رحلة في أغاني ( حضيري أبو عزيز )
جابر جعفر الخطاب
استوطنت أغاني المطرب الراحل ( حضيري أبو عزيز ) ذاكرة الإنسان العراقي وخاصة من عاصر تلك الأغنيات في مرحلة الخمسينات من القرن الماضي التي برز فيها هذا المطرب القدير بصوته الساحر وتموجاته اللحنية الباهرة فكان يسمى بلبل الريف رغم إن أغنياته كانت موضع الإعجاب من سكان المدن والأرياف على السواء إضافة إلى انتشارها في الإذاعات العربية والأجنبية وقد برزت موهبته في الغناء قبل تأسيس الإذاعة العراقية عام 1936 فكان غريدا في مواسم الأعياد والأعراس وعند دخول الكهرباء إلى العراق بواسطة شركة أجنبية دخل النور إلى المدن تدريجيا وانحسرت من الشوارع الفوانيس النفطية المعلقة والتي كان يقوم بإيقادها مساء كل يوم عامل مختص فوضعت شركة الكهرباء
المصابيح في الشوارع وعلى واجهات بعض البيوت فكان البعض يخافها
ويعتقد أن جنيا مختبئا فيها والبعض كان ينفخ عليها محاولا إطفاءها معتقدا أنها مثل الفوانيس وزالت هذه المخاوف بعد أن أدرك الجميع أن هذا القادم الجديد هو عصب الحياة وباب من أبواب الحضارة العصرية وتواصل انتشار الكهرباء في المدن العراقية قبل أن يصل إلى الريف
الذي ظل محروما من هذه النعمة المباركة التي أنارت العقول والقلوب بما يسرته من وسائل الثقافة والمعرفة وهنا برزت للمطرب ( حضيري ) أغنية تتحدث عن الكهرباء على لسان بنات المدن السعيدات بأنوارها ومباهيا سكان الريف المحرومين من هذه النعمة والتي مطلعها
إحنه بنات البلد .....والكهربا عدنه
يا ريفي لا تشتكي....ما توصل الحدنه
لقد صدحت الإذاعات العربية بألحان الفنان الراحل ( حضيري أبو عزيز ) فكانت حفلاته في لبنان وسورية وبلدان أخرى منطلقا إلى قلوب عشاقه الذين كانت مساحتهم تزداد مع كل لحن جميل متجدد فكانت أغنية ( احميّد
تتردد أصداؤها كل ليلة في الإذاعات العربية لما كانت تحمله من عاطفة مشبوبة وتنوعات لحنية مثيرة للشوق والشجن فكانت تتضمن مقاطع شعرية بين الفواصل اللحنية في ترابط فني جميل ومثير للطرب فهو يتفاعل مع اللحن والكلمة ويغني من أعماقه وكأنه يحكي قصة حزينة مؤثرة . كانت للمطرب حضيري حفلة غنائية أسبوعية تقدمها إذاعة بغداد صباح كل يوم جمعة حيث يبدأ حفلته بأبيات من الأبوذية والنايل مع
أغنيتين تكون احداهما جديدة أحيانا وعند بدء حفلته يتوقف الصخب في
المقاهي وينصت الجميع إلى صوته العذب وهو يتدفق بأمواج الشوق والحنين ويحلق الجميع معه في أجواء الطرب الأصيل والمتعة النفسية
السامية ولقد تحولت بعض أغانيه إلى أمثال شعبية متداولة تعطي الكثير من المعاني والمدلولات السياسية والاجتماعية مثل ( سلم علي ابطرف عينه اوحاجبه ) وهي دلالة على التكبر والزعل و( تعال او شوف يمجيد
او بطلنه امن احميد ) وكانت تعبر عن أصحاب المواقف السياسية المتقلبة
والتحول من حزب إلى آخر او من موقف سياسي إلى نقيضه .ومن أجمل
أغنياته التي ما زالت تترنم بها الأجيال وكأنها جديدة وتذاع للمرة الأولى أغنية ( عمي يبياع الورد ) التي أخذت أبعادا جمالية واسعة وعاشت في ذاكرة الناس أجيالاً متعاقبة في كلماتها وموسيقاها العذبة
وكان انتشارها علامة على الذوق الرفيع للمستمع الذي كان يعشق الفن الراقي ويميز بينه وبين أدعياء الفن والدخلاء عليه . إن عالم (حضيري أبو عزيز ) يتميز بطابعه الخاص الذي يشير إلى موهبة متكاملة وعمق حضاري استطاع أن يترجم أحاسيس المجتمع إلى لوحات ناطقة بالسحر والجمال نابضة بالرقة والأصالة فكان قمرا في سماء الفن تدور حوله أصوات عديدة على سبيل التقليد والإعجاب وظلت بعض هذه الأصوات رهينة جاذبية هذا القمر أو القطب الفني الكبير وقليل منها استطاع أن يتحرر من دائرة التقليد ويكون له شخصية مستقلة ولونا فنيا خاصا وهنالك بعض الأصوات التي لا تمارس التقليد والمحاكاة لهذا المطرب الكبير ولكنها تحمل بعض أوجه الشبه منه فكنا نصنفها ضمن منطقة نفوذ حضيري الفنية رغم تميزها عنه بطابعها الخاص ولونها المستقل مثل صوت المطرب مجيد الفراتي . إن أغنيات المطرب (حضيري أبو عزيز )
