إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الكاتبه الرائعه احلام مستغانمي

تقليص
هذا الموضوع مغلق.
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الكاتبه الرائعه احلام مستغانمي



    هي الرواية الجميلة.. الساحرة.. و المبدعة بامتياز. شاعرة الرواية العربية.. و ليس غريبا عليها ذلك، فهي بدأت حياتها الأدبية في كتابة الشعر، و تحولت إلى الرواية في أروع عطاء صنعته إلى الآن على شكل ثلاثية أقل ما يقال عنها أنها تحفة الأدب العربي..
    أحلام مستغاني الجزائرية التي ترعرعت في عائلة بسيطة و كريمة.. غادرت الجزائر حاملة احساسا بالمرارة، ربما لأنها مبدعة في زمن لم يكن يفقه فيه كثير من الناس قيمة ما تكتبه، و لأنها كانت مختلفة أيضا في أفكارها، جريئة في مجتمع محافظ.. سافرت إلى فرنسا، و تزوجت من الاعلامي اللبناني المعروف جورج الراسي.. و تحولت من شاعرة فقط، إلى أكبر روائية على الاطلاق، فهي لم تكسر حاجز اللغة بالنسبة لها كجزائرية، بل أيضا تجاوزت اللغة التي من خلالها أبهرت كل القراء العرب الذي اكتشفوا الروائية و الشاعرة على حد سواء.. لتحتل اليوم ريادة الأديبات و الأكثر شهرة في العالم العربي بعد أن وصلت مبيعات روايتها الأولى ذاكرة الجسد إلى 500 ألف نسخة.
    أحلام تدرك جيدا متاعب الشهرة. تدرك أن عليها أن تبقى في القمة، و أن عليها ألا تتراجع، فكلما أصدرت كتابا تراهن من خلاله على الريادة و هو أمر يبدو متعبا في ظل الوافدين إلى الشهرة من باب الرواية تحديدا..

    أحلام مستغانمي من مواليد الجزائر العاصمة عام 1953. وقد نالت البكالوريوس في الأدب العربي من جامعة الجزائر عام 1976. وفي مطلع السبعينيات أسهمت في تقديم الشعر في الإذاعة الجزائرية شفاهياً وفي جريدة الشعب تحريراً. وبعد تخرجها، سافرت إلى باريس حيث أكملت في عام 1980 بحوثها ونالت شهادة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية من جامعة السوربون. وقد نشرت رسالتها المكتوبة بالفرنسية بتقديم المستعرب جاك بيرك عام 1985 وعنوانها "الجزائر: المرأة والكتابة". راجع Ahlem Mosteghanemi, Algérie: Femme et écritures (Paris: L'Harmattan, 1985). ولها مجموعتان شعريتان، على مرفأ الأيام (الجزائر: الشركة القومية للنشر والتوزيع، 1973)؛ الكتابة في لحظة عري (بيروت: دار الآداب، 1976)، بالإضافة إلى ثلاث روايات: ذاكرة الجسد (بيروت: دار الآداب، 1993)؛ فوضى الحواس (بيروت: دار الآداب، 1997)؛ عابر سرير (بيروت: منشورات أحلام مستغانمي، 2003). وقد نالت روايتها الأولى جائزة نجيب محفوظ عام 1998، وترجمت إلى الإنجليزية عام 2000 ثم أعيد نشر الترجمة منقحة عام 2003 (صدرت الطبعتان عن دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة)، كما ترجمت إلى الفرنسية (دار ألبان ميشيل)، عام 2002، وهناك مشروع نقل الرواية إلى الشاشة. وكل الإشارات إلى صفحات رواية ذاكرة الجسد في المقالة ترجع إلى طبعة دار الآداب الأولى.

    ****************************
    أحلام مستغانمي كاتبة تخفي خلف روايتها أبًا لطالما طبع حياتها بشخصيته الفذّة وتاريخه النضاليّ. لن نذهب إلى القول بأنّها أخذت عنه محاور رواياتها اقتباسًا. ولكن ما من شك في أنّ مسيرة حياته التي تحكي تاريخ الجزائر وجدت صدى واسعًا عبر مؤلِّفاتها.
    كان والدها "محمد الشريف" من هواة الأدب الفرنسي. وقارئًا ذا ميول كلاسيكيّ لأمثال :
    Victor Hugo, Voltaire, Jean Jaques Rousseau . يستشف ذلك كلّ من يجالسه لأوّل مرّة. كما كانت له القدرة على سرد الكثير من القصص عن مدينته الأصليّة مسقط رأسه "قسنطينة" مع إدماج عنصر الوطنيّة وتاريخ الجزائر في كلّ حوار يخوضه. وذلك بفصاحة فرنسيّة وخطابة نادرة.
    هذا الأبّ عرف السجون الفرنسيّة, بسبب مشاركته في مظاهرات 8 ماي 1945 . وبعد أن أطلق سراحه سنة 1947 كان قد فقد عمله بالبلديّة, ومع ذلك فإنّه يعتبر محظوظاً إذ لم يلق حتفه مع من مات آنذاك ( 45 ألف شهيد سقطوا خلال تلك المظاهرات) وأصبح ملاحقًا من قبل الشرطة الفرنسيّة, بسبب نشاطه السياسي بعد حلّ حزب الشعب الجزائري. الذي أدّى إلى ولادة ما هو أكثر أهميّة, ويحسب له المستعمر الفرنسي ألف حساب: حزب جبهة التحرير الوطني FLN .
    وأمّا عن الجدّة فاطمة الزهراء, فقد كانت أكثر ما تخشاه, هو فقدان آخر أبنائها بعد أن ثكلت كل إخوته, أثناء مظاهرات 1945 في مدينة قالمة. هذه المأساة, لم تكن مصيراً لأسرة المستغانمي فقط. بل لكلّ الجزائر من خلال ملايين العائلات التي وجدت نفسها ممزّقة تحت وطأة الدمار الذي خلّفه الإستعمار. بعد أشهر قليلة, يتوّجه محمد الشريف مع أمّه وزوجته وأحزانه إلى تونس كما لو أنّ روحه سحبت منه. فقد ودّع مدينة قسنطينة أرض آبائه وأجداده.
    كانت تونس فيما مضى مقرًّا لبعض الرِفاق الأمير عبد القادر والمقراني بعد نفيهما. ويجد محمد الشريف نفسه محاطاً بجوٍّ ساخن لا يخلو من النضال, والجهاد في حزبي MTLD و PPA بطريقة تختلف عن نضاله السابق ولكن لا تقلّ أهميّة عن الذين يخوضون المعارك. في هذه الظروف التي كانت تحمل مخاض الثورة, وإرهاصاتها الأولى تولد أحلام في تونس. ولكي تعيش أسرته, يضطر الوالد للعمل كمدرّس للّغة الفرنسيّة. لأنّه لا يملك تأهيلاً غير تلك اللّغة, لذلك, سوف يبذل الأب كلّ ما بوسعه بعد ذلك, لتتعلَّم ابنته اللغة العربيّة التي مُنع هو من تعلمها. وبالإضافة إلى عمله, ناضل محمد الشريف في حزب الدستور التونسي (منزل تميم) محافظًا بذلك على نشاطه النضالي المغاربيّ ضد الإستعمار.
    وعندما اندلعت الثورة الجزائريّة في أوّل نوفمبر 1954 شارك أبناء إخوته عزّ الدين وبديعة اللذان كانا يقيمان تحت كنفه منذ قتل والدهما, شاركا في مظاهرات طلاّبيّة تضامنًا مع المجاهدين قبل أن يلتحقا فيما بعد سنة 1955 بالأوراس الجزائريّة. وتصبح بديعة الحاصلة لتوّها على الباكالوريا, من أولى الفتيات الجزائريات اللاتي استبدلن بالجامعة الرشّاش, وانخرطن في الكفاح المسلَّح. ما زلت لحدّ الآن, صور بديعة تظهر في الأفلام الوثائقية عن الثورة الجزائرية. حيث تبدو بالزي العسكري رفقة المجاهدين. وما زالت بعض آثار تلك الأحداث في ذاكرة أحلام الطفوليّة. حيث كان منزل أبيها مركزاً يلتقي فيه المجاهدون الذين سيلتحقون بالجبال, أو العائدين للمعالجة في تونس من الإصابات.
    بعد الإستقلال, عاد جميع أفراد الأسرة إلى الوطن. واستقرّ الأب في العاصمة حيث كان يشغل منصب مستشار تقنيّ لدى رئاسة الجمهوريّة, ثم مديراً في وزارة الفلاحة, وأوّل مسؤول عن إدارة وتوزيع الأملاك الشاغرة, والمزارع والأراضي الفلاحيّة التي تركها المعمّرون الفرنسيون بعد مغادرتهم الجزائر. إضافة إلى نشاطه الدائم في اتحاد العمال الجزائريّين, الذي كان أحد ممثليه أثناء حرب التحرير. غير أن حماسه لبناء الجزائر المستقلّة لتوّها, جعله يتطوّع في كل مشروع يساعد في الإسراع في إعمارها. وهكذا إضافة إلى المهمّات التي كان يقوم بها داخليًّا لتفقّد أوضاع الفلاّحين, تطوَّع لإعداد برنامج إذاعي (باللّغة الفرنسيّة) لشرح خطة التسيير الذاتي الفلاحي. ثمّ ساهم في حملة محو الأميّة التي دعا إليها الرئيس أحمد بن بلّة بإشرافه على إعداد كتب لهذه الغاية.
    وهكذا نشأت ابنته الكبرى في محيط عائلي يلعب الأب فيه دورًا أساسيًّا. وكانت مقرّبة كثيرًا من أبيها وخالها عزّ الدين الضابط في جيش التحرير الذي كان كأخيها الأكبر. عبر هاتين الشخصيتين, عاشت كلّ المؤثّرات التي تطرأ على الساحة السياسيّة. و التي كشفت لها عن بعد أعمق, للجرح الجزائري (التصحيح الثوري للعقيد هواري بومدين, ومحاولة الانقلاب للعقيد الطاهر زبيري), عاشت الأزمة الجزائرية يومًّا بيوم من خلال مشاركة أبيها في حياته العمليّة, وحواراته الدائمة معها.
    لم تكن أحلام غريبة عن ماضي الجزائر, ولا عن الحاضر الذي يعيشه الوطن. مما جعل كلّ مؤلفاتها تحمل شيئًا عن والدها, وإن لم يأتِ ذكره صراحة. فقد ترك بصماته عليها إلى الأبد. بدءًا من اختياره العربيّة لغة لها. لتثأر له بها. فحال إستقلال الجزائر ستكون أحلام مع أوّل فوج للبنات يتابع تعليمه في مدرسة الثعالبيّة, أولى مدرسة معرّبة للبنات في العاصمة. وتنتقل منها إلى ثانوية عائشة أم المؤمنين. لتتخرّج سنة 1971 من كليّة الآداب في الجزائر ضمن أوّل دفعة معرّبة تتخرّج بعد الإستقلال من جامعات الجزائر.
    لكن قبل ذلك, سنة 1967 , وإثر إنقلاب بومدين واعتقال الرئيس أحمد بن بلّة. يقع الأب مريضًا نتيجة للخلافات "القبليّة" والانقلابات السياسيّة التي أصبح فيها رفاق الأمس ألدّ الأعداء.
    هذه الأزمة النفسيّة, أو الانهيار العصبيّ الذي أصابه, جعله يفقد صوابه في بعض الأحيان. خاصة بعد تعرّضه لمحاولة اغتيال, مما أدّى إلى الإقامة من حين لآخر في مصحّ عقليّ تابع للجيش الوطني الشعبيّ. كانت أحلام آنذاك في سن المراهقة, طالبة في ثانوية عائشة بالعاصمة. وبما أنّها كانت أكبر إخواتها الأربعة, كان عليها هي أن تزور والدها في المستشفى المذكور, والواقع في حيّ باب الواد, ثلاث مرّات على الأقلّ كلّ أسبوع. كان مرض أبيها مرض الجزائر. هكذا كانت تراه وتعيشه.
    قبل أن تبلغ أحلام الثامنة عشرة عاماً. وأثناء إعدادها لشهادة الباكلوريا, كان عليها ان تعمل لتساهم في إعالة إخوتها وعائلة تركها الوالد دون م***. ولذا خلال ثلاث سنوات كانت أحلام تعدّ وتقدّم برنامجًا يوميًا في الإذاعة الجزائريّة يبثّ في ساعة متأخرّة من المساء تحت عنوان "همسات". وقد لاقت تلك "الوشوشات" الشعريّة نجاحًا كبيرًا تجاوز الحدود الجزائرية الى دول المغرب العربي. وساهمت في ميلاد إسم أحلام مستغانمي الشعريّ, الذي وجد له سندًا في صوتها الأذاعيّ المميّز وفي مقالات وقصائد كانت تنشرها أحلام في الصحافة الجزائرية. وديوان أوّل أصدرته سنة 1971 في الجزائر تحت عنوان "على مرفأ الأيام".
    في هذا الوقت لم يكن أبوها حاضراً ليشهد ما حقّفته ابنته. بل كان يتواجد في المستشفى لفترات طويلة, بعد أن ساءت حالته.
    هذا الوضع سبّب لأحلام معاناة كبيرة. فقد كانت كلّ نجاحاتها من أجل إسعاده هو, برغم علمها أنّه لن يتمكن يومًا من قراءتها لعدم إتقانه القراءة بالعربية. وكانت فاجعة الأب الثانية, عندما انفصلت عنه أحلام وذهبت لتقيم في باريس حيث تزوّجت من صحفي لبناني ممن يكنّون ودًّا كبيرًا للجزائريين. وابتعدت عن الحياة الثقافية لبضع سنوات كي تكرِّس حياتها لأسرتها. قبل أن تعود في بداية الثمانينات لتتعاطى مع الأدب العربيّ من جديد. أوّلاً بتحضير شهادة دكتوراه في جامعة السوربون. ثمّ مشاركتها في الكتابة في مجلّة "الحوار" التي كان يصدرها زوجها من باريس, ومجلة "التضامن" التي كانت تصدر من لندن. أثناء ذلك وجد الأب نفسه في مواجهة المرض والشيخوخة والوحدة. وراح يتواصل معها بالكتابة إليها في كلّ مناسبة وطنية عن ذاكرته النضاليّة وذلك الزمن الجميل الذي عاشه مع الرفاق في قسنطينة.
    ثمّ ذات يوم توّقفت تلك الرسائل الطويلة المكتوبة دائمًا بخط أنيق وتعابير منتقاة. كان ذلك الأب الذي لا يفوّت مناسبة, مشغولاً بانتقاء تاريخ موته, كما لو كان يختار عنوانًا لقصائده. في ليلة أوّل نوفمبر 1992 , التاريخ المصادف لاندلاع الثورة الجزائريّة, كان محمد الشريف يوارى التراب في مقبرة العلياء, غير بعيد عن قبور رفاقه. كما لو كان يعود إلى الجزائر مع شهدائها. بتوقيت الرصاصة الأولى. فقد كان أحد ضحاياها وشهدائها الأحياء. وكان جثمانه يغادر مصادفة المستشفى العسكري على وقع النشيد الوطنيّ الذي كان يعزف لرفع العلم بمناسبة أوّل نوفمبر. ومصادفة أيضًا, كانت السيارات العسكريّة تنقل نحو المستشفى الجثث المشوّهة لعدّة جنود قد تمّ التنكيل بهم على يد من لم يكن بعد معترفًا بوجودهم كجبهة إسلاميّة مسلّحة.
    لقد أغمض عينيه قبل ذلك بقليل, متوجّسًا الفاجعة. ذلك الرجل الذي أدهش مرة إحدى الصحافيّات عندما سألته عن سيرته النضاليّة, فأجابها مستخفًّا بعمر قضاه بين المعتقلات والمصحّات والمنافي, قائلاً: "إن كنت جئت إلى العالم فقط لأنجب أحلام. فهذا يكفيني فخرًا. إنّها أهمّ إنجازاتي. أريد أن يقال إنني "أبو أحلام" أن أنسب إليها.. كما تنسب هي لي".
    كان يدري وهو الشاعر, أنّ الكلمة هي الأبقى. وهي الأرفع. ولذا حمَّل ابنته إرثًا نضاليًا لا نجاة منه. بحكم الظروف التاريخيّة لميلاد قلمها, الذي جاء منغمسًا في القضايا الوطنيّة والقوميّة التي نذرت لها أحلام أدبها. وفاءًا لقارىء لن يقرأها يومًا.. ولم تكتب أحلام سواه. عساها بأدبها تردّ عنه بعض ما ألحق الوطن من أذى بأحلامه.
    مراد مستغانمي شقيق الكاتبة
    الجزائر حزيران 2001

  • #2






    الغالية شريرة

    على التنوع فى المواضيع

    وتناولك التعريف المفصل عن

    الكاتبة


    أحلام مستغانمي

    شاعرة الرواية العربية

    تعليق


    • #3
      ومن اشهر مقالات احلام مستغانمي

      أدب الشغّالات


      حتمـاً، ثـمَّـة سرٌّ ما. ذلك أني ما أحضرت شغّالة، من أيّ جنسية كانت، إلاّ وبدت عليها أعراض الكتابة، بدءاً بتلك
      الفتاة المغربية القروية، التي كانت تقيم عندي في باريس، لتساعدني على تربية الأولاد، فوجدتُ نفسي أُساعدها على كتابة رسائل حبّ لحبيبها. ومن أجل عيون الحبّ، لا من أجل عينيها، كنت أُنفق كثيراً من وقتي لأجعل منها فتاة "شاعرة" ومُشتهاة، حتى انتهى بي الأمر، إلى العمل "زنجيّة" لديها، بكتابة رسائل حبّ لحبيبها نيابة عنها! خديجــة، التي كنت "زنجيتها"، حسب التعبير الفرنسي، والكاتبة التي تختفي خلف أحاسيسها وقلمها، كانت في الواقع فأرتي البيضاء، ومختبراً لتأمُّلاتي الروائية. أُمِّـي كانت تحلف بأغلظ الأَيمَان بأنّ الفتاة سَحَرَتني، حتى إنني منحتها أجمل ثيابي، وكنت أعيرها مصوغاتي وحقائب يدي لمواعيدها العشقية، وأبذل من الجهد والعناء في تحويلها من فتاة كانت قبلي تغسل ثيابها على ضفاف النهر، إلى فتاة من هذا العصر، أكثر مما كانت تُنفق هي من وقت في الاهتمام بأَولادي. ذلك أنَّ البنت ذات الضفائر البدائية الغليظة، ظهرت عليها مع عوارض حُـبٍّ باريسي لشاب سوري، أعراض الكتابة الوجدانية في سذاجة تدفُّقها الأوّل. وأخشى إنْ اعترفت بأنني كنت أيام إقامتها عندي أكتب "ذاكــرة الجســد"، أن يستند أحدهم إلى مقالي هذا، مُلمِّحاً إلى احتمال أن تكون شغّالتي مَن كَتَبَت تلك الرواية، نظراً إلى كونها الوحيدة التي لم تنسب إليها الرواية حتى الآن.


