
لم يحكم الاسلام الاّ في فترات محدودة.. مرة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. واخرى في عهد امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام.. ثم ابنه الامام الحسن بن علي عليهما السلام.. وعندما يتطلع الشعب العراقي اليوم لحكم الاسلام.. الذي ظهر من خلال هذا الحرص العام على ضرورة جعل القرآن الكريم مصدر التشريع في الدستور العراقي القادم.. فلا بد لنا من التوقف عند تلك الفترات النادرة لتطبيق الاسلام لنتعرف منها على ملامح الحكم الاسلامي.. وكيف تم اقامة القرآن الكريم واجراء احكامه واستنطاقه من خلال رسول الله وآله الطاهرين عليهم السلام وهم القرآن الناطق.
ولعل من اثمن ما حفظه التاريخ لنا لاهتداء به في هذا المجال هي تلك الرسائل والكتب التي كان يوجهها امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام الى عمّاله في البلاد.. والتي تحتوي على كنوز عظيمة وتوجيهات عميقة تكفي اي امة متطلعة الى اقامة قيم الاسلام.. وبامكان الاسترشاد بها لتأسيس (فقة الحكومة).. لما تحويه من مباديء واحكام وتوجيهات لكافة فئات المجتمع.. وسيما لاولئك الذين يتصدون للشأن السياسي والاداري.
ومن هنا يمكن تقييم مبادرة سماحة آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي في شرح كتاب امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام لمالك الاشتر رضي الله عنه عندما ولاه مصر.. وهي مبادرة نرجو ان تتطور لتأسيس ما يمكن تسميته بفقه الحكومة الذي تحتاج اليه الساحة العراقية خاصة والاسلامية بشكل عام.. ونتمنى ان نرى المزيد على هذا الطريق سواء من سماحة السيد المدرسي حفظه الله او غيره من الفقهاء الاعلام حفظهم الله جميعاً.
ومن خلال التأمل في بعض نصوص تلك الكتب العلوية المباركة الى الولاة نرقب الكثير من المعالم الهامة.. فعلى سبيل المثال, فان عهد الامام امير المؤمنين عليه السلام الى مالك الاشتر رضي الله عنه كان موجهاً الى مصر.. ومصر لم تكن دولة شيعية.. بل كانت دولة سنية.. فهذا العهد العلوي والحرص الشديد على اجراء العدالة وحماية حقوق الناس جميعاً.. انما هو موجه لحماية السنة بالدرجة الاولى وعبر حاكم شيعي هو مالك الاشتر رضي الله عنه. وهذه قضية مهمة لمن يزايدون اليوم على الشيعة.. ويرفعون زوراً مظلومية السنة وما ينتظرهم اذا ما حكمت الاكثرية الشيعية!! ان حكومة اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام لا تفرق بين رعاياها.. لا بين الشيعي والسني فحسب.. بل ولا بينهما وبين اهل الكتاب في الدولة.. كما ذكر عليه السلام في كتابه الى عماله على الخراج , حيث اوصاهم عليه السلام باحترام حقوق الجميع: (ولا تمسّن مال احدٍ من الناس: مُصَلٍ ولا معاهدٍ..).. كما تعهد عليه السلام للرعية, وبدون ان يُطلب منه ذلك, باحترام حقوق الجميع.. دون تفريق (.. الا وان لكم عندي ان لا احتجز دونكم سراً الاّ في حرب, ولا اطوي دونكم امراً الاّ في حكم, ولا اؤخر لكم حقاً عن محله , ولا اقف به دون مقطعه – اي دون الحد الذي اخبرتكم به – وان تكونوا عندي في الحق سواء..).
ان حكومة امير المؤمنين عليه السلام هي حكومة الجميع.. بل تبدو في صالح الاقليات بالدرجة الاولى نظراً لكثرة الوصايا التي وجهها عليه السلام لولاته بشأن رعاية حقوقهم.. وحرصه عليه السلام على الضعيف.. أياً كان هذا الضعيف.. وأياً كانت اسباب ضعفه (والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له). ولن تجد اقلية مذهبية او دينية افضل من نهج امير المؤمنين عليه السلام حاكماً.. وما يجري في العراق هو فرصة تاريخية للاقلية قبل الاكثرية للاستفادة من نهج امير المؤمنين عليه السلام في الحكم.. ذلك النهج الذي كان ابرز ما فيه انه تم تطبيقه فعلاً لا قولاً.. وعملاً لا شعاراً.. لذلك لم نسمع ولن نسمع عن سني اضطُهد في عهد امير المؤمنين عليه السلام.. ولا ذمي ظُلم.. حتى قاتله الخارجي اللعين.. كان ارئف الناس به واكثرهم حرصاً على سلامته الجسمية والنفسية.. بل كان يحبذ العفو عنه بعد شهادته عليه السلام: (ان ابقَ فأنا وليُّ دمي, وان افنَ فالفناء ميعادي, وان اعف فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة, فاعفوا: _ ألا تحبون ان يغفر الله لكم).
تعليق