قليلون هم الاشخاص الذين يحضرون في غيابهم
مثلما كانوا حاضرين في حياتهم ...
أمل دنقل واحد من هؤلاء القلائل
فهو في غيابه أكثر حضوراً مما كان عليه وهو بين الأحياء،
لأن غيابه يدل على الحجم الذي كان يملأه ولم نكن نعرف.
. جمعتني به مصادفة حين أرسلت الى القاهرة مراسلاً
الى مدن القناة أيام حرب الاستنزاف المصرية نهايات 1976م،
وكان قد كتب قصيدتيه:
«البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»
و«كلمات سبارتاكوس الأخيرة»..
ولم توافق عليهما الرقابة المصرية آنذاك،
فكان يحمل بروفتيهما معه
ليقرأهما على الجميع وفي كل مكان،
فأخذتهما منه لنشرهما في الصحافة السورية.
كنا شابين في مطلع شبابهما، ،
لقد تألفنا ألفة وحشين في غابة..
جمعتهما غريزة البقاء واستشعار الخراب القادم.
ولم نلتقِ بعدها
حتى مطلع الثمانينات حين جاء الى بيروت
ليشارك في مهرجان الشقيف
أي أننا ألتقينا
بعد خمسة عشر عاماًولكن لقاءنا كان غريباً.
كان المرض قد بدأ يفتك بجسمه النحيل
وكان يحمل معه زجاجة الماء أينما ذهب.
ألتقينا في بهو الفندق الذي ينزل فيه الشعراء..
وبعد السلام جلسنا نتحادث
وكأنا لم نفترق إلاّ مساء الأمس..
النكات والمناقشات وقراءة الشعر... الخ.
و كان يستقبل في دمشق، وعلى جميع الأصعدة
(السياسية والاجتماعية والثقافية)
على انه المصري الحقيقي ممثل ضمير مصر والناطق بأسمها.
وبعد ذلك لم نلتقِ أبداً.
وحين وصلني نبأ موته شعرت أن جملاً ينخ في قلبي.
وأشعر إن أمل قد غاب عنا، ولكنه أوكل إلينا، أو اليَّ
بالتحديد. مهمة متابعة طريقه ومسيرته كما كان موجوداً
ومازلت حتى الآن أشعر، كلما ذهبت الى القاهرة
أنني سألتقي بأمل فيها. ولما كان هذا مستحيلاً
كنت أعزي نفسي ان هذا الشاعر يعيش معي في
ازقة القاهرة وحواريها وصالات فنادقها.
ولكنني في كل مرة أصل فيها الى المطار مغادراً القاهرة
أشعر أنني قد نسيت شيئاً مهماً لم أفعله
إني أغادر مصر ... دون أن ألتقي بأمل !
هكذا تحدث ممدوح عدوان
الشاعر السورى
عن أمل دنقل
في كتابه هواجس الشعراء وهو يستعرض شهاداته
في الشعر و الشعراء
وممدوح عدوان واحد من أخلص الأدباء لقضية فلسطين...
عرف بشاعر اليقين القومى ...
تغنى و حتى رحيله فى عام 2004
بمجد هذه الأمة بصوت أصيل متفرد حتى انه اكتشف بعدما
مر العمر كيف إضطرته الأحداث الجسام فلم يكتب عن
الحب أو الجمال إلا القليل ...القليل ...فقال :
لا شئ عن
الجمال و الطبيعة و السعادة !قصائدى كلها دم
و غضب و مآس و مراث ...
لكنى لست نادما ...فقد آمنت دائما بما قاله بريخت :
إنها لجريمة أن ثثحدث عن الأزهار الجميلة
حين يكون هناك بشر يقتلون !
و من كلماته أيضا :
لولا وجود اسرائيل ...
لكنت شاعرا أفضل ...
و عاشقا أفضل ...
و إنسانا ...أفضل !
لا أظنه بصفاته هذه يختلف كثيرا عن أمل دنقل
و قد جمعتهما صداقة قوية على قلة مرات اللقاء بينهما .
فكل منهما فارس فى قصيدته و في شعره ...
ينتصر للعروبة يأبى الذل و القهر ..
فلسطين هى سيدة جراحاته النازفة ...
ينطق بلسان و ضمير المواطن العربى
الذى شاهد ضياع الحلم ..
و غلبة الإستبداد و الظلم !
كل منهما...
امل دنقل ...
و ممدوح عدوان ..
.
ما بين الأشباه ......يختلف !