      عندما انتقلت إلى بيــــــروت، بَعَثَ لي اللَّــه، سيِّـدة طيِّبة وجميلة، من عمري تقريباً، جَمَعَت، على الرغم من مظهرها الجميل، إلى مُصيبة الفقــر، لعنة انقطاعها باكراً عن التعلُّم. لـــــذا، ما جالستها إلاّ وتنهَّدت قائلــة: "كم أتمنَّى لو كنت كاتبة لأَكتُب قصَّتي". وراحـــت تقصُّ علـيَّ مآسيها، عساني أستفيد منها روائياً، وربما سينمائياً، نظراً إلى ما تزخر به حياتها من مُفاجآت ومُفاجعات مكسيكية. ماري، التي كانت تَجمَع كل ما فاض به بيتي من مجلات، وواظبت على القراءة النسائية بفضلي، مازالت منذ سنوات عـدَّة تتردَّد علـيَّ في المناسبات، ولا تُفوِّت عيــداً للحُبِّ إلاَّ وتأتيني بهدية. في آخر عيــد للحب أهدتني دفتـراً ***يـاً جميلاً لكتابة المذكرات، مرفوقاً بقلم له غطاء على شكل قلب، وكتبت على صفحته الأُولى كلمات مؤثِّـرة، بشَّـرنـي زوجي عند اطِّلاعه عليها بميلاد كاتبة جديدة!


      جاءت "روبــا"، وهو اسم شغّالتي السريلانكية التي عرف البيت على أيامها، العصر الذهبي لكتابة الرسائل واليوميات. فقد استهلكت تلك المخلوقة من الأوراق والأقلام، أكثر ممّا استهلكنا عائلياً جميعنا، كتّابـاً وصحافيين.. وتلاميذ. وكنت كلَّما فردت أوراقي وجرائدي على طاولة السفرة، جاءت "روبـــا" بأوراقها وجلست مقابلة لي تكتب(!)، وكان أولادي يَعجبون من وقاحتها، ويتذمّرون من صبري عليها، بينما كنت، على انزعاجي، أجد الْمَشهد جميلاً في طرافته. ففي بيت عجيب كبيتنا، بدل أن تتعلَّم الشغّالة من سيدة البيت طريقة "حفر الكوسة" و"لف الملفوف" وإعداد "الفتُّوش"، تلتحق بـ"ورشة الكتابة" وتجلس بجوار سيِّدتها، مُنهمكة بدورها في خربشة الأوراق.
      وعلى الرغم من جهل زوجي للغة "الأ***و" و"السنسكريتية"، فقد كان أوّل مَن باركَ موهبة الشغّالة، واعترف بنبوغها الأدبي، إلى حدِّ تساهله معها في ما لا تقوم به من شؤون البيت، بحُكم وجودها معنا، على ما يبدو، لإنجاز كتابها، واعتبار بيتنا فندقاً للكتابة من تلك الفنادق التي تستضيف الكُتّاب على حساب مؤسسات لإنجاز أعمالهم الأدبيّة. حتى إنه أصبح يناديها "كوماري"، على اسم الكاتبة السريلانكية الشهيرة "كوماري جوديتا"، التي كانت آنــذاك مُرشَّحة لرئاسة "اليونسكو"، وراح يُحذِّرني مازحـــاً من أن تكون البنت مُنهمكة في كتابة مُذكّراتها عندنا، وقد تفشي بكثير من أسراري، وتصدر كتابها قبل كتابي، وقد تصرُّ على توقيعه في معرض بيروت للكتاب، أُسوة بالشغّالة السريلانكية التي تعمل عند الفنان الراحل عارف الريس، التي كانت تقوم نهاراً بأشغال البيت، وترسم سرّاً في الليل، مستفيدة من المواد المتوافرة في مرسم سيِّدها. و كانت عَظَمَة عـــــارف الريس، في تبنِّي موهبة شغّالته، بدل مُقَاصصتها بدل سرقة بعض أدواته، بل ذهب إلى حدِّ إقامة معرض فني لها، تـمَّ افتتاحه برعاية سفير سريلانكا في لبنان.
      ولو أنّ أُمِّـي سمعت بتهديدات زوجي لي، بأن تسبقني الشغّالة بإنجاز كتابها، لردَّدت مَثَلَها الجزائري الْمُفضّل "العود اللي تحقــرُو هـــو اللّــي يعميــك". وهو ما كان يعتقده إبراهيــم الكونــي، حين قال "خُلق الْخَدَم ليثأروا منَّا، لا ليخدمونا".


      أمَّـا مناسبة هذا الحديــث، فعودة ظهور الأعراض إيّاها، على شغّالتي الإثيوبية، التي لا تكتفي بتقليد ملابسي وثيابي، ومُتابعة نظام حميتي، واستعمال كريماتي، بل وتأخذ من غرفتي أوراقي وأقلامي، وتختفي في غرفتها ساعات طويلة، لتكتب.
      أخشى أن تكون مُنهمكة في كتابة: "الأَسوَد يَليق بكِ"!
      __________________


      أطلق لها اللحى



      لو لم تكن الصورة تحمل أسفلها خبراً عاجلاً، يعلن وقوعه في قبضة “قوات التحرير”، ما كنا لنصدِّق المشهد.


      أيكــون هــو؟ القائد الزعيم الحاكم الأوحد، المتعنتر الْمُتجبِّـر، صاحب التماثيل التي لا تُحصى، والصور التي لا تُعدّ، وصاحب تلك القصيدة ذات المطلع الذي غدا شهيراً، يوم ظهر على الشاشة عند بدء الحرب الأميركية على العراق، مطالباً بوش بمنازلته.


      أيكون صاحب “أطلق لها السيف لا خوف ولا وجل”، قد “أطلق لها اللحية”، بعد أن خانه السيف وخذله الرفاق، ولم يشهد له زُحل سوى بالحمق والجريمة؟


      أكان هو؟ ذلك العجوز مُتعــب الملامح، المذعور كذئب جريح، فاجأه الضوء في قبو، هو بشعره المنكوش ولحيته المسترسلة، هو ما عداه، يفتح فكّيه مستسلماً كخروف ليفحص جندي أميركي فمه. فمه الذي ما كان يفتحه طوال ثلاثين سنة، إلاّ ليعطي أمراً بإرسال الأبرياء إلى الموت، فبين فكّيه انتهت حيوات ثلاثة ملايين عراقي.


      أكانت حقاً تلك صورته؟ هو الذي ظلّ أكثر من ثلاثة عقود، يوزع على العالم سيلاً من صوره الشهيرة تلك، في أزيائه الاستعراضية الكثيرة، وسيماً كما ينبغي لطاغية أن يكون، أنيقاً دائماً في بدلاته متقاطعة الأزرار، ممسكاً ببندقية أو بسيجار، مبتهجاً كما لو أنه ذاهب صوب عرس ما. فقد كان السيد القائد يُزفّ كل يوم لملايين العراقيين، الذين اختاروه في أحد تلك الاستفتاءات العربية الخرافية، استفتاءات “المئة في المئة” التي لا يتغيّب عنها المرضى ولا الموتى ولا المساجين ولا المجانين ولا الفارُّون، ولا حتى المكوّمون رفاتاً في المقابر الجماعيّة. وكان الرجل مقتنعاً قناعة شاوشيسكو، يوم اقتيد ليُنفّذ فيه حكم الشعب، هو وزوجته، رمياً بالرصاص، إنه “معبود الجماهير”، هو الذي بدأ حياته مُصلِّح أحذية قبل أن يصبح حاكماً، وتبدو عليه أعراض الكتابة والتنظير.


      وبالمناسبة، آخر كتاب كتبه السيد القائد، كان رواية لم يتمكّن من نشرها، وهي تتمة لـ”زبيبة والملك”. وكان عنوانها “اخرج منها أيها الملعون”. ولا يبدو أنها أفادته في تدبُّـر أمره والخروج من الكارثة التي وضع نفسه فيها، مُورِّطاً معه الأُمّـة العربية جمعاء. فرصته الوحيدة، كانت في النصيحة التي قدّمها إليه الشيخ زايد، بحكمته الرشيدة، حين أشار عليه بالاستقالة تفادياً لمزيد من الضحايا والأضرار، التي ستحلّ بالعراق والأُمة العربية. وأذكر أن وزير خارجيته أجاب آنذاك في تصريح خالٍ من روح الدعابة “الرئيس صدام حسين لا يستطيع اتخاذ قرار بالتخلي عن ملايين العراقيين الذين انتخبوه بقناعة ونزاهة”. في هذه الأُمّـة التي لا ينقصها حُكّام بل حُكماء، كانت الكارثة متوقعة، حتى لكأنها مقصودة. وبعد أن كان العميل المثالي، أصبح صدّام العدو المثالي لأميركا، وعلى مرأى من أُمّة، ما كانت من السذاجة لتحلم بالانتصار على أميركا، ولكن كانت من الكرامة بحيث لن تقبل إلاّ بهزيمة منتصبة القامة تحفظ ماء وجهها.


      “حملة النظافة” ستستمر طويلاً، في هذه الحرب، التي تقول أميركا إنّ أهدافها أخلاقية. ومهما يكن، لا نملك إلاّ أن نست*** مساحيق الغسيل ومواد التنظيف من السادة نظيفي الأكفّ في البيت ناصع البياض في واشنطن.


      من بعض فجائع هذه الأُمة، فقدان حكامها الحياء. إنه مشهد الإذلال الأبشع من الموت. ومن مذلّة الحمار... صنع الحصان مجده.


      __________________

      أن أكون في كلِّ التراويح.. روحَك
      ما طلبتُ من اللّهِ
      في ليلةِ القدر
      سوى أن تكون قَدَري وستري
      سقفي وجُدران عُمري
      وحلالي ساعةَ الحشرِ
      **
      يا وسيمَ التُّقَى
      أَتَّقي بالصلاةِ حُسنكْ
      وبالدعاءِ ألتمسُ قُربكْ
      أُلامسُ بالسجودِ سجاداً
      عليه ركعتَ طويلاً
      عساني أُوافق وجهك
      **
      مباركةٌ قدماك
      بكَ تتباهَى المساجد
      وبقامتك تستوي الصفوف
      هناك في غربة الإيمان
      حيثُ على حذر
      يُرفع الأذان
      **
      ما أسعدني بك
      مُتربِّعاً على عرش البهاء
      مُترفِّعاً.. مُتمنعاً عصيَّ الانحناء
      مُقبلاً على الحبّ كناسك
      كأنّ مهري صلاتُك
      **
      يا لكثرتكْ
      كازدحام المؤمن بالذكرِ
      في شهر الصيام
      مزدحماً قلبي بكْ
      **
      كيف لــي
      أن أكون في كلّ التراويح روحَكْ
      كي في قيامك وسجودك
      تدعُو ألاَّ أكون لغيرك.
      __________________


      تعليق


      • #4
        بطاقات معايدة.. إليك



        - غيرة
        أغــار من الأشياء التي
        يصنع حضوركَ عيدها كلّ يوم
        لأنها على بساطتها
        تملك حقّ مُقاربتك
        وعلى قرابتي بك
        لا أملك سوى حقّ اشتياقك
        ما نفع عيد..
        لا ينفضح فيه الحبُّ بكَ؟
        أخاف وشاية فتنتك
        بجبن أُنثى لن أُعايدك
        أُفضّل مكر الاحتفاء بأشيائك
        ككل عيد سأكتفي بمعايدة مكتبك..
        مقعد سيارتك
        طاولة سفرتك
        مناشف حمّامك
        شفرة حلاقتك
        شراشف نومك
        أريكة صالونك
        منفضة تركت عليها رماد غليونك
        ربطة عنق خلعتها لتوّك
        قميص معلّق على مشجب تردّدك
        صابونة مازالت عليها رغوة استحمامك
        فنجان ارتشفت فيه
        قهوتك الصباحيّة
        جرائد مثنية صفحاتها.. حسب اهتمامك
        ثياب رياضية علِق بها عرقك
        حذاء انتعلته منذ ثلاث سنوات
        لعشائنا الأوّل..

        - طلب
        لا أتوقّع منك بطاقة
        مثلك لا يكتب لي.. بل يكتبني
        ابعث لي إذن عباءتك
        لتعايدني عنك..
        ابعث لي صوتك.. خبث ابتسامتك
        مكيدة رائحتك.. لتنوب عنك.

        - بهجة الآخرين
        انتهى العام مرتين
        الثانية.. لأنك لن تحضر
        ناب عنك حزن يُبالغ في الفرح
        غياب يُزايد ضوءاً على الحاضرين
        كلّ نهاية سنة
        يعقد الفرح قرانه على الشتاء
        يختبرني العيد بغيابك
        أمازلت داخلي تنهطل
        كلّما لحظة ميلاد السنة
        تراشق عشّاق العالم
        بالأوراق الملوّنة.. والقُبل
        وانشغلت شفتاك عني بالْمُجاملات..
        لمرّة تعال..
        تفادياً لآثام نِفاق آخر ليلة..
        في السنة!
        __________________


        حان لهذا القلب أن ينسحب




        أخذنا موعداً


        في حيّ نتعرّف عليه لأوّل مرّة


        جلسنا حول طاولة مستطيلة


        لأوّل مرّة


        ألقينا نظرة على قائمة الأطباق


        ونظرة على قائمة المشروبات


        ودون أن نُلقي نظرة على بعضنا


        طلبنا بدل الشاي شيئاً من النسيان


        وكطبق أساسي كثيراً من الكذب.



        وضعنا قليلاً من الثلج في كأس حُبنا


        وضعنا قليلاً من التهذيب في كلماتنا


        وضعنا جنوننا في جيوبنا


        وشوقنا في حقيبة يدنا


        لبسنا البدلة التي ليست لها ذكرى


        وعلّقنا الماضي مع معطفنا على المشجب


        فمرَّ الحبُّ بمحاذاتنا من دون أن يتعرّف علينا



        تحدثنا في الأشياء التي لا تعنينا


        تحدّثنا كثيراً في كل شيء وفي اللاّشيء


        تناقشنا في السياسة والأدب


        وفي الحرّية والدِّين.. وفي الأنظمة العربيّة


        اختلفنا في أُمور لا تعنينا


        ثمّ اتفقنا على أمور لا تعنينا


        فهل كان مهماً أن نتفق على كلِّ شيء


        نحنُ الذين لم نتناقش قبل اليوم في شيء


        يوم كان الحبُّ مَذهَبَنَا الوحيد الْمُشترك؟



        اختلفنا بتطرُّف


        لنُثبت أننا لم نعد نسخة طبق الأصل


        عن بعضنا


        تناقشنا بصوتٍ عالٍ


        حتى نُغطِّي على صمت قلبنا


        الذي عوّدناه على الهَمْس


        نظرنا إلى ساعتنا كثيراً


        نسينا أنْ ننظر إلى بعضنا بعض الشيء


        اعتذرنـــــا


        لأننا أخذنا من وقت بعضنا الكثير


        ثـمَّ عُدنــا وجاملنا بعضنا البعض


        بوقت إضافيٍّ للكذب.



        لم نعد واحداً.. صرنا اثنين


        على طرف طاولة مستطيلة كنّا مُتقابلين


        عندما استدار الجرح


        أصبحنا نتجنّب الطاولات المستديرة.


        "الحبُّ أن يتجاور اثنان لينظرا في الاتجاه نفسه


        .. لا أن يتقابلا لينظرا إلى بعضها البعض"



        تسرد عليّ همومك الواحد تلو الآخر


        أفهم أنني ما عدتُ همّك الأوّل


        أُحدّثك عن مشاريعي


        تفهم أنّك غادرت مُفكّرتي


        تقول إنك ذهبت إلى ذلك المطعم الذي..


        لا أسألك مع مَن


        أقول إنني سأُسافر قريباً


        لا تسألني إلى أين



        فليكـــن..


