا نستطيع أن نحصي أكثر من ألف وتسع مائة قتيل خلفتهم الطائرات النازية وراءها يوم الغارة الوحشية..وعلى ذلك فإن أحقيتنا في امتلاك اللوحة مشروعة ومشفوعة بدماء الشهداء! إلا أن قسماً كبيراً من أهل جرنيكا أعربوا عن تنازلهم عن هذه الأحقية بل وعارضوا بشدة مشاهدة اللوحة في مدينتهم حتى لاتجدد أحزانهم وتذكرهم بمأساة آبائهم تلك المأساة الدامية التي يندى لها جبين الإنسانية.. وهددوا بحرق اللوحة إذا هي عادت إليهم وبذلك انسحب من الساحة أحد المطالبين بالميراث..واحتدم النزاع وشهدت ساحات القضاء الاسباني والأمريكي هذه الدعاوى التي يحشد كل طرف فيها قدر مايستطيع من الحجج والأسانيد والدوافع والبراهين..وأخيراً..تدخل الكونجرس الأمريكي وحسم النزاع فقرر في مايو 1978م أن اللوحة ينبغي إعادتها إلى الشعب الاسباني وحكومة الديمقراطية وبعد أربعة عشر شهراً من هذا القرار منح شعب الباسك الحكم الذاتي وصدر في اسبانيا دستور ديمقراطي جديد ولم يلبث أن أعلن بعد ذلك أن لوحة جرنيكا فخر الفن الاسباني الحديث تعبر الاطلنطي مرة أخرى في عام 1981م لتعود إلى وطنها الأصلي أثناء الاحتفالات التي ستقام في اسبانيا بمناسبة مرور مائة عام على مولد بيكاسو. وفي صباح يوم 10 سبتمبر من عام 1981م نزلت طائرة أمريكية عملاقة على أرض المطار بالعاصمة الاسبانية مدريد وهي تحمل لوحة جرنيكا وكان في استقبالها حرس شرف رسمي كما يستقبل العظماء، وقد فرشت الأرض من تحتها ببساط أحمر واطلقت المدفعية احتفاءً بها إحدى وعشرين طلقة قبل أن تأخذ طريقها إلى متحف البرادو لتنفيذ الوصية. وهكذا قوبلت اللوحة الشهيرة بمثل مايقابل به الملوك والرؤساء وإن لم تكن هذه اللفتة الكريمة تحية للرسام الكبير فهي أروع تحية للفن الرفيع الذي يثير الوجدان ضد الحرب..ويدعو إلى الحرية والسلام.
تعليق