تتجاوز حدود الكلمات الجميلة والألحان المؤثرة إلى أعماق إنسانية ونفسية بعيدة الغور فهي جزء من أحاسيسه ومشاعره لأنه يمنحها من روحه شحنات عاطفية ملتهبة تلامس قلوب المستمعين فتدخلها بلا استئذان محدثة فيها تجاوبا صادقا يحلق بالمشاعر في أجواء المتعة والطرب والسعادة النفسية التي لا حدود لها وعندما نستمع إليه وهو يترنم بأغنيته الشهيرة ( وياك أروحن حبيبي ) فإن شلالا ً من العواطف
الرقيقة يتدفق من القلب محلقا معها متفاعلا مع كل نغمة من نغماتها العذبة فهي تأخذنا بعيدا في عوالم الطرب الأصيل والذوق الفني الرفيع ومهما تقادم الزمن فإن هذه الأغنية تتجدد قيمتها الفنية وتتعمق معانيها
فكأن الزمن يعطيها عمقا إنسانيا ووجدانيا حافلا بالأنس والزهو وتتميز أغاني الفنان حضيري بأنها جميلة ومؤثرة حتى عندما نستمع الى موسيقاها الخالية من الكلمات فإنها تشدنا إليها وتحملنا على استذكار تلك الكلمات بصورة عفوية لأنها سكنت وتوغلت في أعماق الوجدان ولقد تداخلت هذه الألحان الرائعة مع الأيام وأصبحت تاريخا لكل منا يحمل ذكريات العمر من الطفولة حتى خريف الحياة فكل أغنية قديمة تؤرخ لحدث معين في حياتنا العامة والخاصة وتعكس صورة الأحداث الجميلة والمحزنة التي عاصرناها في مسيرة العمر ويبقى الفنان والمطرب (حضيري أبو عزيز ) مدرسة متميزة في الغناء العراقي والعربي تتعزز مكانتها الفنية والتاريخية بمرور الزمن وتعاقب الأجيال .
جابر جعفر الخطاب
استوطنت أغاني المطرب الراحل ( حضيري أبو عزيز ) ذاكرة الإنسان العراقي وخاصة من عاصر تلك الأغنيات في مرحلة الخمسينات من القرن الماضي التي برز فيها هذا المطرب القدير بصوته الساحر وتموجاته اللحنية الباهرة فكان يسمى بلبل الريف رغم إن أغنياته كانت موضع الإعجاب من سكان المدن والأرياف على السواء إضافة إلى انتشارها في الإذاعات العربية والأجنبية وقد برزت موهبته في الغناء قبل تأسيس الإذاعة العراقية عام 1936 فكان غريدا في مواسم الأعياد والأعراس وعند دخول الكهرباء إلى العراق بواسطة شركة أجنبية دخل النور إلى المدن تدريجيا وانحسرت من الشوارع الفوانيس النفطية المعلقة والتي كان يقوم بإيقادها مساء كل يوم عامل مختص فوضعت شركة الكهرباء
المصابيح في الشوارع وعلى واجهات بعض البيوت فكان البعض يخافها
ويعتقد أن جنيا مختبئا فيها والبعض كان ينفخ عليها محاولا إطفاءها معتقدا أنها مثل الفوانيس وزالت هذه المخاوف بعد أن أدرك الجميع أن هذا القادم الجديد هو عصب الحياة وباب من أبواب الحضارة العصرية وتواصل انتشار الكهرباء في المدن العراقية قبل أن يصل إلى الريف
الذي ظل محروما من هذه النعمة المباركة التي أنارت العقول والقلوب بما يسرته من وسائل الثقافة والمعرفة وهنا برزت للمطرب ( حضيري ) أغنية تتحدث عن الكهرباء على لسان بنات المدن السعيدات بأنوارها ومباهيا سكان الريف المحرومين من هذه النعمة والتي مطلعها
إحنه بنات البلد .....والكهربا عدنه
يا ريفي لا تشتكي....ما توصل الحدنه
لقد صدحت الإذاعات العربية بألحان الفنان الراحل ( حضيري أبو عزيز ) فكانت حفلاته في لبنان وسورية وبلدان أخرى منطلقا إلى قلوب عشاقه الذين كانت مساحتهم تزداد مع كل لحن جميل متجدد فكانت أغنية ( احميّد