        كان الحبّ غائباً عن عشائنا الأخير


        نــــاب عنــه الكـــذب


        تحوّل إلى نــادل يُلبِّي طلباتنا على عَجَل


        كي نُغادر المكان بعطب أقل


        في ذلك المساء


        كانت وجبة الحبّ باردة مثل حسائنا


        مالحة كمذاق دمعنا


        والذكرى كانت مشروباً مُحرّماً


        نرتشفه بين الحين والآخر.. خطأً



        عندما تُرفع طاولة الحبّ


        كم يبدو الجلوس أمامها أمراً سخيفاً


        وكم يبدو العشّاق أغبياء


        فلِمَ البقاء


        كثير علينا كل هذا الكَذب


        ارفع طاولتك أيّها الحبّ حان لهذا القلب أن ينسحب



        __________________





        كلّ العرائس.. عَوَانس


        الزواج قسمة ونصيب. وإلاّ، كيف تحتفل قرية هنديّة بزواج ضفدعين عملاقين، وتزفّ الضفدعة المحظوظة إلى عريسها الضفدع الفحل في زيّ أحمر بـرّاق، بمباركة القساوسة الهندوسيين، وسط حفل موسيقي حضره مئات الأشخاص.. انطلق موكبه البهيج من بركة ماء، بينما تَقبَع فتياتنا بالملايين في بيوت أهلهنّ في انتظار عريس لا يأتي. أو ضفدع يتحوّل، حسب تلك الأُسطورة، بفعل قُبلَة مسحورة إلى فارس أميــر؟ 4 ملايين فتاة مصرية، هــنَّ في طريقهنّ إلى العنوسة، وثُلث فتيات السعودية والجزائر وتونس، يُعانين المشكلة إيّاها، وأظنّ أنّ هذه النسبة تُوجَد في معظم الدول العربيّة، التي لم تعد تدري فيها العائلات ماذا تفعل ببناتها اللائي، على ثقافتهنّ، وأحياناً على جَمَالهنّ وثرائهنّ، لا يجدن عريساً مناسباً. وقد لا يبقى أمام أهلهنّ إلاّ اتِّباع تقاليد بعض الولايات الهنديّــة، حيث عندما يبدأ موسم الزواج في يوليو (تموز)، تستأجر العائلات عصابات إجرامية لاختطاف العريس المناسب، والمجيء به تحت التهديد، لتزويجه بابنتها، بمباركة كاهن يجعل من هذا الزواج عقداً غير قابل للإلغاء. الأهل لجأوا إلى هذا الحل بسبب ارتفاع قيمة مهور الرجال، وليس الفتيات، حسب تقاليد الهندوس. ذلك أنّ الرجال في كلّ أنحاء العالم غَـــلا سعرهم، وزاد دلالهم، وتضاعفت شروطهم، بحُكم ما فَاضَت به السوق من إناث. وإذا كانت اثنتان من كلّ خمس نساء في فرنسا يعشن وينمن بمفردهنّ، وهو أمرٌ، حسب الصديق "زوربـــــا"، فيه إهانة لكلّ رجال الأرض وعـــار عليهم، فإنّ مسؤولية الرجال في أوروبا ستزداد في السنوات المقبلة، وكذلك عار لا مبالاتهم تجاه 38 في المئة من نساء تجاوزن سنّ الثلاثين، ولا رجل في حياتهن. وتؤكد الإحصاءات ارتفاع هذه النسبة ارتفاعاً مخيفاً بحلول القرن المقبل، إذ تُبشّرنا التنبؤات بأن أكثر من نصف النساء الأوروبيات سيكنّ عَوَانس. ولكي أرفع معنويات هذا الكمّ الهائل من الإنــاث الوحيدات، وأُخفّف من حسدهنّ لنا، نحنُ "المتزوّجات"، أُطمئنهنّ أنّ نصفنا يعشن مع رجال متزوّجين في النهار من وظائفهم ومشاغلهم، وفي المساء من أصدقائهم.. أو من التلفزيون. أمّا الأوفيــاء فيكتفون بإقامة علاقة مشبوهة مع "الإنترنت"، أي أنّ بين المتزوّجات أيضاً نساء يُعانين الطّلاق العاطفيّ، أو الطَّلاق السَّـريـريّ، أو الطَّلاق اللّغويّ. حتى إننا قرأنا مؤخَّــراً، خبراً عجيباً، عن زوج برازيلي أقسم على عدم مخاطبة زوجته إلى الأبد، بعدما شكّ في أُبوته لمولودهما.. السابع. العجيب أنّ هذا القَسَم يعود إلى خمسة وثلاثين عاماً بالضبط، والزوجة البالغة 65 عاماً، وفّــت بقَسَم زوجها، ولم تتبادل معه كلمة واحدة طوال هذه الأعوام، تاركة لأطفالها وأحفادها مهمة التحدُّث إليه نيابة عنها. الزوجة التي كانت بدءاً عصبيّة المزاج، ودائمة الصُّـراخ، تأقلمت تدريجياً مع وضعها الجديد، ودخلت في طور "الصّمت الزوجيّ". أمّا بعلُها، فصرّح بكثير من الجدّية، بأنه على الرغم من طول فترة الصَّمت بينهما، فقد استطاع أن ينجب منها خمسة أطفال. وهكـــذا، بفضل المؤسسة الزوجية، أصبح في إمكان الإنسان أن يُفاخر بأنه يتميّز عن الحيوان بكونه الكائن الوحيد الذي في مقدوره التناسل، من دون أن يتبادل كلمة واحدة مع شريكه أو يقوم بجهد الْمُلاطّفة والْمُغازلَة التي تأخذ طقوسها عند بعض الحيوانات، ساعات بأكملها. وقد أُضيف إلى الصّمت التقليدي للأزواج، إنهماكهم الجديد في متابعة الفضائيات، حتى إنّ زوجة مصرية طلبت من المحكمة الطّلاق، لأنّ زوجها لا يُعاشر إلاّ التلفزيون. أمّا المتزوجات من مرضى "الإنترنت"، فحتى خبر طلاقهنّ يقرأنه في بريد إلكتروني عاجل.. أرسل به زوج "مش فاضي للكلام مع حرمة"• فليطمئنَنَّ مَن لم يتزوّجن بعد لبؤسنا. ...فمعظم المتزوّجات هــنّ في الواقع.. عَوَانس أنجبن أولاداً


        __________________


        رحل الصيف إذن



        ليس هو مَن جمع حقائبه.. بل نحنُ· لكننا نعتقد دوماً أنّه مَن يُغادرنا، مرفوقاً بموكب من السُّحب البيضاء الأُولى، التي تُنذر بالمطر الأوّل.


        المطر الأوّل.. كقبلة أُولى، كحبٍّ أوّل· يُباغتكِ، كَـيَـدٍ تُلامُسك للمرّة الأُولى، يعدُكِ.. يتوعَّدُكِ.. يتحكّم في مزاجكِ العاطفي، وعليه ألاّ يُطيل المكوث، حتى لا يترككِ لوحل الندم.


        **


        الْمَطرُ يُغافلُكِ دوماً كرجل.. يأتي عندما لا يكون لكِ معطف أو مظلّة للاحتماء منه، فتختبرين غبطتكِ تحت سماء تنقضُّ عليكِ بوابلٍ من الدموع.


        مشدوهة، منبهرة، عزلاء، ثَمِلَة، حائرة: كيف تعبِّين ماء السماء كلّه، في قلب فاض به الشجن؟


        أكلُّ هذا المطر الذاهب صوب عروق الأرض.. لا يكفي لإطفاء نــار قلب صغير؟


        **


        أثناء غيابكِ يا امرأة.. وانشغالكِ بصيف باذخ البهجة، نضجت الغيوم، واستوى الحزن، وآن للشوق أن يهطل.. المطر دموع الغياب·


        لعلّه ذلك الرجل.


        لعلّها عيناه حين تُمطران فضولاً، فتهطل نظراته على امرأة سواكِ.


        لعلّه الخريف.. وذلك السؤال الأُنثوي الْمُخيف: ماذا تراه يفعل صباح خريف من دونكِ؟


        وفي المساء.. أترتجف شراشف نومه؟ أيوقِظُ رذاذ طيفكِ زوابعه؟


        **


        لعلّه الشتاء الْمُقبل على عَجَل


        وأنتِ تُريدين، في ليلة واحدة، إنفاق كلّ ما اجتمع في صدركِ من مخزون الغيوم العربيّة.


        لكأنّ حزنكِ وقفٌ على المطر، وعلى رجل لا تدرين إلى أيّ حزب تنتمي غيومه، كي تنضمّي إلى فصيلة الحقول التي تناضل منذ الأزل.. كي على تربتها يهطل.


        **


        هو الخريف يحشو غليونه بغيوم تنهداتكِ، وفي إمكانكِ الليلة أن تختبري تجنّي المطر على العشّاق، عندما يرتّب لبعضهم موعداً في المجرّات الشاهقة للحبّ، ويلهو بجرف دموع الآخرين.. إلى المجاري.


        يا لفاجعة عشّاقٍ، يواجهون وحيدين ساديّة الشتاء.


        أيتها السماء الباكية صيفاً.. أَلاَ ترأفــتِ بنا؟


        عصافيرُ مُبلّلة ترتجف على شجرة الغياب، كلّما أمطرتِ تآمر الكون ضدّنا.


        __________________

        تعليق


        • #5
          مباهج نهاية السنة العربية

          أأقلعتُ عن متابعة أخبار العراق بعد أن تجاوزني مصابها، لكنني لم أنجُ من هول عناوينها. عناوينها وحدها كافية لقتلكَ بذبحة قلبيّة، عندما تقرأُها على الشاشة أو تقع عليها مجتمعة في جرائد الأسبوع، التي فاتتك مطالعتها.
          تصوّروا مئة وعشرين قتيلاً، وأضعاف هذا العدد من الجرحى، وقعوا في يوم واحد ضحايا سلسلة تفجيرات انتحارية، استهدف أحدها مجلس عزاء، وآخر زوّار مرقَد الإمام الحسين، وثالث خط أنابيب رئيسياً للغاز. أيُّ مسلمين هم هؤلاء؟ وأيّة قضيّة هي هذه التي يُدافَع عنها بنسف وطن، وسفك دماء الأبرياء وهم يودِّعون مَن سبق للموت أن سرقهم منهم؟
          إنها مباهج نهايات السنة العربيّة!
          عنوان آخر يُذهلك ويُجهز على عروبتك: ستة وعشرون قتيلاً من بين "الإخوة السودانيين" سقطوا في مواجهة مع قوات الأمن المصرية، لإزاحتهم من الحديقة المواجهة لمبنى المفوّضيّة العُليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، التي اعتصموا فيها منذ أيام، وانتهت جثثهم في مستشفيات القاهرة، لا باسم الأُخوَّة الإنسانية فحسب، بل العربيّة أيضاً. فـ"الإخوة السودانيون"هي الصفة التي أطلقها عليهم بيان الداخلية المصرية، بعد أن حُلّت مشكلتهم الإنسانية بإلقاء جثثهم في البرّادات، بينما تمَّ نقل المئات عنوة إلى أماكن أُخرى.
          حدث هذا في "ليلة رأس السنة"، أثناء انشغال العالَم عنّا بمباهج الساعات الأخيرة. فهذه الليلة التي يتخذها الناس فسحة للتمنّي، ويجعلونها عيداً للرجاء بتغيير نحو الأفضل، تغدو أمنية الإنسان العربيّ فيها البقاء على قيد الحياة، ليس أكثر، حتى وإن كانت حياته لا تعني شيئاً بالنسبة إلى وطنه أو "أشقائه". فما بالك بسكّان المعمورة الذين اعتادوا على أخبار مذابحه، ومسالخه وشلالات دمه.
          تُشير دراسة لمنظمة مستقلّة لحقوق الإنسان، إلى أن أكثر من 95 في المئة من العراقيين لا يعرفون ماذا يجري في بغداد بعد منتصف الليل منذ أكثر من سنتين، ونسبة تصل إلى 50 في المئة يفضِّلون عدم الخروج من منازلهم بعد الخامسة مساء، تاركين المدينة لأُمراء الليل من القَتَلَة واللصوص.
          وعليكم أن تتصوّروا كيف قضى العراقيون "ليلة رأس السنة". التي يجد فيها الإرهابيون مناسبة إعلامية نادرة لقصف الأعمار وقطع الرؤوس، طمعاً في تصدُّر الأخبار العالميّة، لولا أنّ العالم كان مشغولاً عن إنجازاتهم الإجراميّة بخبرأٍ أهمّ، حسب سلَّم القيم والاهتمامات الإنسانية للمواطن الغربيّ.
          ما استطاعت جرائمهم أن تؤمِّن لهم صدارة الصحف في "ليلة رأس السنة". كانت الصفحة الأُولى في كثير من الصحف الغربية (حسب وكالة رويتر)، محجوزة لفاجعة طائر بطريق صغير، أعلنت الشرطة البريطانية خشيتها على مصيره، بعد أن سُرق من حديقة حيوان بريطانية قبل 5 أيام. الصحافيون (الذين نخطفهم ونقتلهم عندما يأتون لتصوير موتانا وثكالانا، هذا عندما لا تتكفّل القوات الأميركية بقصف فندقهم حال وصولهم) سارعوا أفواجاً إلى حديقة الحيوانات لالتقاط صور لأبويه "أوسكار" و"كيالا" (لاحظوا أنّ لحيواناتهم أسماء.. بينما لموتانا أرقام). وقد أدمى قلوب محبي الحيوانات في أنحاء العالَم صورة الأبوين اللذين مزقهما الحزن على فقدانهما صغيرهما الذي لا يتجاوز شهره الثالث، حتى إنّ مُصلِّين في كنيستين في أميركا صلُّوا من أجل الصغير "توغا"!
          فهل لايزال بينكم مَن يشك في إنسانية الشعب الأميركي وتقواه، وفي سذاجة الشعب السوداني وغبائه؟ فالألفا لاجئ الذين اعتصموا في الحديقة المواجهة لمبنى المفوضيّة العليا للاجئين، كان عليهم أن يلجأوا إلى حديقة الحيوان البريطانية. فربما كانوا سيحصلون كحيوانات على حقوق، ما كانوا في جميع الأحوال أن يحصلوا عليها كبشر خذلتهم الجغرافيا.
          كانوا موعودين بمساعدات، على هزالها، كانت ستغيِّر حتى حياتهم، حياتهم التي تساوي رصاصة في شارع عربي، ولا تساوي ثمن طلقة سهم ناري عمره دقائق، يطلق في شارع أوروبي· ذلك أن في "ليلة رأس السنة" نفسها التي سقطوا فيها كان الألمان وحدهم "يفرقعون" في الهواء 154 مليون دولار ثمن ألعاب نارية، ابتهاجاً بالعام الجديد.
          عـــاماً سعيداً.. "أشقاءنــا"، شهداء "ليلة رأس السنة"!

          __________________
          كلُّنا من أمر البحر في شك


          انتهى زمن الأعاصير الجميلة، التي تغنَّى طويلاً بها الشعراء. حتى الأميرة ستيفاني، ستتردّد اليوم قبل أن تُغنِّي أغنيتها الشهيرة تلك"مثل إعصار". فالجميلة المتربّعة فوق صخرة موناكو، تدري الآن أنهما عاد في الإمكان. حتى من باب الدعابة، أن تمازج إعصاراً أو تتغزّل به، خاصة أنَّ بعض أعاصيرها العشقيّة قلبت الإمارة رأساً على عقب.
          لا أحد الآن في مأمَن من طوفان أو إعصار أو زلزال، سواء أكان يسكن مدينة تحت مستوى سطح البحر، وسطح الفقر، أم إمارة مُعلّقة على صخرة النجوم. فقد أثبت "تسونامي" أنَّ في إمكانه تسلُّق طوابق عدَّة، وابتلاع أُناس كانوا يعتقدون "أنّ البحر يبتسم"، كما اعتقد الجزائريون منذ سنتين أنّ المطر الذي انهمر عليهم بغتة كان استجابة لصلوات الاستسقاء، وإذا به يُخبّئ لسكان العاصمة أكبر فيضان عرفته الجزائر، ذاهباً حدَّ خطف أُناس باغتهم في الشوارع.. وابتلاعهم عبر المجاري ليُلقي بجثثهم بعد ذلك إلى البحر.
          كما الحبُّ "كلّنا من أمر البحر في شكّ"، نرتاب من مجاورته ونشكُّ في حُسن نواياه. فما عاد البحر يهبنا اللؤلؤ والمرجان والحيتان، بل الفيضانات والدمار والأعاصير الاستوائية والحلزونية، التي لا رقم معروفاً لضحاياها.
          كل الأسماء النسائية والرجالية التي تطلقها هيئات الرصد الجوي، لتمنح كوارثنا "الطبيعية" اسماً، تضافرت وتناوبت لتهزّ ثقة الإنسان بسيادته على هذه الأرض·
          مَن المعتدي؟ الإنسان.. أم الطبيعة؟
          إذا احتكمنا إلى إبراهيم الكوني، الذي يقول في كتابه "ديوان البرّ والبحر"، إنّ الطبيعة بيت اللّه الذي ندنّسه بدل أن نتعبّد فيه، يكون الرئيس المؤمن بوش، قد دنّس بيوت اللّه كثيراً، و تجنّى على الطبيعة كما تجنّى على البشر. فقد أصرّت إدارته على الرفض القاطع التوقيع على معاهدة كيوتو للاحتباس الحراري التي أدت إلى ارتفاع درجات الحرارة، في المحيطات، ما تسبَّب، حسب الخبراء، في تشكيل الأعاصير الواحد تلو الآخر. ذلك أنّ القرار الأميركي يصنعه الأثرياء، أصحاب الشركات الأكبر من الدول، ويدفع ثمنه فقراء العالم، وفقراء أميركا الذين ما كنّا لنعرف مدى فاقتهم، لولا فضيحة هذا الإعصار. الْمُسمّى "كاترينا".
          نفهم تماماً، أن يطالب أنصار البيئة بإطلاق أسماء الأعاصير على السياسيين، مقترحين أسماء جورج بوش، وكونداليزا رايس، وتوني بلير، ورامسفيلد، باعتبارهم مسؤولين عن معظم الكوارث الطبيعية التي تحيط بالعالم، وتتسبّب في اتِّساع ثُقب الأوزون، و ارتفاع حدّة التلوّث في العالم، إضافة إلى الحروب التي يُشعلها سوق السلاح. ففي أميركا، حيث تخترع شركات الدواء العملاقة الدواء أولاً، ثم تخترع له مَرَضَاً يليق برواجه، دَرَجَت الحكومات الأميركية على إشعال حروب لاستهلاك ترسانة أسلحتها واختبار الجديد منها، غير عابئة بما ستخلِّفه قنبلة نووية على مئات الآلاف من البشر في هيروشيما، أو ما ستتنفسه الأمهات من سموم، تشهد عليها تشوهات الأجنة والمواكب الجنائزية المتتالية لنعوش أطفال العراق.
          نكبة أميركا ليست في شعبها، الطيِّب غالباً، والساذج حدّ تصديق كلِّ ما يتنفّسه من سموم إعلاميّة. نكبتها في حكّامها الذين يصرُّون على سياسة التفرُّد والاستعلاء، حتى على الطبيعة. فبوش، الذي ابتدع "الحروب الاستباقيّة"، ما كان في إمكانه أن يستبق إعصاراً أو يلحق به. ذلك أن أولوياته هي غير أولويات مواطنيه، بحُكم أنه الراعي للإنسانية والقيم السماوية.. والموزّع الحصري للديمقراطيّة على جميع سكان الكرة الأرضيّة. فأين له أن يجد الوقت ليوزع الإغاثة على المنكوبين من مواطنيه، وهو مشغول بتوزيع جيوشه حسب الخرائط التي تمدّه بها الشركات البترولية في معقله في تكساس؟
          الجبابرة، سادة العالم وأنبياؤه المزيّفون، عليهم ألاّ يعجبوا إن هم ما استطاعوا احتواء غضب السماء، ولا غضب الأرض. ما الطبيعة إلاّ يـد اللّه، وكان لابد لجبروتهم أن ينتهي تحت أقدامها.