بالعودة إلى الغائب الحاضر أمل دنقل ...1940 -1983
هو أبرز الشعراء العرب في القصيدة السياسية
الرافضة فيما بعد نكسة عام 1967..
قد تكون أعماله قليلة نسبة إلى قصر عمره
و لكنها أعمال شديدة التأثير و الدلالة ..
كانه يحكي ما في الضمائر واصلا بالمضمون السياسي لشعره الى
أقصى درجات التقنية الفنية و القيمة الفكرية حتى أن القارئ
تجاه هذا الثراء اللغوى و الفكرى الباذخ تتراكم فى ذاكرته
لا مجرد أبيات عابرة ...بل صورا و مشاهد أبدا لا
تطمس أو تمحى ّ!
البكاء
بين يدى زرقاء اليمامة
و هى من أهم قصائده ...
عبرفيها عن صدمته ...بأسلوب قوى ..مباشر
متمردا على الواقع السياسي و مرارة الهزيمة
برؤية قومية تعيد إلى الذاكرة مأساة زرقاء اليمامة
حين حذرت من خطر غزو وشيك فلم يصدقها قومها !
هذه القصيدة المؤثرة ...أو إجهاشة البكاء المرير ...
هى صوت المواطن البسيط الذى لم ينل من أطايب الحياة نصيب
ثم دعى إلى الميدان..
فانهزم ...
و خرج من أتون الهزيمة ...مهانا ...منكسرا ...خائب الأمل !
فراح يسترجع التراث العربى...واصلا إلى الهم العربى الحالى
عّلنا ... من مرثية الماضى .... نستخلص عبرة للحاضر.... علّنا !!
العرافة المقدسة
جئت إليك مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء
أسأل يا زرقاء
عن فمك الياقوت عن نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع .. وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكسة
عن صور الأطفال في الخوذات... ملقاة علي الصحراء
عن جاري الذي يهم بارتشاف الماء
فيثقب الرصاص رأسه .. في لحظة الملامسة
عن الفم المحشو بالرمال والدماء
أسأل يا زرقاء
عن وقفتي العزلاء بين السيف .. والجدار
كيف حملتُ العار..
ثم مشيتُ؟ دون أن أقتل نفسي؟! دون أن أنهارْ؟!
ودون أن يسقط لحمي.. من غبار التربة المدنسهْ؟!
تكلَّمي أيتها النبية المقدسهْ
لا تغمضي عينيكِ، فالجرذان..
تلعقَ من دمي حساءَها.. ولا أردُّها!
تكلمي.. لشدَّ ما أنا مُهان !
لا اللَّيل يُخفي عورتي.. ولا الجدرانْ!
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها..
ولا احتمائي في سحائب الدخانْ!
تقفز حولي طفلة واسعة العينين..
عذبة المشاكسة
كان يقص عنك يا صغيرتي .. ونحن في الخنادق
فنفتح الأزرار في ستراتنا .. ونسند البنادق
وحين مات عطشا في الصحراء المشمسة
رطب باسمك الشفاه اليابسة
وارتخت العينان
فأين أخفي وجهي المتهم المدان؟
والضحكة الطروب: ضحكته ..
والوجه .. والغمازتان
***
أيتها النبية المقدسة
لا تسكتي .. فقد سكت سنة ... فسنة...
لكي أنال فضلة الأمان
قيل ليَ ;اخرسْ!
فخرست ...
ظللتُ في عبيد ( عبسِ ) أحرس القطعان
أجتزُّ صوفَها ..
أردُّ نوقها ..
أنام في حظائر النسيان
طعاميَ : الكسرةُ .. والماءُ .. وبعض الثمرات اليابسة .
وها أنا في ساعة الطعانْ
ساعةَ أن تخاذل الكماةُ .. والرماةُ .. والفرسانْ
دُعيت للميدان !
أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأن ..
أنا الذي لا حولَ لي أو شأن .
.
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان ،
أدعى إلى الموت .. ولم أدع إلى المجالسة !
تكلمى أيتها النبية المقدسة
تكلمي .. تكلمي ..
فها أنا على التراب سائلً دمي
وهو ظمئً .. يطلب المزيدا .
أيتها العَّرافة المقدسة ..
ماذا تفيد الكلمات البائسة ؟
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ ..
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار !
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار ..
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار !
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف : قايضوا بنا ..
والتمسوا النجاةَ والفرار !
ونحن جرحى القلبِ
جرحى الروحِ والفم .
لم يبق إلا الموتُ ..
والحطامُ ..