تتردد أصداؤها كل ليلة في الإذاعات العربية لما كانت تحمله من عاطفة مشبوبة وتنوعات لحنية مثيرة للشوق والشجن فكانت تتضمن مقاطع شعرية بين الفواصل اللحنية في ترابط فني جميل ومثير للطرب فهو يتفاعل مع اللحن والكلمة ويغني من أعماقه وكأنه يحكي قصة حزينة مؤثرة . كانت للمطرب حضيري حفلة غنائية أسبوعية تقدمها إذاعة بغداد صباح كل يوم جمعة حيث يبدأ حفلته بأبيات من الأبوذية والنايل مع
أغنيتين تكون احداهما جديدة أحيانا وعند بدء حفلته يتوقف الصخب في
المقاهي وينصت الجميع إلى صوته العذب وهو يتدفق بأمواج الشوق والحنين ويحلق الجميع معه في أجواء الطرب الأصيل والمتعة النفسية
السامية ولقد تحولت بعض أغانيه إلى أمثال شعبية متداولة تعطي الكثير من المعاني والمدلولات السياسية والاجتماعية مثل ( سلم علي ابطرف عينه اوحاجبه ) وهي دلالة على التكبر والزعل و( تعال او شوف يمجيد
او بطلنه امن احميد ) وكانت تعبر عن أصحاب المواقف السياسية المتقلبة
والتحول من حزب إلى آخر او من موقف سياسي إلى نقيضه .ومن أجمل
أغنياته التي ما زالت تترنم بها الأجيال وكأنها جديدة وتذاع للمرة الأولى أغنية ( عمي يبياع الورد ) التي أخذت أبعادا جمالية واسعة وعاشت في ذاكرة الناس أجيالاً متعاقبة في كلماتها وموسيقاها العذبة
وكان انتشارها علامة على الذوق الرفيع للمستمع الذي كان يعشق الفن الراقي ويميز بينه وبين أدعياء الفن والدخلاء عليه . إن عالم (حضيري أبو عزيز ) يتميز بطابعه الخاص الذي يشير إلى موهبة متكاملة وعمق حضاري استطاع أن يترجم أحاسيس المجتمع إلى لوحات ناطقة بالسحر والجمال نابضة بالرقة والأصالة فكان قمرا في سماء الفن تدور حوله أصوات عديدة على سبيل التقليد والإعجاب وظلت بعض هذه الأصوات رهينة جاذبية هذا القمر أو القطب الفني الكبير وقليل منها استطاع أن يتحرر من دائرة التقليد ويكون له شخصية مستقلة ولونا فنيا خاصا وهنالك بعض الأصوات التي لا تمارس التقليد والمحاكاة لهذا المطرب الكبير ولكنها تحمل بعض أوجه الشبه منه فكنا نصنفها ضمن منطقة نفوذ حضيري الفنية رغم تميزها عنه بطابعها الخاص ولونها المستقل مثل صوت المطرب مجيد الفراتي . إن أغنيات المطرب (حضيري أبو عزيز )
تتجاوز حدود الكلمات الجميلة والألحان المؤثرة إلى أعماق إنسانية ونفسية بعيدة الغور فهي جزء من أحاسيسه ومشاعره لأنه يمنحها من روحه شحنات عاطفية ملتهبة تلامس قلوب المستمعين فتدخلها بلا استئذان محدثة فيها تجاوبا صادقا يحلق بالمشاعر في أجواء المتعة والطرب والسعادة النفسية التي لا حدود لها وعندما نستمع إليه وهو يترنم بأغنيته الشهيرة ( وياك أروحن حبيبي ) فإن شلالا ً من العواطف
الرقيقة يتدفق من القلب محلقا معها متفاعلا مع كل نغمة من نغماتها العذبة فهي تأخذنا بعيدا في عوالم الطرب الأصيل والذوق الفني الرفيع ومهما تقادم الزمن فإن هذه الأغنية تتجدد قيمتها الفنية وتتعمق معانيها
فكأن الزمن يعطيها عمقا إنسانيا ووجدانيا حافلا بالأنس والزهو وتتميز أغاني الفنان حضيري بأنها جميلة ومؤثرة حتى عندما نستمع الى موسيقاها الخالية من الكلمات فإنها تشدنا إليها وتحملنا على استذكار تلك الكلمات بصورة عفوية لأنها سكنت وتوغلت في أعماق الوجدان ولقد تداخلت هذه الألحان الرائعة مع الأيام وأصبحت تاريخا لكل منا يحمل ذكريات العمر من الطفولة حتى خريف الحياة فكل أغنية قديمة تؤرخ لحدث معين في حياتنا العامة والخاصة وتعكس صورة الأحداث الجميلة والمحزنة التي عاصرناها في مسيرة العمر ويبقى الفنان والمطرب (حضيري أبو عزيز ) مدرسة متميزة في الغناء العراقي والعربي تتعزز مكانتها الفنية والتاريخية بمرور الزمن وتعاقب الأجيال .
تعليق