          __________________

          تعليق


          • #6
            يا رب سترك
            كم يبدو بعيداً ذلك الزمن الذي كانت فيه النساء في العصر الذهبيّ في أوروبا يتنقلن في الصالونات، داخل أثوابهن الدائرية الضخمة، كمظلات الطيارين في تنانير يتم نفخها باشرطة ترتديها النساء تحت الثياب.
            كانت النساء وقتها، يُخبئن كل شيىء في ثيابهن: الرسائل المهربّة، والمناديل المعطّرة، والعلب الذهبية الصغيرة التي تخفي صورة الحبيب.
            اليوم، أصبحت الثياب بالكاد تخفي أجساد من يلبسنها. ولا أدري إن كنّا نعيش أزمة حبّ، أم أزمة ذوق. ولكن العالم تغيّر، وتقلّص، ومعه الثياب النسائية، التي مرّت بكل مراحل القهر التاريخي، وانتقلت من الزمن الذي تتراكم فيه الثياب الداخلية، قصد إخفاء تضاريس الأنوثة، إلى زمن ابتكار المشدّ لتفصيل الجسد ونحت خصر المرأة، كما لو كانت فراشة. كل هذا، تارة بقصد إثبات براءة المرأة وعفتها، وتارة لتوريطها وتسويقها في لعبة الجمال والإغواء.
            لا توجد حضارة واحدة بريئة في تعاملها مع المرأة عبر التاريخ. وقد قرأت أنّه عندما ظهر المشدّ في العصور الوسطى، تعرّض إلى حملة عنيفة على أيدي خطباء الكنيسة، إذ اعتبروا أنّ النساء "لبسن الشيطان في ثنايا أردافهن".
            أثناء ذلك، كان الصينيون الذين لا يحتاجون إلى شدّ خصور نساءهم النحيفات أصلاً، مشغولين بصناعة قوالب خشبية لأرجلهن، قصد منعهنَّ من النمو، وربما لإثقال خطاهن كالحيوانات المدجنة حتى لا يذهبن أبعد من البيت.
            ولكن يظلّ الصينيون أرحم من الحاكم بأمر اللَّه، الذي على ايام الفاطميين لم يحكم سوى بأمر منطقه الغريب، وكأنّه الأب الشرعي لبعض من يحكموننا اليوم من حكّام غريبي الأطوار.
            فعندما قرر الحاكم بأمر اللَّه منع النساء من الخروج، أصدر مرسوماً يمنع الإسكافيين على أيامه من صناعة أحذية النساء، تماماً كما منع المصريين من اكل الملوخية لأنه لم يكن يحبّها!

            وهكذا، ما كاد يعود إلى النساء حق انتعال الحذاء، حتى لم يتردّدن في استعماله ضد الرجل.
            أعود إلى موضوع الثياب "الذكية" التي اخترعها لنا العلماء، والتي بوسائلها الإلكترونية ستشي للمرأة بما يكفي من المعلومات لسبر خبايا الرجل الذي أمامها. ذلك أنّ في بطانة الفستان محطة اتصالات كاملة، قد تتحول إلى شاشة تلفزيون عند الحاجة.. وإذا كان القدامى يقولون "الناس مخبّايين بثيابهم"، فعلى أيام أولادنا سيتعرى الناس بسبب ثيابهم، ولن تحتاج النساء، لقياس حرارة الرجل سوى لأحمر شفاههن الذي سيكون إلكترونياّ. ولمعرفة مدى صدق رجل، كل ما يلزمهن عدسات لاصقة ستكون مزوّدة برزمة إشعاعية تُمكّن المرأة من اختراق خباياه.
            وإذا كانت هذه الثياب تقوم بمهمة التدليك، ومنع ترهل الجسم، فإن من حسناتها او مصائبها الأخرى على العشّاق، قدرتها على استعادة الأيام الخوالي وعملها عمل الذاكرة، فتخزّن انطباعاتك واحاسيسك عن اماكن مررت بها، وتزوّدك بالهواء والأصوات التي سجّلتها في ما قد يسمّى "عطر الصوت".
            وهنا.. يا لطيف.. يا ستاَّر.. تبدا فضيحة ثياب تتأوّه، وأخرى تصرخ، وأخرى تتنهّد، بعد ان التقطت تاوهات المرأة الداخلية وراحت تبثها عبر مكبّر صوت، إلكترونياً. أي انها (بعيد الشر عنكم) وباختصار، فضيحة إلكترونية، خاصة لمن في مثل حالتي يجهل التعامل مع التكنولوجيا.
            ماذا يستطيع رجل مذعور أن يفعل عندما يجالس امراة مفخخة بهذا الكم من الفضائح الإلكترونية؟
            * لوجه الله أنصحه بان يرتدي قميصاً بازرار من الأسبرين أنتجتها شركة الأسبرين بمناسبة مئوية هذا الدواء.
            ولكن ثمة مصيبة أُخرى. فكلّما اقتلع الرجل زرّاً من قميصه والتهمه مرعوباً، انتفخ قميصه أكثر. وطبعاً، ازداد الفستان تأوهاً وصراخاً!
            ويا رب سترك! يا ناس جيؤوني بعباية!
            __________________

            نحن في سجن عسقلان ... طمنينا عنك


            لم أدرك يوماً سر انجذاب الأسرى السياسيين إلى كتاباتي، حتى إنه في إمكاني أن أكتب كتاباً كاملاً (قد يكون كتابي الأجمل) عن تلك المصادفات العجيبة التي، على مدى ربع قرن، وضعت مراراً في طريقي أسرى من سجناء الرأي القابعين في المعتقلات العربية، قبل أن ينضم إليهم الأسرى الفلسطينيون الموزعون على السجون الإسرائيلية. بعض هذه القصص من الجمال، بحيث أرى في عدم كتابتها جريمة في حق الأدب، وأحياناً في حق الحب.
            عاد موضوع الأسرى ليجتاح حياتي بعد مروري ببرنامج “خليك بالبيت”، وقبلها بيوم كان زاهي وهبي قد طلبني مساءً ليقول لي: “أدري أن هذا الخبر سيسعدك.. لك سلام خاص من أسرى سجن عسقلان.. إنهم ينتظرون بلهفة حلقة الغد لمتابعة حوارك”. وما كدت أضع السماعة حتى رحت أبكي للحظات، غير مصدقة معجزة الكتابة، التي تجعل كلماتك تخترق الحدود والحواجز، وبوابات السجون، وقضبان الزنازين، لتحط في أيدي أسرى محكوم على بعضهم بثلاثين سنة من السجن.
            لكن معجزة أُخرى كانت في انتظاري غداة بث البرنامج، عندما رن هاتفي النقال، ووجدتني أتكلم مع الأسير محمود الصفدي، الذي أمده زاهي برقم جوالي، واستطاع بطريقة من الطرق أن يوصل إليّ صوته عبر الهاتف. وبقيت مذهولة أبحث عن كلمات أرد بها عليه. فقد كان يتكلم بجمالية وفصاحة صقلتهما العزلة والمطالعة.. والحب. وراح بحماس وشوق ينقل إليّ محبته ومحبة رفاقه الأسرى. قال: “نحن أربعمئة معتقل هنا، نهديك وروداً أكثر من التي وصلتك، لأنك أهديتنا قارب نجاة لعالم الحرية والمعرفة. كتبك زادنا اليومي في رحلة الأسر الطويلة”.
            وأما تعجبي لاكتشافي أنه طالع رواياتي الثلاث، أخبرني محمود أنهم ناضلوا كثيراً ودخلوا في إضرابات جوع مفتوحة، قبل أن يحصلوا على حق القراءة وحق مشاهدة التلفزيون، وأنه قبل ذلك حدث لأحد الرفاق الأسرى أن قضى أياماً منكباً على نسخ “ذاكرة الجسد” بـ “أحرف السمسمة”، ليهربها إلى بقية المعتقلين. سألته عن هذه التسمية، قال “إنها تطلق على أصغر حرف يكتب على ورق شفاف للمراسلات”. لكنه طمأنني بشيء من الفرح قائلاً: “الآن، جميعنا قرأناك، وأبطالك يقيمون معنا، برغم ضيق زنزاناتنا التي تضم ثمانية أسرى. لقد أفسحنا مكاناً بيننا لخالد وعبدالحق وحياة.. إنهم يعيشون معنا.. نتحدث إليهم ونتحدث عنهم في جلساتنا”.

            لم أفهم سر التوقد، الذي يشتعل به كلام محمود الصفدي، إلاّ عندما حدثني عن “عاطف شاهين”، الفتاة التي خطبها قبل خمسة عشر عاماً، أي قبل اعتقاله ببضعة شهور، لكنها يوم حكم عليه بالسجن لسبع وعشرين سنة، بسبب نشاطه في الانتفاضة الأولى، رفضت أن تضع حداً لعلاقتهما. قال محمود بسخرية: “من الواضح أنها لم تأخذ بنصيحتك التي تقول “من الأفضل أن تحب المرأة رجلاً في حياته امرأة على أن تحب رجلاً في حياته قضية”. حاولت كثيراً إقناعها بالتخلي عني وتحريرها من أعباء رحلتي الطويلة، إلاّ أنها أبت وأصرت أن تتمسك بي وبحبنا وتسير معي في درب الآلام مجهولة النهاية. وكانت تردد دوماً أن من حقها أن تناضل كما ناضلت أنا، وأنها ستنتظرني إن اقتضى الأمر خمس عشرة سنة أُخرى إلى نهاية حكمي”.
            في عيد العشاق، سلام خاص إلى محمود وعاطف، التي يحدث أن تهاتفني من القدس، لتنقل إليّ تحيات خطيبها أو رسالة منه.
            رائعان أنتما وجميلان، حتى لنكاد نحسدكما على أسطورة حب أنجبها الحرمان، وانتظار حبيب سنة.. مقابل كل يوم كان لكما فيه لقاء.
            إن كان العشق يحتاج إلى سجن وسجّان.. خذوا بؤسنا العاطفي وسوقونا إلى سجن عسقلان.

            __________________

            هزيمة الخنساء . . في مسابقة البكاء

            منذ مدة، وأنا أحتفظ بخبر طريف، عن سيدة استطاعت الفوز بـ "تاج البكاء"، بعد تحطيمها رقما قياسيا في البكاء المتواصل، الذي لا سبب له طبعا، عدا إصرارها على الفوز بذلك اللقب.
            وكنت أعتقد، حتى قراءتي هذا الخبر، أن العرب دخلوا كتاب "غينيس" للأرقام القياسية، على الأقل من باب النواح والعويل. فعندما نزل شيطان الشعر على أشهر شاعر جاهلي، ما وجد شاعرنا بيتا يفتح به تاريخ الغزل العربي غير "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل". ومن يومها ونحن نتوارث البكائيات، جيلا بعد جيل، ونملك "بطارية" جاهزة لامدادنا بطاقة البكاء، لسبب أو لآخر.
            فالإنسان العربي يعيش على حافة البكاء. إن أحب بكى، وإن كف عن الحب بكى، وإن نزلت عليه السعادة بكى، وإن هو شاهد على التلفزيون مشهدا مؤثرا بكى، وإن رأى منظرا جميلا أيضا بكى. ألم يقل مالك حداد، شاعر الرواية الجزائرية: "ثمة أشياء من الجمال، بحيث لا نستطيع أمامها إلا أن نبكي"؟
            وحتى قرائتي ذلك الخبر، كنت أعتقد أن الله قد وهبنا في شخص الخنساء مفخرة لأمتنا، بعد أن لزمت المسكينة قبر أخيها ترثيه وتبكيه، حتى ماتت، فمنحتنا شرف الموت بكاء.
            يا لغبن الخنساء، الشاعرة التي أحبتها أنيسة بومدين، زوجة الرئيس الجزائري الراحل، وخصصت لها بحثا مطولا، مفتونة بذلك الكم من الدموع الذي ماتت بغصته.
            ربما لو علمت الخنساء أنه سيأتي يوم يكون فيه للبكاء أيضا جوائز ومسابقات، لوفرت على نفسها دموعا أودت بها، بينما أخرى غيرها هي التي فازت بلقب المرأة الباكية في مسابقة للبكاء، نظمها ناد ليلي في "هونغ كونغ".
            ولو نظمت هذه المسابقة في مقبرة، لما وجدوا بين الثكالى واليتامى من يفوز بها، لأن الألم الكبير لا دموع له. وتحضرني هنا والدة الشهيد محمد الدرة، التي التقيتها في أبو ظبي في اليوم التضامني مع الأقصى، بعد فترة وجيزة من استشهاد طفلها، وكان لها نبل الألم وصمته. بينما، وحتى بعد انتهاء جميع المشاركين في تلك المناحة الجماعية، التي نظمها النادي الليلي، وحتى بعد إعلان لجنة التحكيم قرار فوزها، لم تتمكن المرأة الفائزة من التوقف عن البكاء، ولم تفد معها محاولة الآخرين إقناعها بأنه لا داعي بعد الآن لمزيد من العويل، واستمرت ساعات تبكي، ربما من شدة الفرح هذه المرة، حتى أصيبت بنوبة هستيرية، نقلت على أثرها إلى المستشفى "وتاج البكاء" على رأسها
            وقرأت مؤخرا تصريحا لإيطالي يدعى كارلو مارتيني يقول فيه: "كم أبكي عندما أرى ما حل بجبن الستلتن. أصبحوا يعملونه الآن من حليب معقم يقتل الميكروبات، التي هي في الواقع سر روعة طعم هذا الجبن".
            وأخونا الإيطالي، الباكي المتحسر على زمن الميكروبات، التي تعطي جبنا إيطاليا شهيرا بطعمه المتميز، هو مؤسس "حركة الطعام البطيء"، وبكاؤه لا علاقة له بالموت السريع أو البطيء، الذي يهدد العالم بسبب الحروب الجرثومية.. أو القنابل الانشطارية أي الهاطلة من سماء أفغانستان، فكل يبكي على "جبنته"، أو دفاعا عن تاجه.
            وعلى ذكر البكاء.. تحضرني قصة تلك المحامية، التي اختلت بي أثناء زيارتي إلى بلادها، بعد أن انتهيت من إلقاء محاضرة ألهبت القاعة وأبكتها، وأنا أطالب بحق الصلاة في الأقصى. فقد نصحتني بالتروي في الهجوم على إسرائيل، وحكت لي ما حل بها يوم كانت تزور، برفقة وفد من النساء العربيات، مدينة سياحية، ورأت لأول مرة سياحا إسرائيليين يتجولون في بلادها، فأجهشت بالبكاء، وإذا بالشرطة تحضر وتطالبها بأوراقها الثبوتية، وتسجل اسمها وعنوان عملها. وعندما سألت إن كان ثمة قانون يمنعها من البكاء في حضرة إسرائيليين، جاءها الجواب: "لا.. ولكنك ببكائك هذا، أسأت إلى الضيوف". وفي الغد حضر رجال الأمن إلى مكتبها لمزيد من التوضيح.
            أما وقد سلب منا تاج الحزن، أخاف أن يأتي يوم لا نستطيع فيه البكاء على ظلم أعدائنا، إلا بذريعة النواح على جبن إيطالي، أو المشاركة في مسابقة للبكاء ينظمها ناد ليلي ما

            __________________

            معسكرات الاعتقال العاطفي


            من أجمل أقوال الإمام علي (كرَّم اللَّه وجهه)، قوله: "أحبَّ مَن شئت فأنتَ فاقده", وهو يُذكِّرنا بقول آخر له: "لكلٍّ مُقبل إدبار وكلُّ مُدبرٍ كأن لم يكن", لكأنَّ علينا أن نعيش السعادة كلحظة مهدّدة، ونتهيّأ مع كل امتلاك.. لحتميّة الفقدان.. وكما يقوم نزار قبّاني بـ"تمارين" يوميّة في الحبّ، علينا أن نقوم يومياً بالتمرُّن على فاجعة فِراق أقرب الناس إلينا، كي نُحافظ على لياقتنا العشقيّة.. ونقوّي عضلة القلب، بالانقطاع فترة عن الذين نحبّهم.

            وما أعنيه هنا، هو فراق الْمُحبين، وما يليه من آلام النهايات ذلك أن الأجمل كان لو استطعنا الاحتفاظ بجمالية البدايات.. لو أن الحب لم يمضِ بنا صوب خلافات وشجارات، واكتشافات تشوّه الحلم فينا، وتجعل الحُبّ الكبير يموت صغيراً.