والدمارْ ..
وصبيةٌ مشرّدون يعبرون آخرَ الأنهارْ
ها أنت يا زرقاءْ
وحيدةٌ ... عمياءْ !
وما تزال أغنياتُ الحبِّ .. والأضواءْ
والعرباتُ الفارهاتُ .. والأزياءْ !
فأين أخفي وجهيَ المُشَوَّها
كي لا أعكِّر الصفاء .. الأبله.. المموَّها.
في أعين الرجال والنساءْ !؟
وأنت يا زرقاء ..
وحيدة .. عمياء !
وحيدة ...عمياء .
أغنية الكعكة الحجرية
بمناسبة اعتصام الطلاب الغاضبين
في ميدان التحرير .
أيها الواقفون على حافة المذبحة ...
أشهروا الاسلحة
سقط الموت ...وانفرط القلب كالمسبحة
والدم انساب فوق الوشاح !
المنازل أضرحة ...والزنازين اضرحة ...
والمدى أضرحة
فارفعوا الأسلحة واتبعونى ...
أنا ندم الغد و البارحة
رايتى ...عظمتان ....وجمجمة !
وشعارى ...الصباح !!
كلمات سبارتاكوس الأخيرة
مُعَلَّقٌ أنا على مشانقِ الصَّباحْ
وجبهتي - بالموتِ - مَحنيَّهْ
لأنني لم أَحْنِها.. حَيَّهْ!
يا إخوتي الذينَ يعبُرون في المِيدان مُطرِقينْ
مُنحدرين في نهايةِ المساءْ
في شارِع الإسكندرِ الأكبرْ
لا تخجلوا.. ولترْفعوا عيونَكم اليّ
لأنكم مُعلَّقونَ جانبي.. على مشانِق القيصَرْ.
فلترفعوا عيونَكم اليّ
لربما.. إذا التقتْ عيونُكم بالموتِ في عَينَيّ:
يبتسمُ الفناءُ داخلي.. لأنكمْ رفعتم رأسَكمْ.. مرَّهْ!
فلترفعوا عيونَكم للثائرِ المشنوقْ
فسوف تنتهونَ مثلَه.. غدا
وقبّلوا زوجاتِكم.. هنا.. على قارعةِ الطريقْ
فسوف تنتهون ها هنا.. غدا
فالانحناءُ مُرّ..
والعنكبوتُ فوق أعناقِ الرّجالِ ينسجُ الردى
فقبِّلوا زوجاتِكم.. إني تركتُ زوجتي بلا وداعْ
وإن رأيتم طفليَ الذي تركتُه على ذراعِها بلا ذراعْ
فعلّموهُ الإنحناءْ!
علّموهُ الانحناءْ!
فعلّموهُ الإنحناءْ!
وليس ثَمَّ من مَفَرّ.
لا تحلُموا بعالمٍ سعيدْ
فخلف كل قيصر يموتُ: قيصرٌ جديد!
وخلف كل ثائرٍ يموتُ: أحزانٌ بلا جدوى..
ودمعةٌ سُدى!
يا قيصرُ العظيم: قد أخطأتُ.. إني أَعترِفْ
دعني - على مِشنقتي - أَلْثُمُ يَدكْ
ها أنذا أُقبّل الحبلَ الذي في عُنقي يلتفّ
فهو يداكَ
وهو مجدُك الذي يجِبرُنا أن نعبُدَكْ
دعني أُكَفِّرْ عنْ خطيئتى
أمنحكَ - بعد ميتتي - جُمْجُمَتي
تصوغُ منها لكَ كأساً لشرابِك القويّ
فإن فعلتَ ما أريدْ
إن يسألوك مرةً عن دميَ الشهيدْ
وهل تُرى منحتَني;الوجودَ; كي تسلُبَني ;الوجودْ;
فقلْ لهم: قد ماتَ.. غيرَ حاقدٍ عليّ
وهذه الكأسُ - التي كانتْ عظامُها جمجمتَه -
وثيقةُ الغُفرانِ لي.
يا قاتلي: إني صفحتُ عنك..
في اللّحظةِ التي استرحتَ بعدَها مني:
استرحتُ منكْ!
لكنني.. أوصيكَ إن تشأْ شنقَ الجميع ....
أن ترحم الشجر!
لا تقطعِ الجذوعَ كي تنصبَها
مشانقاً !!
لا تقطعِ الجُذوع
فربما يأتي الرَّبيع
والعامُ عامُ جوع
فلن تشمَّ في الفرُوعِ.. نكهةَ الثَّمر!