            وبرغم هذا، لا أُوافق محمود درويش، حين يقول "لا أُحبُّ مِنَ الحب سوى البدايات", فليست البدايات هي التي تصنع الحبّ، إنها ذلك الذهاب والإياب العشقي نحو الحب وداخله.. ذلك الكوكتيل العجيب من العواطف الْمُتداخلة الْمُتدافعة الْمُتناقضة، مدّاً وجزراً، صدّاً ووصلاً.. حبّاً وكراهية، التي تصنع أُسطورة الحب، وتُحبّب للمحبِّين عذابه وتقلّباته فـ"من ده وده.. الحبّ كده"، ولا مجال لقطف وروده من دون أن تُدمي يدك بل ثمَّة مَنْ عَلَشان الشوك اللِّي في ال*** يحبّ ال***"، وهو نفسه الذي غنّى "مضناك جفاه مرقده وبكاهُ ورُحّم عوّده"، حتى جاء مَنْ يُزايد عليه في المازوشيّة العاطفية، مُعلناً من غرفة العناية الفائقة للعشَّاق "عش أنتَ إنِّي متُّ بعدك"، وقد كان موته السريريُّ متوقّعاً لدى كلّ محبِّي أغانيه، مذ أعلن في أغنية شهيرة أن "الحب من غير أمل أسمى معاني الحياة"، ما جعل من الموت حبّاً.. أجمل أنواع الميتات! وهـي طريقة شاذَّة في الحب، لا أتباع لها إلاَّ في العالم العربي، حيث لتشوّهات عاطفية يطول شرحها، عندما لا يجد الإنسان العربي حاكماً يتكفل بتنغيص حياته، وخنق أنفاسه، ورميه في غياهب السجون، يتولّى بنفسه أمر البحث عن حبيب طاغية جبّار، يُسلّمه روحه كي يفتك بها.. حُبّاً، بعد إدخاله إلى معسكرات الاعتقال العاطفي، وتعذيبه عشقاً حدّ الموت.

            وبسبب هذا الواقع الذي انعكس على أغانينا، يصعب إحصاء الجرائم العاطفية في الأغاني العربية، التي كثيراً ما يُضاف إليها جريمة هتك المغني ذوق المستمعين، وثقب مسامعهم بعويله وفي حمّى تكاثُر الجمعيّات التي تظهر كل يوم باسم ضحايا الإرهاب، وضحايا الفيضانات، وضحايا البنايات المهدّدة بالانهيار، اقترح أحد القرّاء الجزائريين تشكيل جمعية ضحايا الحب من طرف واحد وأظن أن الموسيقار فريد الأطرش، كان يصلُح رئيساً شرفياً لها، لو أنه لم يكن ضحية فعلية من ضحاياها!

            وخَطَــر لي أن أزيــد على اقتراح هذا القارئ، أن يكون لهذه الجمعيّة فرع في كلّ دولة عربية، وألاَّ يقتصر الانخراط فيها على العشَّاق وحدهم، بل يشمل أيضاً المواطنين العرب، الذين يعانون من أوطان لا تُبادلهم الحبّ، ولا يعنيها أن تسحق الحاجة هامتهم، أو تتقاذف المنافي أقدارهم.. في المقابل، أُطالب بإغلاق معسكرات الاعتقال العاطفيِّ، التي يقبع في زنزاناتها عشاق سُّذج، تصوّروا الحياة العاطفية بثوابت أزلية، وذهبوا ضحية هَوسهم بعبارة "إلى الأبد"، معتقدين أن كلَّ حبّ هو الحبُّ الكبير والأخير، فوقعوا في براثن حب مُسيَّج بالغيرة وأسلاك الشكوك الشائكة، ومُفخّخ بأجهزة الإنذار ونقاط التفتيش، غير مدركين أن الحب، رغم كونه امتهاناً للعبودية، هو تمرين يومي على الحرية أي على قدرتنا على الاستغناء عن الآخر، حتى لو اقتضى الأمر بقاءنا أحياناً عاطلين عن الحب.

            نــــزار يرى عكس هذا حين يقول "أُريد أن أظلّ دائماً نحلة تلحس العسل عن أصابع قدميك.. حتى لا أبقى عاطلاً عن العمل!".

            الْمُشكِل في كون العشاق يسعدون بعذابهم، ولا أمل في إنقاذهم من استعباد الحبّ لهم!

            __________________

            هودج الوعد الذي قد يحملُك
            مُفرطاً في الحُسنِ تمشي
            نعلُكَ قلبي
            كأنْ لا قلب لكْ
            فتنةٌ بكَ تشي
            كلُّ مَن صادف عينيكَ
            هَلَكْ

            **

            يا لحُسنك
            حرِّضَ الحُزنَ عليّ
            كمْ نساءٌ
            فاتهنَّ غبارُ خيلكْ
            مِتنَ من قبل بُلوغ شفتيكْ

            **


            كيف لي
            أن أكون غِمداً لسيفكَ
            هودج الوعد الذي
            قد يحملُكْ
            فرساً تصهل في مربط قلبِكْ
            أنثى ريح الركبِ
            أنَّـى وجهتُكْ


            **

            قل يا رجل
            إلى أيَّة غيمةٍ
            تنتمي شفتاكْ
            كي أُسافِر في حقائب مطرك
            وأحطَّ
            حيثُ تهطُلْ


            **

            مُقبل أنتَ
            وعمري مُدبرٌ
            طاعنٌ في الوهم قلبي
            قبلك ما عشق





            ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ



            شوكولا الأدب.. وقلَّة أدب الشوكولا


            لم يحصل في الماضي، أن طالبتُ زوجي بطبق الاوسو بوكو ، إلاّ وأسرع بي إلى مطعم إيطالي، لعلمه أنني حتماً حبلى بصبيّ.
            وفي السنوات الأخيرة، ما أضفت إلى قائمة المشتريات اليومية للبيت كلمة "شوكولا" حتى استنتج أنني أنتظر رواية، بعدما أصبحت الشوكولا أحد أعراض "وَحَمِي الأدبيّ". هكذا، اعتاد مع إحضاره الخضار واللحم والحليب وصابون الجلي ورغيف الخبز الافرنجي، أن يحمل لي لوحاً من الشوكولا، يضعه كلّ صباح على مكتبي كي يزوّدني بمحروقات الكتابة ووقودها، مضيفاً ***ة "غاردينيا" يقطفها من حديقة البيت، ضاحكاً حتماً في سرّه، لكوني الزوجة التي لا يُكلِّف إسعادها شيئاً يُذكَر.
            الواقع، أنّ مزاجي لاتتحكّم فيه إلاّ الشوكولا، وسعادتي مرهونة بطعمها الأسود المرّ. وبرغم كوني سافرت كثيراً إلى سويسرا، وأهداني الأصدقاء أفخم أنواعها، لم أتنكّر يوماً لشوكولا طفولتي. وكانت بسيطة سوداء، في لوح من أصابع عدّة، لم نكن نعرف غيرها، ولا نحلم بسواها مكافأة عند عودتنا من المدرسة.
            ولأنّ شهيتي للكتابة تزداد في شهر رمضان، حدث أن أفطرت وتسحّرت على الشوكولا وعلى حبّات تمر وشيء من الحليب، ومازلت أذكر زمن كتابتي "عابر سرير". فقد كنت أضع زادي من الشوكولا على مكتبي، ولا أُغادر غرفتي إلاّ ساعة الإفطار لأسأل زوجي سؤالين: "هل عثروا على أسامة بن لادن؟". فيُجيب "لا".. و"هل تزوّج الحاج متولِّي بزوجة جديدة؟"، فيردّ "نعم". وبعدما أكون قد اطمأننت إلى مصير الأُمّة العربيّة.. أعود لأوراقي لأطمئن على مصير أبطالي.
            منذ فترة عادت الشوكولا تتحكّم في مزاجي الروائي، واحتجت إلى مزيد من "بَلْوَتي السوداء"، بسبب انهماكي هذه المرّة في كتابة روايتين في الوقت نفسه، كلّ هذا وسط زحمة أسفاري وهروب شغّالتي، وورشة البيت الذي أعدت "نفضه" عن بكرة أبيه. لن أقول لكم أكثر، فأنا أحب أن أضع مولودي سرّاً على طريقة القطط، وكالقطة أقضي مدّة ما قبل الوضع "حايصة" أبحث عن مكان دافئ وصغير يليق بحميميّة الولادة. حتى إنني كثيراً ما حلمت بوضع مولودي الأدبيّ في غرفة شغّالتي، بينما لم تحلم القطط سوى بوضع صغارها في مكتبي، حتى إنّ قطة كانت في بيتنا، راحت تُجرِّب تارة سريري، حيث أكتب، وتارة جوارير الخزانة، كلما تركت أحدها مفتوحاً. وفاجأتها مرّة وهي تنام على فرو كنت أخبئه أعلى الخزانة، ولم أفهم ما بها، حتى فاجأتني بوضع صغارها الخمسة في سريري.
            وأعتقد أنَّ البركة حلّت يومها في مكتبي، عندما تحوّل على مدى أسبوع إلى حضانة للهررة، واستحققت عن جدارة لقب "أُم هريرة"، الذي كان يُداعبني به زوجي، أو "بريجيت باردو الحي"، كما كانت تُسمِّيني أخته، قبل أن يمنعني مواء القطة وصغارها من العمل.. أو النوم، فأضطر إلى نقلها وإيّاها إلى مكان آمن في الحديقة، وأعود لكتابة "فوضى الحواس".
            ربما عدت، لأحدثكم ذات مرّة عن علاقة المبدعين بالقطط، وكذلك بالشوكولا التي يبدو أنها تركت بصماتها السوداء على بعض النصوص الأدبية. ولأنني بُليت بها فأنا لا أنفك عن ملاحقة أخبارها. وقرأت مؤخراً عن مؤتمر طبي خُصِّص لدراسة فوائدها ومصائبها، وكنت أعرف لها قبل ذلك فائدة أكّدها المؤتمر، مساعدتها على التغلُّب على الشجون العاطفيّة. فكثيراً ما نصحت صديقاتي بتناولها أثناء القطيعة والمآسي العشقيّة، لأنها تمنحنا مزاجاً جميلاً، وتُساعدنا على مقاومة الكآبــة، والإحباط العاطفي. الخبر الجديد هو اختراع لصقة جلدية تساعد على تقليل الرغبة الْمُلحّة في تناول الشوكولا، (ورغبات أُخرى تنتاب مُدمنيها). الدليل: خبر من كولومبو نقلته الصحف عن قرد في حال هياج جنسي، أثار الذعر في بلدة وسط سريلانكا. بعدما أخذ يهاجم إناث القطط والكلاب، ويُطارد الفتيات، ويتحرّش بهنّ، وذلك حسب تفسير مَن رأوه، بسبب الشوكولا التي كان يتغذّى عليها ويسرقها من المتاجر.
            ولا حول ولا قوة إلاّبالله.. أدركوني بلصقة مضادة لهذه الشوكولا الملعونة.

            تعليق


            • #7
              محضر ضبط عاطفي.. في حق ***ة
              ما ترك لي الحب من فرصة لأُغافله وأُفلت قليلاً من قبضته، لأشتري له في عيده.. ما يفاجئه.
              أفكّر في الآخرين.. الملايين الذين سيهجمون على الورود الحمراء ليقولوا الكلمة إياها باللون نفسه.. العالم كلُّه سيتكلّم ليومٍ لغة واحدة. أجمل العشّاق أولئك الذين سيجازفون هذا العام أيضاً، بالدفاع عن حقهم في حيازة هذا اللون، في بلاد يُمنع فيها بيع الورود الحمراء في عيد الحب، لأنني لا أحب من الأحمر إلاّ شبهته، ما كنت لأشتري سواها لو كنت هناك. لكنني في بلاد زاد فيها الأحمر على حدّه، وغدا الحب فيها مفقوداً لفرط وجوده في الواجهات.
              هذا العام، أتوقّع أن تنحاز بيروت إلى اللون الأبيض، مذ أصبح اللون الرسمي لأضرحة شهداء الحرّية. المدينة التي اعتادت أن تصدّر إلى العالم فائض الحب، أخشى على الأحمر أن يعاني فيها كساداً في عيده.
              في عيد الحب ثمة من يسجّل محضر ضبط عاطفياً في حق ***ة.. لأنها حمراء، وثمة من يحاول تفجير حقول الذكرى.. واغتيال ورود الوفاء.. لأنها بيضاء.
              لنتسامح على الأقل.. مع الورود!

              ***

              ماكدت أكتشف في السنة الماضية، أن عيد ميلاد صديقتي المطربة لطيفة، يوافق عيد العشاق، حتى تحوّل 14 شباط، باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى عيد للشهداء. ففي زمن التنكيل العربي، كما كان أحد طغاتنا يحتفظ لنفسه، بمتعة قتل خصومه بطلقات مسدسه الذهبي، الذي لا يخص به سوى "أعدقائه" وأقاربه، ثمة من لا يقبل بغير عيد الحب مناسبة ليبعث فيها بالموت هدية، ليقول لنا كم أُحب الفقيد!
              أُشفق على صديقتي الغالية لطيفة، أفسدوا عليها عيدها إلى الأبد. لا أظنها ستنسى بعد الآن كيف عاشت ذلك الحدث، لوجودها يومها في فندق تطايرت نوافذه ودُمّر أثاثه بوقع الانفجار.
              لكن، لي إليها خبر جديد، هذا العام، أتوقّع أن يطير من وقعه ما بقي من عقلها، نظراً إلى ما أعرفه عنها من حبّ لأميركا وللقائمين على سياستها العربية.
              يؤسفني عزيزتي أن أخبرك أنك تشتركين في تاريخ ميلادك المجيد مع جوهرة تاج الرئيس بوش "الأميرة المقاتلة" و"الصقر الأسود" كوندليزا رايس، ففي 14 فبراير 1954 جاءت "ربة الوجه الصبوح" إلى العالم، لتصبح اليوم أقوى امرأة في العالم بحكم تحكُّمها في صمام أمان الكرة الأرضية، وتولِّيها شؤون الأمن القومي - سرّاً وعلانية - فهي الشخص المسيطر على إمبراطور العالم، الرئيس المعظّم "بوش الصغير". كلُّ هذا تقوم به، لا بيد حديدية على طريقة مارغريت تاتشر، بل بأنامل موسيقية.. ذلك أنها تشترك معك أيضاً في حبّ الموسيقى وإتقانها باحتراف. وحدث منذ ثلاث سنوات أن قدمت على أكبر مسارح واشنطن كونشرتو، عزفت فيه على البيانو بحضور ألفي مشاهد.
              كنتُ أفكر في ماذا أهديك لعيدك (عدا قصّة ذلك الفيلم الذي مذ مارست عليّ كل أنواع الابتزاز العاطفي، لأكتبه لك، كي يكون على قدر قضايانا العربية المشتركة وجنوننا ومزاجنا المغاربي الحار، وأنا منهمكة في كتابته)، قبل أن يصبح همي الاستفادة من هذه المناسبة لنهدي إلى هذه المخلوقة، "كوندليزا رايس" في عيدها، ما يشغلها عنّا.. ويقينا شرّها.
              المرأة تملك أحذية يفوق عددها أحذية "إيميلدا ماركوس". أتوقّع أنها لا تدري أين تذهب بها في عيد العشاق.
              وتملك مرآتين في مكتبها.. كي ترى نفسها بنظرات أحد غيرها. زوجي يتمنى أن يُطعمها الله عريساً تلتهي به قليلاً و"تحل عنّا". والإيرانيون يتحسرون على حماقة ذلك الإيراني، الذي تخلى عنها أيام الدراسة وغذَّى بتصرفه كراهيتها للمسلمين.
              لو أن ذلك الغبي قام بتخصيبها.. لربما حلّت اليوم مشكلة تخصيب اليورانيوم الإيراني. أرأيت كيف يتحكم الحب في العالم!


              ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ


              خواطر عشقية … عجلى




              في إمكان أيّ حَشَـرَة صغيــرة أن تهزم مُبدعــاً تخلّى عنه الحــبّ·


              هذا المبدع نفسه الذي لم يهزمه الطُّغاة ولا الجلاّدون ولا أجهزة المخابرات ولا دوائر الخوف العربيّ·· يوم كان عاشقاً·


              ***


              لم أسمع بزهرة صداقة نبتت على ضريح حبّ كبير· عادة، أضرحة الفقدان تبقى عاريــة· ففي تلك المقابر، لا تنبت سوى أزهار الكراهية· ذلك أنّ الكراهية، لا الصداقــــة، هي ابنة الحب·


              ***


              لابد لأحدهم أن يفطمك من ماضيك، ويشفيك من إدمانك لذكريات تنخـر في جسمك وتُصيبك بترقُّق الأحلام· النسيان هو الكالسيوم الوحيد الذي يُقاوم خطر هشاشة الأمل·


              ***


              إنْ لم يكن الحبّ جنوناً وتطرّفاً وشراسة وافتراساً عشقياً للآخــر·· فهو إحساس لا يُعـــوّل عليه·


              ***


              ليس في إمكان شجرة حبّ صغيرة نبتت للتوّ، أن تُواسيك بخضارها، عن غابة مُتفحِّمة لم تنطفئ نيرانها تماماً داخلك·· وتدري أنّ جذورها ممتدة فيك·


              ***


              إنّ حبّاً كبيراً وهو يموت، أجمل من حبّ صغير يُولد· أشفق على الذين يستعجلون خلع حدادهم العاطفي·


              ***


              أنتَ لا تعثر على الحبّ·· هو الذي يعثر عليك·


              لا أعرف طريقة أكثر خبثاً في التحرُّش بـه·· من تجاهلك له·


              ***


              أتــوق إلى نصـر عشقيّ مبنيّ على هزيمة·


              لطالما فاخرت بأنني ما انتصرت مرّة على الحبّ·· بل له·


              ***


              بعد فراق عشقي، ثمَّة طريقتان للعذاب:


              الأُولى أن تشقى بوحدتك، والثانية أن تشقى بمعاشرة شخص آخــر·


              ***


              أيتها الحمقاء·· أنتِ لن تكسبي رجلاً إلاّ إذا قررتِ أن تحبي نفسكِ قبل أن تُحبّيه، وتُدلّليها أكثر ممّا تُدلِّليلنه· إنْ فرّطتِ في نفسكِ عن سخاء عاطفي فستخسرينه·


              انظــري حولـكِ·· كـم المـرأة الأنانيــة مُشتهــــاة·



              __________________

              تشي بكَ شفاهُ الأشياء

              قلت لك مرة: "أحلم بأن أفتح باب بيتك معك". أجبت "وأحلم بأن أفتح بيتي فألقاكِ".
              من يومها، وأنا أفكر في طريقة أرشو بها بوّابك كي ينساني مرة عندك.. أن أنتحل صفة تجيز لي في غيبتك دخول مغارتك الرجالية. فأنا أحب أن أحتل بيتك بشرعية الشغّالات.. أن أنفض سجاد غرفة نومك من غبار نسائك.. أن أبحث خلف عنكبوت الذكريات عن أسرارك القديمة المخبأة في الزوايا.. أن أتفقد حالة أريكتك، في شبهة جلستها المريحة.. أن أمسح الغبار عن تحفك التذكارية، عسى على رف المصادفة تفضحك شفاه الأشياء.
              * * *
              أريد أن أكون ليوم شغّالتك، لأقوم بتعقيم أدوات جرائمك العشقية بالمطهرات، وأذيب برّادك من دموعي المجلدة، مكعبات لثلج سهرتك.. أن أجمع نسخ كتبي الكثيرة، من رفوف مكتبتك، منعا لانفضاحي بك.. ومنعا لإغرائك أخريات بي.. أن أستجوب أحذيتك الفاخرة المحفوظة في أكياسها القطنية، عمّا علق بنعالها من خطى خطاياك.. أن أخفيها عنك، كي أمنعك من السفر.. (هل حاولت امرأة قبلي اعتقال رجولتك.. بحذاء؟).

              * * *

              أحب في غيبتك، أن أختلي بعالمك الرجالي، أن أتفرج على بدلات خلافاتنا المعلقة في خزانة، وقمصان مواعيدنا المطوية بأيدي شغّالة فلبينية، لا تدري كم يحزنني أن تسلّم رائحتك للصابون.
              أحب.. التجسس على جواريرك.. على جواربك.. وأحزمتك الجلدية.. وربطات عنقك.. على مناشفك وأدوات حلاقتك وأشيائك الفائقة الترتيب.. كأكاذيب نسائية.

              * * *
              تروق لي وشاية أشيائك.. جرائدك المثنية حسب اهتمامك.. مطالعاتك الفلسفية، وكتب في تاريخ المعتقلات العربية، وأخرى في القانون. فقبلك كنت أجهل أن نيرون يحترف العدالة.. وكنت أتجسس على مغطس حمامك.. وعلى الماركات الكثيرة لعطورك، وأتساءل: أعاجز أنت حتى عن الوفاء لعطر؟.

              * * *
              كم يسعدني استغفال أشيائك.. ارتداء عباءتك.. انتعال خفيك.. الجلوس على مقعدك الشاغر منك.. آه لو استطعت مدّ فوطاي.. وفرد أوراقي على مكتبك.. وكتابة مقالي القادم في انتظار أن تفتح الباب.
              أن أتناول فطور الصباح في فناجين قهوتك.. على موسيقاك.. وأن أسهر برفقة برنامجك السياسي.. ذلك الذي تتناتف فيه الديكة.. ثم أغفو منهكة، على شراشف نومك..
              دع لي بيتك وامض.. لا حاجة لي إليك.
              إني أتطابق معك بحواس الغياب.

              ________________________

              خسرنا العلماء وربحنا السيليكون




              خبر صغير أيقظ أوجاعي. لا شيء عدا أنّ الهند تخطّط لزيادة علمائها، وأعدَّت خطّة طموحاً لبناء قاعدة من العلماء والباحثين لمواكبة دول مثل الصين وكوريا الجنوبية في مجال الأبحاث الحديثة.


              لم أفهم كيف أنّ بلداً يعيش أكثر من نصف سكانه تحت خط الفقر الْمُدْقِع، يتسنّى له رصد مبالغ كبيرة، ووضع آلية جديدة للتمويل، بهدف جمع أكبر عدد من العلماء الموهوبين من خلال منح دراسيّة رُصِدَت لها اعتمادات إضافية من وزارة العلوم والتكنولوجيا، بينما لا نملك نحن، برغم ثرواتنا المادية والبشرية، وزارة عربية تعمل لهذه الغاية، (عَدَا تلك التي تُوظّف التكنولوجيا لرصد أنفاسنا)، أو على الأقل مؤسسة ناشطة داخل الجامعة العربية تتولّى متابعة شؤون العلماء العرب، ومساندتهم لمقاومة إغراءات الهجرة، وحمايتهم في محنة إبادتهم الجديدة على يد صُنَّاع الخراب الكبير.


              أيّ أوطان هذه التي لا تتبارى سوى في الإنفاق على المهرجانات ولا تعرف الإغداق إلاّ على المطربات، فتسخو عليهنّ في ليلة واحدة بما لا يمكن لعالم عربي أن يكسبه لو قضى عمره في البحث والاجتهاد؟ ما عادت المأساة في كون مؤخرة روبي، تعني العرب وتشغلهم أكثر من مُقدّمة ابن خلدون، بل في كون اللحم الرخيص المعروض للفرجة على الفضائيات، أيّ قطعة فيه من "السيليكون" أغلى من أي عقل من العقول العربية المهددة اليوم بالإبادة.


              إن كانت الفضائيات قادرة على صناعة "النجوم" بين ليلة وضحاها، وتحويل حلم ملايين الشباب العربي إلى أن يصبحوا مغنين ليس أكثر، فكم يلزم الأوطان من زمن ومن قُدرات لصناعة عالم؟ وكم علينا أن نعيش لنرى حلمنا بالتفوق العلمي يتحقق؟


              ذلك أنّ إهمالنا البحث العلمي، واحتقارنا علماءنا، وتفريطنا فيهم هي من بعض أسباب احتقار العالم لنا. وكم كان صادقاً عمر بن عبدالعزيز (رضي اللّه عنه) حين قال: "إنْ استطعت فكن عالماً. فإنْ لم تستطع فكن مُتعلِّماً. فإنْ لم تستطع فأحبّهم، فإنْ لم تستطع فلا تبغضهم". فما توقَّع (رضي اللّه عنه) أن يأتي يوم نُنكِّل فيه بعلمائنا ونُسلِّمهم فريسة سهلة إلى أعدائنا، ولا أن تُحرق مكتبات علمية بأكملها في العراق أثناء انهماكنا في متابعة "تلفزيون الواقع"، ولا أن يغادر مئات العلماء العراقيين الحياة في تصفيات جسدية مُنظَّمة في غفلَة منّا، لتصادف ذلك مع انشغال الأمة بالتصويت على التصفيات النهائية لمطربي الغد.


              تريدون أرقاماً تفسد مزاجكم وتمنعكم من النوم؟


              في حملة مقايضة النفوس والرؤوس، قررت واشنطن رصد ميزانية تبلغ 16 مليون دولار لتشغيل علماء برامج التسلُّح العراقية السابقين، خوفاً من هربهم للعمل في دول أُخرى، وكدفعة أُولى غادر أكثر من ألف خبير وأستاذ نحو أوروبا وكندا والولايات المتحدة.


              كثير من العلماء فضّلوا الهجرة بعد أن وجدوا أنفسهم عزلاً في مواجهة "الموساد" التي راحت تصطادهم حسب الأغنية العراقية "صيد الحمَام". فقد جاء في التقارير أنّ قوات "كوماندوز" إسرائيلية، تضم أكثر من مئة وخمسين عنصراً، دخلت أراضي العراق بهدف اغتيال الكفاءات المتميزة هناك. وليس الأمر سرّاً، مادامت مجلة "بروسبكت" الأميركية هي التي تطوَّعت بنشره في مقالٍ يؤكِّد وجود مخطط واسع ترعاه أجهزة داخل البنتاغون وداخل (cia)، بالتعاون مع أجهزة مخابرات إقليمية، لاستهداف علماء العراق. وقد حددت المخابرات الأميركية قائمة تضمّ 800 اسم لعلماء عراقيين وعرب من العاملين في المجال النووي والهندسة والإنتاج الحربي. وقد بلغ عدد العلماء الذين تمت تصفيتهم وفق هذه الخطة أكثر من 251 عالماً. أما مجلة "نيوزويك"، فقد أشارت إلى البدء باستهداف الأطباء عبر الاغتيالات والخطف والترويع والترهيب. فقد قُتل في سنة 2005 وحدها، سبعون طبيباً.


              العمليات مُرشَّحة حتماً للتصاعُد، خصوصاً بعد نجاح عالم الصواريخ العراقي مظهر صادق التميمي من الإفلات من كمين مُسلّح نُصِبَ له في بغداد، وتمكّنه من اللجوء إلى إيران. غير أن سبعة من العلماء المتخصصين في "قسم إسرائيل" والشؤون التكنولوجية العسكرية الإسرائيلية، تم اغتيالهم، ليُضافوا إلى قائمة طويلة من العلماء ذوي الكفاءات العلمية النادرة، أمثال الدكتورة عبير أحمد عباس، التي اكتشفت علاجاً لوباء الالتهاب الرئوي " سارس"، والدكتور العلاّمة أحمد عبدالجواد، أستاذ الهندسة وصاحب أكثر من خمسمئة اختراع، والدكتور جمال حمدان، الذي كان على وشك إنجاز موسوعته الضخمة عن الصهيونية وبني إسرائيل.


              أجل، خسرنا كلَّ هذه العقول.. لكن البركة في "السيليكون"!



              __________________


              لفرط ما كتبتني




              كتبتني
              باليد التي أزهرت في ربيعك
              بالقُبلات التي كنتَ صيفها
              بالورق اليابس الذي بعثره خريفك
              بالثلج الذي
              صوبَكَ سرتُ على ناره حافية

              بالأثواب التي تنتظر مواعيدها
              بالمواعيد التي تنتظر عشّاقها
              بالعشّاق الذين أضاعوا حقائب الصبر
              بالطائرات التي لا توقيت لإقلاعها
              بالمطارات التي كنتَ أبجديّة بواباتها
              بالبوابات التي تُفضي جميعها إليك

              بوحشة الأعياد كتبتني
              بشرائط الهدايا
              بشوق الأرصفة لخطانا
              بلهفة تذاكر السفر
              بثقل حقائب الأمل
              بمباهج صباحات الفنادق
              بحميميّة عشاء في بيتنا
              بلهفة مفتاح
              بصبر طاولة
              بتواطؤ أريكة
              بطمأنينة ليلٍ يحرس غفوة قَدَرِنا
              بشهقة باب ينغلق على فرحتنا

              كتبتني.. بمقصلة صمتك
              بالدُّموع الْمُنهمِرة على قرميد بيتك
              بأزهار الانتظار التي ذَوَت في بستان صبري
              بمعول شكوكك.. بمنجل غيرتك
              بالسنابل التي
              تناثرت حبّاتها في زوابع خلافاتنا
              بأوراق ال*** التي تطايرت من مزهرياتنا
              بشراسة القُبَل التي تفضُّ اشتباكاتنا

              بِمَا أخذتَ.. بِمَا لم تأخُذ
              بِمَا تركتَ لي من عمرٍ لأخذِهِ
              بِمَا وهبتَ.. بما نهبتَ
              بِمَا نسيتَ.. بِمَا لم أنسَ
              بِمَا نسيتُ..
              بِمَا مازال في نسياني يُذكِّرني بكَ
              بِمَا أعطيتك ولم تأبه
              بِمَا أعطيتني فقتلتني
              بِمَا شئت به قتلي
              فمتَّ به!

              تعليق


              • #8
                تصبحون على خير أيها العرب

                أكبر مؤامرة تعرّض لها الوطن العربي، هي تجريد كلمة "مؤامرة" نفسها من معناها، حتى غدت لا تستدعي الحذر، ولا التنبه لِمَا يُحاك ضدّنا، بقدر ما تثير الإحساس بالاستخفاف والتهكم ممن يصيح بكل صوته "يا ناس.. إنها مؤامرة!".
                لفرط ما استنجد بها حكّامنا كلّما هُدِّدت كراسيهم، واجدين فيها الذريعة المثلى للفتك بكل من يعارضهم، ولفرط ما رددناها على مدى نصف قرن حقاً وباطلاً، ولفرط ما علّقنا على مشجبها عجزنا وتخلّفنا وتناحرنا، ولفرط ما تآمرنا على أنفسنا وتآمرنا مع أعدائنا على بعضنا بعضاً، ذهبنا إلى فخّ المؤامرة الكبرى، ووقعنا في قعرها بملء وعينا.
                كقصة ذلك الرجل الذي كان يتسلّى بإرعاب الناس، مدعياً نزول الذئب إلى القرية، فلما جاء الذئب حقاً ورآه بأُمِّ عينه على وشك الانقضاض عليه، صاح بالناس أن ينقذوه من الذئب، لكن لا أحد صدّقه ولا جاء لنجدته، وقضى الرجل فريسة أكاذيبه.
                ها هو ذا الذئب يُطبق فكيه علينا، ولن يوجد من يصدّقنا إن صحنا في كل المنابر الدولية، أننا ضحيّة مؤامرة شاملة كاملة لم يعرف العالم أكبر منها ولا أكثر خُبثاً في استراتيجيتها المتقنة ذات الذرائع الخيرية. فالمؤامرة المباركة حيكت لنا هذه المرّة على أيدي حُماة الديمقراطية ورُعاتها. الثوب الكفن المفصّل على قياس تهوّرنا وسذاجتنا وتذاكينا تمّ تصميمه برؤية إسرائيلية على يد مصمم التاريخ "العزيز هنري"، أثناء سُباتنا التاريخي.
                لكن.. "لا يُلام الذئب في عدوانه/ إن يك الراعي عدوّ الغنم". هل نلوم أعداءنا وقد سلّمنا راعينا إلى الرعاة، قطعاناً بشرية جاهزة للذبح قرباناً للديمقراطية؟
                في كلّ بلاد "رعاة الديمقراطية" الإنسان أهم حتى من الديمقراطية، لأنه الغاية منها والغاية من كل شيء. والمواطن أهم من الوطن، حتى إنَّ اختطاف مواطن واحد أو قتله على يد العدو، يغدو قضية وطنية يتجند لها الوطن بأكمله، وتتغير بمقتضاها سياسات خارجية. لكن، عندما يتعلّق الأمر بنا، يجوز لهؤلاء المبشِّرين بالحرية أنفسهم، نحر مئة ألف عراقي لنشر فضائل الديمقراطية، وتوظيف كل تكنولوجيا التعذيب لإدخالها في عقولنا.
                عمر أبو ريشة، الذي قال ذلك البيت، الموجع في حقيقته، أدرك قبل نصف قرن أن الذئب لا يأتي إلاّ بتواطؤ من الراعي، وأن قَدَر الوطن العربي إيقاظ شهية الذئاب الذين يتكاثرون عند أبوابه ويتكالبون عليه كلما ازداد انقساماً. اليوم حللنا على الأقل مشكلة الأبواب. ما عاد من أبواب لنا. غدوا هم بوّاباتنا وحدودنا، أرضنا وجوّنا وبحرنا.. وطناً وطناً يستفردون بنا، ينهبون خيراتنا، يسرقون آثارنا، ينسفون منشآتنا، يغتالون علماءنا، يُشعلون الفتنة بيننا، يصطادون أرواح صحافيينا. ويشترون ذمم أقلامنا.. وأصواتنا.
                نحن في أزهى عصور الديمقراطية. في إمكاننا مواصلة الشخير حتى المؤامرة المقبلة.. المقبلة حتماً. فالذئب يصول ويجول ويأكل منّا من يشاء. ما عاد السؤال من جاء بالذئب؟ بل كيف مكّناه منّا إلى هذا الحد؟
                الجواب عثرت عليه في حكمة قديمة: "يأكلك الذئب إن كنت مستيقظاً وسلاحك ليس في يدك. ويأكلك الذئب إن كنت نائماً ونارك مطفأة".
                رعى الله لنا نور التلفزيون. فقد أطفأنا كلّ ما عداه.
                تصبحون على خير أيها العرب!




                ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ

                شكرا، أيها الشاعر الجميل
                استفرَدَ الإسرائيليون بالشعب الفلسطيني، أثناء انشغالنا بمقاطعة الزبد الدانماركي، ومتابعة الفجائع العراقية. واصلوا مهمّة التنكيل به، والإجهاز عليه تجويعاً وإبادة وحصاراً. "الجدار الواقي" يُطوِّق الفلسطينيين من كلِّ صوب. بعد ثلاثين سنة من تاريخ تلك القصيدة، التي هزّتنا جميعاً، حتى الشعر تخلَّى عن الفلسطينيين وخانهم.. صار في إمكان شارون أن ينسب إلى نفسه قول سميح القاسم، ويصيح حتى بعد موته "إنّا هنا على صدوركم باقون كالجدار".
                صُور العراقيين شَطبَت من ذاكرتنا صور الضحايا الفلسطينيين، حتى رأينا صور الإذلال تلك التي وزّعتها إسرائيل على شاشات العالم يوم مُداهمتها سجن أريحا. الرجولة العربيّة الْمُهَانَة الْمُستَبَاحَة كأرضنا، كثرواتنا، لم تُحرِّك فينا شيئاً، وهي عاريـة تمرُّ معصوبة العينين في سروال داخلي، ما كان مُهيّأً لتتفرَّج عليه كاميرات العالم.. "مَن يهن يسهل الهوان عليه". لم نتظاهر، لم نحتج، لم نبكِ، لم نَعْجَب حتّى. فقد سبق أن شاهدنا أحد رموز العروبة والرجولة يغسل ثيابه الداخليّة. بعضنا في شماتة في غير محلّها خصص للصورة - الحدث، صفحته الأُولى بكاملها. في الواقع، ما كان صدّام يغسل سوى الثياب الداخلية لشرفنا.
                ثمَّة نيَّة مبيَّتة لتجريدنا من كرامتنا، بإهانة المقاتلين من رجالنا، في ما هو الأغلى على الرجل العربيّ: رجولته، وتعهير نسائنا في قنوات موسيقيّة مشبوهة النوايا، تمّ إنشاؤها لأغراض سياسيّة، قصد خصي الرجل العربيّ مرتين، والإجهاز على أجيال عربيّة بأكملها.
                تأخّرت في الكتابة عن إهانة إسرائيل أَسرى سجن أريحا، لأنّ دموعي يومها أعفتني من واجب الكتابة، ولأنني ما وجدتُ في الصحافة العربيّة ما يُضاهي وجعي من صَدَىً لتلك الْمَذَلَّـة، حتى ظننتني وحدي مَـن رآها.
                مؤخِّــراً، وقعت على مقالٍ ردَّ الاعتبار لكرامتي، وتكلَّم بما تمنيت أنّ أقرأة. ما كان المقال لعربيٍّ، بل لشاعر إسرائيلي نشره في صحيفة "هاآرتس". الْمَقَال جميل وطويل نشرته جريدة "أخبار الأدب" المصريّة، مُرفَقَاً بصورة لهؤلاء الرجال الجميلين حقاً في عُريهم، وتحته مقال الشاعر "بني تسيبار" الذي عنوانه "الفلسطينيون شعب جميل، حاولت إسرائيل تعرية الرجال فأظهرت شيخوختها وبؤسها". تمنّيت لو نقلتُه كلَّه لكم.. ولكنني مُجبرة على الاختصار.
                "... أعتقد أنّ جيش الدِّفاع الإسرائيلي، بشكل عام، فَقَدَ حياءه. ولأجل إظهار هذا النصر العظيم، الذي لم يكن نصراً أبداً، إنّما مُجرّد عرض، حَـاوَل أن يعرض علينا النصر عن طريق إذلال النّاس وإجبارهم على التعرِّي عَلَنَــاً، أي حاول جيش الدِّفاع الإسرائيلي إجبار الفلسطينيين، الذين كانوا هناك، على أن يفقدوا حياءهم هم كذلك معه (...) على النقيض من الصـور التي تنتمي إلى الحرب العالميّة الثانية، التي صوِّر فيها اليهود عُــراة، يسيرون إلى موتهم، عاجزين تماماً. فالفلسطينيون العُرَاة الذين خرجوا من سجن أريحا، بَدوا وكأنّهم لم يفقدوا ذَرَّة من احترامهم الإنسانيّ، وساروا مُنتصبي القامة، معتزين بأنفسهم، كأنّما يقولون لكلِّ مَن يتلصصون عليهم: جيشكم وشبابكم كله (... لاشيء).
                في صورة تكرّرت أكثر من مرَّة على الشاشة، بَدَا ظهر رجل فلسطيني مُقيَّد عصبُوا عينيه بخرقة بيضاء.. يقف في سرواله الأزرق الداخلي، مُستنِدَاً إلى سيارة عسكرية إسرائيلية. ليس لديَّ أيُّ مشكلة لأنّ أقول عَلَنَاً إنّـه بَـدَا كالحِصَان، كما يقولون اليوم، وإنّه كان في إمكانه العمل كعارض أزيــاء في شركة لـ"السراويل الداخلية". كذلك لم يكن ينقص الفلسطينيين، الواقفين في الشمس، أيُّ شيء. ولولا هذا الوضع الْغَبِـيّ، لأمكن القول إنهم يقفون هناك في امتحان على خَشَبَة مسرح (...). علـيَّ أن أشير إلى أنِّـي لا أملك جسداً رياضياً. إذ أستحي من كشف جسدي عَلَنَاً. لذا لم أستحم لسنوات في حمّام سباحة أو في البحــر (...). ما أُريد قولــــه، إنَّ مَن انتصروا في الواقع في هذه المعركة الْغَبِيَّــة والْمَنْقُولـــة إعلامياً، كانوا هم الفلسطينيين. إذ بَــدَا مظهرهُم أجْمَــل كثيــراً، ومُثيــراً للاهتمام، من مظهر جيش الدِّفـاع الإسرائيلي. هذا هو الأمر: "الآن بلدوزرات ثقيلة، قبيحة وغير إنسانيَّــة، هي ما تُجسِّد صورة الجيش الإسرائيلي، وليس البَشَـر أبَــداً.
                أمّـا الفلسطينيون فهم يُبْرِزون صِبَاهُـم، رجُولَتَهُــم، أيّ كلَّ ما تنازلَت عنه إسرائيل وشَاخَــت. أَخَذَت في الخَجَل من نفسها، وفي تغطية جَسَدها بالْمُدَرَّعَــات والسيّارات التي لا يُمكن أبـداً رؤيــة الإنسان الذي يُديرها. أعتقد أنّه لا يُمكِن هزيمة الشعوب الجميلــة. ولقد أثبت عرض العري الفلسطينيّ في أريحــا، من دون أدنَــى شك، أنّ الفلسطينيين هُـم شعب جميل..".
                أيسمح لي السَّـادة حُـمَـاة العُروبَــة، بعد هذا، أن أقـــول لبني تسيبار: "شُكْـــراً أَيُّـهـا الشَّـاعر الجميــل"؟ وليتعلَّمُــوا منـه فضيلـة النّزاهَــة.

                ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ

                فـتـى الــحــزن الـمــدلــل


                .


                .


                بدءاً، أجبتُ للمرّة الخامسة أو السادسة، معتذرة للذين اتصلوا بي ملحّين على مشاركتي في ملفٍّ تكريميٍّ عن محمود درويش: "لا شيء لديّ أقوله عنه". أذكر قول جان كوكتو، وهو يصوّر مُسبقاً موته. قال ونعشه يمر بين أصدقائه: "لا تبكوا هكذا.. تظاهروا فقط بالبكاء.. فالشعراء لا يموتون إنهم يتظاهرون بالموت فقط!". طبعاً ثمّة شعراء توغلوا فينا، ويحلو لهم التظاهر أحياناً بالحياة، كي يختبروا حبنا لهم.


                كما توقعت، رحنا نُزايد على بعضنا بعضاً في حُب محمود درويش، وتكريمه بمناسبة "حياته". شخصياً، لا أدري كيف أقول له إنني أحبّه، ربما لأنني أحببت بعضه.


                كي تقارب محمود درويش تحتاج إلى الكمّ إياه من الحزن الشاهق والموهبة الخارقة والاستخفاف الجميل. إضافة إلى كوني لا أملك مؤهّلات اللؤم الذكي، أو الذكاء اللئيم الصاعق، الذي يتوهج به فتى الحزن المدلل، منذ التقيته أوّل مرة في بداية السبعينات في الجزائر، على أيام "سجّل أنا عربي" وحتى آخر لقاء لنا منذ سنة في فرانكفورت، دوماً كنا "عابرون في زمان عابر"، إلى أن أقمنا مكرهين قبل ثلاث سنوات في كتاب منمّق مثير، جَمَعَنا بين دفتيه مع فقيدة الشعر الفلسطيني فدوى طوقان، تحت عنوان تحريضي تجاري.. ناري. "إسرائيليات بأقلام عربية".


                بدءاً حزنت، ثم سعدت لوجود ذلك الكتاب ضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في معرض بيروت الدولي. كانت الصفقة مربحة. صاحبته كسبت بتشهيرها، ما كانت تسعى إليه من شهرة، وأنا فزت منه بإشاعة موثقة وملفّقة في كتاب أتقاسمه مع رمزين للنضال الفلسطيني والعربي.


                جميل أن تقتسم مع محمود درويش إشاعة، حتى وإن كانت إشاعة تخوين، خاصة أنني أقتسم معه بعض أحرف اسمه عندما يهجِّيها بذلك الكم من الألم:


                "ميم/ المتيّم والميتَّمُ والمتمّمُ ما مضى


                حاء/ الحديقة والحبيبة، حيرتان وحسرتان


                ميم/ المغامر والـمعدُّ المستعدُّ لموته


                الموعود منفياً، مريض المشتهى".


                لا أدري إن كان محمود درويش مغامراً حقاً. كل مجازفاته كانت مدروسة، وخسائره ظلت محدودة دوماً بفضل الكتابة.


                لكنه على الرغم من ذلك، كان أقلنا جُبناً وأكثرنا نزفاً، وهو يجذف من دون وجهة محددة. فقد عاش مهدداً بالماء.. ومهدداً باليابسة، لا يدري، أتكمن فاجعته في الطريق.. أم في الوصول؟ على مدى نصف قرن جذف محمود درويش بيد واحدة مجذافها قلم. لذا أحبّه نزار قباني واعترف لي مرة بأنه لا يحتفظ في مكتبته سوى بدواوينه من بين الشعراء المعاصرين. حتماً كانت ناره تحتاج إلى وقود للكلمات. فعندما لا يضرم فيك النار، يوفر لك محمود درويش حطب الأسئلة.. أو بنزين الألم.


                هو "العاشق سيئ الحظ"، سيورّطك في سوء حظه الذي ليس سوى سوء حظك العربي. وعليك أن تجيب من دون الاستعانة بصديق.. بل بمؤرخ، "لماذا تركت الحصان وحيداً؟" ربما تكتشف آنذاك أن الحصان هو الذي تخلى عنك.. لأن "الحصان يعرف راكبه" حسب المثل العربي!


                الشاعر الذي "يرى ما يريد" يجعلك تتساءل: "وماذا لو أنك أردت ما يرى؟"، وماذا لو كان "سرير غريبته" هو مخدعك وسرير حبيبتك؟ كيف تسنى له التحرش بها في مخدع الكلمات وهي لك؟


                لا يحتاج محمود درويش إلى أن يقول شعراً لتشرئب شقائق النعمان برأسها، في إمكانه أن يفعل ذلك بمجرد حضوره اللامبالي وسط الحقول. اللامبالاة حالة تحرُّش عاطفي، أكثر خبثاً من أن تُعلن عن نفسها.


                هو يدّعي أنه يريد "***اً أقل"، ونحن نعرف أننا ننتظر منه خسائر أكثر فداحة؟ وحنيناً مدمّراً كإعصار. ننتظر مزيداً من البكاء على كتف قصائده.




                __________________


                معسكرات الاعتقال العاطفي
                .
                .



                من أجمل أقوال الإمام عليّ (كرّم اللّه وجهه) قوله: "أحِبَّ من شئت فأنت فاقده". يُذكِّرني بقول آخر له، لكلِّ مُقبل إدبار، وكلُّ مُدبر كأن لم يكن". لكأنّ علينا أن نعيش السعادة كلحظة مهدَّدة، ونتهيّأ مع كلّ امتلاك لحتميّة الفقدان.


                وكما يقوم نزار قباني بـ"تمارين يوميّة في الحبّ"، ربما علينا القيام يومياً بالتمرُّن على فاجعة فراق أقرب الناس إلينا، قصد الحفاظ على لياقتنا العشقيّة، وتقوية عضلة القلب بالانقطاع بين حين وآخر عن الذين نحبّهم، حدّ استعبادهم لنا.


                فراق الْمُحبِّين، وما يليه من آلام النهايات الحتميّة، حسب منطق "الأطلال" الكلثوميّة، علينا الاستعداد له منذ فخّ النظرة الأُولى. كان أجمل، لو استطعنا الاحتفاظ بجَمَالية البدايات، لو أن الحبّ لم يمضِ بنا صوب خلافات وشجارات، واكتشافات تُشوِّه الحلم الأوّل، وتجعل الحب الكبير يموت صغيراً.


                على الرغم من هذا، لا أُوافق محمود درويش حين يقول: "لا أحبُّ من الحبِّ سوى البدايات". فليست البدايات هي التي تصنع الحب. إنّما ذلك الذهاب والإياب العشقيّ، ذلك الكوكتيل العجيب من العواطف الْمُتداخلة المتزاحمة المتناقضة، مدّاً وجزراً، صدّاً ووصلاً، حبّاً وكرهاً، هي التي تصنع أسطورة الحبّ، وتُحبِّب للمحبِّين عذابه وتقلّباته.


                فـ"من ده وده.. الحبّ كِدَه"، ولا مجال لقطف وروده من دون أن تُدمي يدك. بل ثمَّة من "علشان الشوك اللّي في ال*** يحبّ ال***"، وهو نفسه مَن غنّى "مضناك جفاه مرقده وبكاه ورُحّم عُوّده"، وكان عبدالوهاب يتربّع على عرش العذاب العشقي، ويستمتع به حدّ تفضيله خلوة مع العذاب على خلوة مع الحبيب: "أنا والعذاب وهواك عايشين لبعضينا". حتى جاء مَن يُزايد عليه في مازوشيته، مُعلناً من غرفة العناية الفائقة للعشّاق "عِش أنت إني متُّ بعدك".


                كان الموت السريري لفريد الأطرش متوقعاً لدى مُحبِّي نواحه العاطفيّ مذ أعلن في أغنيته مُنتحبة الآهــات، أنّ "الحب من غير أمل أسمى معاني الحياة"، فأودى بجيل بأكمله، جاعلاً من الموت حبّاً وغبناً.. أجمل أنواع الميتات!


                وهي طريقة شاذة في الحبّ، لا أتباع لها إلاّ في العالَم العربي، حيث حزب السعادة محظور ولا ينشط إلاّ كتنظيم سرِّي. فبسبب تشوّهات عاطفيّة وجينيّة يطول شرحها، عندما لا يجد الإنسان العربيّ حاكماً يتكفّل بتنغيص حياته، وخنق أنفاسه ورميه في غياهب السجون، يتولّى بنفسه أمر البحث عن حبيب، تتوافر فيه كلُّ مواصفات الطُّغاة والجبابرة، وعندما يعثر على ديكتاتور لا يرحم، يسلمه روحه كي يفتك بها حبّاً، بعد اقتياده إلى معسكرات الاعتقال العاطفيّ، واختبار كلِّ عدَّة التعذيب العشقيّ على قلبه الأعزل المستسلم لقدره العشقي استسلام العراقيّ لأهوال محتلّه.


                وبسبب هذا الواقع الذي انعكس على نمط طربنا المبارك لطُغاة الحبّ، والمطالب بفتح مزيد من سجون "أبو غريب" العشقيّة، يصعب على أيِّ منظمة إنسانية إحصاء الجرائم العاطفيّة في الأغاني العربيّة، التي كثيراً ما يُضاف إليها هذه الأيام هتك الْمُغنّي ذوق المستمعين، وثقب مسامعهم بصراخه وزعيقه.


                وفي حمّى تكاثر الجمعيات التي تظهر كل يوم باسم ضحايا الإرهاب، وضحايا الفيضانات، وضحايا المباني المهددة بالانهيار، اقترح أحد القرّاء الجزائريين تشكيل "جمعية ضحايا الحب من طرف واحد". ولو عاش الموسيقار فريد الأطرش لكان رئيساً شرفياً لها، لولا أنه كان ضحية نموذجية من ضحاياها!


                وخطر لي أن أُزايد على اقتراح هذا القارئ، بأن يكون لهذه الجمعيّة فرع في كل دولة عربيّة، وألاّ يقتصر الانخراط فيها على العشّاق وحدهم، بل يشمل أيضاً المواطنين العرب، الذين يعانون من أوطان لاتبادلهم الحب، ولا يعنيها أن تسحق الحاجة هاماتهم، أو تتقاذف المنافي أقدارهم.


                قَدَرُ الإنسان العربيّ أن يعيش أسيراً، مُستبَاح القلب، مُنتَهك الأمنيات، يتحكّم طاغيتان في قدره، هارباً من هذا إلى ذاك، هو فقط يعتقد أن سوط الحبّ أرحم، مادام لا أحد يلحظ أثار جلداته على جسده!




                __________________

                تأملات متأخرة في الحب
                .
                .
                سأظلُّ أطالب بإغلاق معسكرات الاعتقال العاطفـيِّ، التي يقبع في زنزانتها عشّاق سُذّج، تصوّروا الحياة العاطفيّة بثوابت أزليّة، وذهبوا ضحيّة هَوَسِهِم بعبارة "إلى الأبــــد"، معتقدين أنّ كلَّ حُبٍّ هو الْحُبُّ الكبير والأخير، فوقعوا في براثن حبٍّ مُسيَّج بالغيرة وأسلاك الشكوك الشائكة، ومُفخّخ بأجهزة الإنذار ونقاط التفتيش، غير مُدركين أنّ الحُبّ، على الرغم من كونه امتهاناً للعبوديّــة، هو تمرين يوميّ على الحرّية، أي على قدرتنا على الاستغناء عن الآخر، حتى لو اقتضى الأمر بقاءنا أحياناً عاطلين عن الحبّ.
                نزار قبّاني الذي قال في الحب الشيء وعكسه، لفرط ما عاش تطرّف الحبّ وتقلّباته، كتب يقول: "أريد أنْ أظلّ دائماً نحلة تلحس العسل عن أصابع قدميك، حتى لا أبقى عاطلاً عن العمل!".
                ثمَّة عشّاق لا أمل في إنقاذهم من العبوديّة. إنهم يصرُّون على العمل خَدَمَاً لدى مولاهم الحبّ، على الرغم من كونه طاعناً في التنكيل بِخَدَمِهِ!

                هو الْحُــبّ..
                وماركيز ينصحك: "لا تمت من دون أن تُجرِّب جَمَال حمل عبئه".
                تضحك، هو لا يدري أنّ حمولتك تلك، قصمت ظهر أيامك· في البدء، يحملك الحبُّ لفرط خفّتك، ولا أحد آنذاك يُنبِّهك بأن عليك أن تحمله بعد ذلك بقيّة عمرك.. في البدء، أنت فراشة.. كائن من غبار وطيش، تحملك بهجتك، ثمّ تنتهي دابّة تنوء بحمل خيباتها.
                يا حمّال الأسيّة "خُذ من الحب ما تشاء، وخذ بقدره من عذاب"، نصيحة من "عتّال عاطفيّ" أقعدته الذكريات!
                ***
                * الفرح ثرثار. أمّا الحزن فلا تستطيع أن تقيم معه حواراً.
                إنه منغلق على نفسه كمحار.
                بلى.. في إمكانك إغاظة الحزن بالفرح.
                تكلّم ولو مع ورقة.
                ***
                * كلّما رأيت من حولي نساءً في كامل انتظارهنّ، يشكون البطالة العاطفيّة، ورجالاً أعياهم الترقُّب لبرق ينذر بصاعقة عشقيّة، وقصّة حب "أبديّة"، حضرني قول جون كيندي: "لا تسأل ماذا يمكن لوطنك أن يفعل لك، بل ماذا عليك أن تفعل من أجله".
                بالمنطق نفسه، على العاطلين عن الحبّ أن يسألوا ماذا عليهم أن يفعلوا من أجل الفوز به. فلا يمكن طلب الحب بالتكلفة الأقل. الحب إغداق، إنه يحتاج إلى سخاء عاطفيٍّ يتجاوز قدرة الناس العاديين على الإنفاق. لذا، الحبُّ فضّاح لِمَن دونه، لأنّه يُعرِّي البخلاء، حتى الذين يعتقدون أنهم أعطوا.. لمجرّد أنهم أنفقوا عليه!
                ***
                *غادِر بيتك كل صباح، وكأنك على موعد مع الحب.
                تهيأ له بما أُوتيت من أناقة· يحلو للحب أن يُباغتك في اللحظة التي تتوقّعها الأقل:
                "وجدتها
                في وقت لم أُنادِها فيه
                فوق محطّة لم أنتظرها عليها
                في لحظة لم أتهيأ لقدومها
                في مكان لم أبحث فيه عنها
                في مساء لم أُعطِّره لاستقبالها
                في بقعة أرض لم تكن مهيأة لها".

                __________________



                تحـــدّي




                لأني رفضت الدروب القصيرة



                وأعلنت رغم الجميع التحدي



                وأني سأمضي



                لأعماق بحر بدون قرار



                لعلني يوماً



                أحطم عاجية الشهريار



                أحرر من قبضتيه الجواري



                لعلني يا موطني رغم قهرك



                أعود بلؤلؤة من بحاري



                لأني صرخت أريد الحياة



                لأني وقفت أمام الغزاة



                قراصنة البحر ثارت عليّ



                تحاصر كل سبيل إليّ



                تمزّق كل شراع لديّ



                لأني جهلت دروب النفاق



                وأهملت عند ابتداء الطريق



                سبيل التجارة باسم القيم



                وكنت أناشيد أعلى القمم



                يحاصرني كل يوم قزم



                لأغدو شراعاً بدون هوية



                لأن الكواليس تغتال صوتي



                وأني أنادي بدون صدى



                لأني ..



                ولكني رغم كل اغترابي



                سأبقى على مهرة من عذابي



                وأزرع في العمر ضوء الشباب



                وعند بداية كل احتراق



                ...أموت أنا ويظل الحريق


                __________________



                بلا قلب.. بلا عمر




                وأحيي خلف ذكرانا



                أنا أجري



                ولا أدري



                أنّ الحبّ يا حبّي



                بلا قلب.. بل عمر



                أحنّ إليك



                في الإيمان في الكفر



                أحنّ إليك



                من ذعري



                أحنّ إليك



                لأنك مثلي تحيي



                !..بلا قلب.. بلا عمر


                __________________


                الرســالة الثانيــة



                لا حلم يا حبيب



                لا شمس مُذ رحلت لا سلام



                لا موعدا يزهو به الغمام



                لا قبلة يسرقهاالحمام



                فكيف يا حبيب



                من بعد ما بذّرت في قلوبنا الهناء



                بذّرتنا هباء



                سرقت من عيوننا الضياء



                وأنت في حياتنا أساور الربيع



                لكننا



                من يوم أن رحلت دون ماء



                نخاف يا ربيع



                ...نخاف إن نسيت أن نضيع


                __________________



                حتــى أنت




                وتبقى تناشدني كي أبوح



                لماذا بعينيّ يغفو الوجود



                وذاك الشرود



                تراه ارتعاشة حبٍّ كبير ؟



                وينتحر اللحن في أضلعي



                وأبكي



                وتبكي القوافي معي



                وأبكي أمامك دون دموع



                أفتّش عن فارس ليس يأتي



                ويعصف بي الصمت في شفتيك



                وذاك البرود



                يمزّق أعصابي المنهكة



                فيا أسفي يا صديقي الأخير



                ظللت بعيداً عن المعركة



                ولم تغفُ يوماً بجفن الضياع



                ولم تغتسل مرّة يا صديقي



                بطوفان نوح



                فماذا عساني أبوح ؟


                __________________


                مذكــرّات




                المذكرة الأولى



                قال لي يوماً صديق


                لقد تكأدت أخيرا دون ريبة


                أن ما من شاعر يُولد إلا


                يوم مأساة غرام ... بعد خيبة


                وتوقفت أمام القول حيرى


                أصحيحا صار عمري اليوم عام ؟




                المذكرة الثانية



                اليوم في حقيبتي مجموعة البريد


                رسائل أزهو بها


                بلونها ، بخطها ، بنوعها الفريد


                فواحد بنيّة المراسلة


                وواحد يهوى هنا المغازلة


                وثالث يحتال كي يراني


                لأنه من همستي أصبح لا ينام ...


                المذكرة الثالثة



                وساءلني .. القمر الأحمر


                تراه يعود


                ***ّدت الطير عند الغروب


                بأن هزار الربوع اختفى



                المذكرة الرابعة



                الريح والثلوج والأمطار


                تعرّت الأشجار


                واختفت الطيور والأطفال


                لكنني سآتي حبيبي


                فحبـــك معطفي الوحيد ..



                المذكرة الخامسة



                قُتِلت مرّتين


                هناك في المغارة


                لأنني رفضت أن أموت كلّ يوم


                في عش عنكبوت


                وشئتَ أن أموت



                المذكرة السادسة



                الكل أقسم أن ينام


                يا أنت يا مدن المدافن قد سئمت من النيام


                فأنا أجوب بحيرتي كالطيف حي الميّتين


                وإلى متى


                سأظل أبحث في انتظار


                وجه يطلّ من النيام


                __________________



                متى يحتفل العرب بعيد الكسل؟
                .



                .



                ما كنتُ سمعت بعيد الكسالى قبل أن أقرأ في شوارع "كان" ملصقات تعلن عن برنامج احتفالي بيوم الكسل.



                لا أدري إن كان متعهِّد هذه الأنشطة أخذ بعين الاعتبار أنّ المعنيين بالدعوة أكثر كسلاً من أن يحضروا.


                كيف تمّ اختيار ذلك التاريخ؟ لا أدري. ربما لكونه أوّل نهاية الموسم الصيفي. الكسالى عادة أُناس من فصيلة الزواحف التي تقضي ساعات من دون حراك، تتدفأ في الشمس، وهي الفصيلة نفسها التي ينحدر منها المبدعون، الذين يمارسون كسلهم على اختلاف الفصول والنشرات الجوية بذريعة الحرّ حيناً، والبرد أحياناً أُخرى.


                استناداً إلى قول مورياك: "الرغبة في ألاّ تقوم بشيء، هي الدليل القاطع على الموهبة الأدبية"، شعرت بأنني معنية بهذا العيد، وقررت أن أحتفل به بمزيد من التكاسُل. فأنا امرأة كسولة بطبعي، أو كما صحّحني مرة الدكتور غازي القصيبي: امرأة "كسول". وكان، ذَكَره اللّه بالخير، يحلو له تصيّد أخطائي. وبحرص الكبار وتواضعهم، يهاتفني، يوم كان سفيراً للمملكة السعودية، لينبهني إلى خطأ لغوي وقعت فيه، شارحاً لي قاعدته.


                وحدث قبل سنوات عدّة، أن أجرت معي مجلة "الوسط" اللندنية مقابلة طويلة، كان عنوانها "أنا امرأة كسولة لا ألهث خلف شيء فتأتيني الأشياء لاهثة". خِلتهم وفّقوا في عنوان جميل، حتى هاتفني الدكتور غازي القصيبي مصححاً: فـ"فعول" لامؤنث له، ولذا نقول امرأة كسول.. وقنوع.. وجحود.. وعنود. وعاندته بما أُوتيت من تطرُّف جزائري. حجّتي أن مُصحِّح المجلة نفسه، ما كان ليضع خطأً كهذا، عنواناً على غلافها.


                كان سجالاً ظريفاً تلقّفته الصحافة السعودية، وانحاز فيه البعض إلـيَّ، برأفة على فراشة، يريد بلدوزر لغوي سحقها، وأنصفني الأستاذ الجليل عبدالله، عبدالجبّار الذي خرج من كهولة صمته ليُعلن أنّ كلا القولين صحيح لغوياً، ويحسم بذلك المباراة بتعادل سلبيٍّ.


                كنّا نهاية 1998، فاختار الدكتور القصيبي أن ينهي السجال، بما عُرف عنه من روح الدعابة والظُّرف، فبعث لي ببطاقة معايدة كتب عليها "أيتها الكسولة/ والكسول/ والمكسال/ والكسلانة/ متى تنجزين الرواية الجديدة؟".


                ما كان سؤالاً بريئاً، وهو مَن قال: "لا أكثر خبثاً من البراءة"، بل سؤال في سلَّة من الغمزات البريئة، إشارة إلى ما أُنجز من كتب أثناء تكاسلي. وكأنّ معركتنا لا تُحسم على صفحات الجرائد.. بل في المكتبات!


                مازلت لا أجد جواباً عن هذا السؤال، الذي يطرحه عليَّ القرّاء والأصدقاء، كلّما تكاسلت في إصدار رواية. ويكاد ينقضي العمر وأنا لا أعرف بعدُ إن كان "الكسل أبو الإبداع". كما يرى منصور الرحباني، أم أن لا سرّ للإبداع غير المثابرة والصرامة والنظام والالتزام بوقت للكتابة، كما كانت الحال بالنسبة إلى نجيب محفوظ ونزار قباني.


                أكتب لكم وقد فاتني عيد الكسالى.. قضيته أمام التلفزيون أتابع الفجائع العربية، وأعجب ألاّ يكون هذا العيد عيداً عربياً، وعندنا من احتياطيّ الكسل ما يفوق منسوب ثرواتنا الطبيعية. فكيف لم نفكر بعدُ في تصديره إلى شعوب مثل كوريا واليابان، اللذين لا يتمكّن أبناؤهما من النوم أكثر من خمس ساعات في اليوم، لفرط تفانيهم في العمل حدّ العبادة، بينما يملك الكسل كلّ المؤهلات ليُعتمد عندنا عيداً رسمياً لدى الملايين من العاطلين عن العمل، والملايين الأُخرى من الموظفين العموميين، الذين يقصدون مكاتبهم كلّ يوم للدردشة، واحتساء القهوة مع الزملاء؟


                أيتها الزواحف العربية التي تعيش منذ قرون تحت شمس الحضارة.. دون حراك: كلّ يوم عيدك، مادام الكسل إنجازاً يُحتفى به.




                __________________



                بلاد المطربين.. أوطاني
                .
                .



                وصلتُ إلى بيروت في بداية التسعينات، في توقيت وصول الشاب خالد إلى النجوميّة العالميّة. أُغنية واحدة قذفت به إلى المجد· كانت أغنية "دي دي واه" شاغلة الناس ليلاً ونهاراً. على موسيقاها تُقام الأعراس، وتُقدَّم عروض الأزياء، وعلى إيقاعها ترقص بيروت ليلاً، وتذهب إلى مشاغلها صباحاً.



                كنت قادمة لتوِّي من باريس، وفي حوزتي مخطوط "الجسد"، أربعمئة صفحة قضيت أربع سنوات في نحتها جملة جملة، محاوِلة ما استطعت تضمينها نصف قرن من التاريخ النضالي للجزائر، إنقاذاً لماضينا، ورغبة في تعريف العالم العربي إلى أمجادنا وأوجاعنا.لكنني ما كنت أُعلن عن هويتي إلاّ ويُجاملني أحدهم قائلاً: "آه.. أنتِ من بلاد الشاب خالد!"، واجداً في هذا الرجل الذي يضع قرطاً في أذنه، ويظهر في التلفزيون الفرنسي برفقة كلبه، ولا جواب له عن أي سؤال سوى الضحك الغبيّ، قرابة بمواجعي. وفوراً يصبح السؤال، ما معنى عِبَارة "دي دي واه"؟ وعندما أعترف بعدم فهمي أنا أيضاً معناها، يتحسَّر سائلي على قَدَر الجزائر، التي بسبب الاستعمار لا تفهم اللغة العربية!


                وبعد أن أتعبني الجواب عن "فزّورة" (دي دي واه)، وقضيت زمناً طويلاً أعتذر للأصدقاء والغرباء وسائقي التاكسي، وعامل محطة البنزين المصري، ومصففة شعري عن جهلي وأُميتي، قررت ألاّ أفصح عن هويتي الجزائرية، كي أرتاح.


                لم يحزنّي أن مطرباً بكلمتين، أو بالأحرى بأغنية من حرفين، حقق مجداً ومكاسب، لا يحققها أي كاتب عربي نذر عمره للكلمات، بقدر ما أحزنني أنني جئت المشرق في الزمن الخطأ.


                ففي الخمسينات، كان الجزائري يُنسبُ إلى بلد الأمير عبدالقادر، وفي الستينات إلى بلد أحمد بن بلّة وجميلة بوحيرد، وفي السبعينات إلى بلد هواري بومدين والمليون شهيد. اليوم يُنسب العربي إلى مطربيه، وإلى الْمُغنِّي الذي يمثله في "ستار أكاديمي". وهكذا، حتى وقت قريب، كنت أتلقّى المدح كجزائرية من قِبَل الذين أحبُّوا الفتاة التي مثلت الجزائر في "ستار أكاديمي"، وأُواسَى نيابة عنها. هذا عندما لا يخالني البعض مغربية، ويُبدي لي تعاطفه مع صوفيا.


                وقبل حرب إسرائيل الأخيرة على لبنان، كنت أتابع بقهر ذات مساء، تلك الرسائل الهابطة المحبطة التي تُبث على قنوات الغناء، عندما حضرني قول "ستالين" وهو ينادي، من خلال المذياع، الشعب الروسي للمقاومة، والنازيون على أبواب موسكو، صائحاً: "دافعوا عن وطن بوشكين وتولستوي". وقلت لنفسي مازحة، لو عاودت إسرائيل اليوم اجتياح لبنان أو غزو مصر، لَمَا وجدنا أمامنا من سبيل لتعبئة الشباب واستنفار مشاعرهم الوطنية، سوى بث نداءات ورسائل على الفضائيات الغنائية، أن دافعوا عن وطن هيفاء وهبي وإليسا ونانسي عجرم ومروى وروبي وأخواتهن. فلا أرى أسماء غير هذه لشحذ الهمم ولمّ الحشود.


                وليس واللّه في الأمر نكتة. فمنذ أربع سنوات خرج الأسير المصري محمود السواركة من المعتقلات الإسرائيلية، التي قضى فيها اثنتين وعشرين سنة، حتى استحق لقب أقدم أسير مصري، ولم يجد الرجل أحداً في انتظاره من "الجماهير" التي ناضل من أجلها، ولا استحق خبر إطلاق سراحه أكثر من مربّع في جريدة، بينما اضطر مسؤولو الأمن في مطار القاهرة إلى تهريب نجم "ستار أكاديمي" محمد عطيّة بعد وقوع جرحى جرّاء تَدَافُع مئات الشبّان والشابّات، الذين ظلُّوا يترددون على المطار مع كل موعد لوصول طائرة من بيروت.


                في أوطان كانت تُنسب إلى الأبطال، وغَدَت تُنسب إلى الصبيان، قرأنا أنّ محمد خلاوي، الطالب السابق في "ستار أكاديمي"، ظلَّ لأسابيع لا يمشي إلاّ محاطاً بخمسة حراس لا يفارقونه أبداً.. ربما أخذ الولد مأخذ الجد لقب "الزعيم" الذي أطلقه زملاؤه عليه!


                ولقد تعرّفت إلى الغالية المناضلة الكبيرة جميلة بوحيرد في رحلة بين الجزائر وفرنسا، وكانت تسافر على الدرجة الاقتصادية، مُحمَّلة بما تحمله أُمٌّ من مؤونة غذائية لابنها الوحيد، وشعرت بالخجل، لأن مثلها لا يسافر على الدرجة الأُولى، بينما يفاخر فرخ وُلد لتوّه على بلاتوهات "ستار أكاديمي"، بأنه لا يتنقّل إلاّ بطائرة حكوميّة خاصة، وُضِعَت تحت تصرّفه، لأنه رفع اسم بلده عالياً!


                ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه.. أواه.. ثمّ أواه.. مازال ثمَّة مَن يسألني عن معنى "دي دي واه"!


                __________________

                تعليق


                • #9
                  عزيزتي شريرة ما كل هذا جميل ما كتبت أعجبني كثيرا موضوع أحلام مستغانمي لأنني أعشقها أدبيا جزاك الله خيرا....ثم ما قصة كنيتك؟

                  تعليق

                  مواضيع تهمك

                  تقليص

                  المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 06-08-2025 الساعة 11:33 PM
                  المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 06-04-2025 الساعة 05:29 PM
                  المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 05-31-2025 الساعة 10:07 PM
                  المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 05-30-2025 الساعة 11:48 PM
                  المنتدى: التصنيع والانتاج نشرت بواسطة: HaMooooDi الوقت: 05-30-2025 الساعة 09:36 AM
                  يعمل...
                  X