وربما يمر في بلادِنا الصّيف الخَطِِرْ
فتقطعَ الصحراء.. باحثاً عن الظلالْ
فلا ترى سوى الهجيرِ والرّمالِ...
والهجيرِ والرمال...
والظمأِ الناريّ في الضُلوع!
يا سيدَ الشواهدِ البيضاء في الدُّجى..
يا قيصر الصقيع
يا إخوتى الذين يعبرون فى الميدان فى انحناء
منحدرين فى نهاية المساء ...
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت ...قيصر جديد !
للحديث بقية .....
مثلما كانوا حاضرين في حياتهم ...
أمل دنقل واحد من هؤلاء القلائل
فهو في غيابه أكثر حضوراً مما كان عليه وهو بين الأحياء،
لأن غيابه يدل على الحجم الذي كان يملأه ولم نكن نعرف.
. جمعتني به مصادفة حين أرسلت الى القاهرة مراسلاً
الى مدن القناة أيام حرب الاستنزاف المصرية نهايات 1976م،
وكان قد كتب قصيدتيه:
«البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»
و«كلمات سبارتاكوس الأخيرة»..
ولم توافق عليهما الرقابة المصرية آنذاك،
فكان يحمل بروفتيهما معه
ليقرأهما على الجميع وفي كل مكان،
فأخذتهما منه لنشرهما في الصحافة السورية.
كنا شابين في مطلع شبابهما، ،
لقد تألفنا ألفة وحشين في غابة..
جمعتهما غريزة البقاء واستشعار الخراب القادم.
ولم نلتقِ بعدها
حتى مطلع الثمانينات حين جاء الى بيروت
ليشارك في مهرجان الشقيف
أي أننا ألتقينا
بعد خمسة عشر عاماًولكن لقاءنا كان غريباً.
كان المرض قد بدأ يفتك بجسمه النحيل
وكان يحمل معه زجاجة الماء أينما ذهب.
ألتقينا في بهو الفندق الذي ينزل فيه الشعراء..
وبعد السلام جلسنا نتحادث
وكأنا لم نفترق إلاّ مساء الأمس..
النكات والمناقشات وقراءة الشعر... الخ.
و كان يستقبل في دمشق، وعلى جميع الأصعدة
(السياسية والاجتماعية والثقافية)
على انه المصري الحقيقي ممثل ضمير مصر والناطق بأسمها.
وبعد ذلك لم نلتقِ أبداً.
وحين وصلني نبأ موته شعرت أن جملاً ينخ في قلبي.
وأشعر إن أمل قد غاب عنا، ولكنه أوكل إلينا، أو اليَّ
بالتحديد. مهمة متابعة طريقه ومسيرته كما كان موجوداً
ومازلت حتى الآن أشعر، كلما ذهبت الى القاهرة
أنني سألتقي بأمل فيها. ولما كان هذا مستحيلاً
كنت أعزي نفسي ان هذا الشاعر يعيش معي في
ازقة القاهرة وحواريها وصالات فنادقها.
ولكنني في كل مرة أصل فيها الى المطار مغادراً القاهرة
أشعر أنني قد نسيت شيئاً مهماً لم أفعله
إني أغادر مصر ... دون أن ألتقي بأمل !
هكذا تحدث ممدوح عدوان
الشاعر السورى
عن أمل دنقل
في كتابه هواجس الشعراء وهو يستعرض شهاداته
في الشعر و الشعراء
وممدوح عدوان واحد من أخلص الأدباء لقضية فلسطين...
عرف بشاعر اليقين القومى ...
تغنى و حتى رحيله فى عام 2004
بمجد هذه الأمة بصوت أصيل متفرد حتى انه اكتشف بعدما
مر العمر كيف إضطرته الأحداث الجسام فلم يكتب عن
الحب أو الجمال إلا القليل ...القليل ...فقال :
لا شئ عن
الجمال و الطبيعة و السعادة !قصائدى كلها دم
و غضب و مآس و مراث ...
لكنى لست نادما ...فقد آمنت دائما بما قاله بريخت :
إنها لجريمة أن ثثحدث عن الأزهار الجميلة
حين يكون هناك بشر يقتلون !
و من كلماته أيضا :
لولا وجود اسرائيل ...
لكنت شاعرا أفضل ...
و عاشقا أفضل ...
و إنسانا ...أفضل !
لا أظنه بصفاته هذه يختلف كثيرا عن أمل دنقل
و قد جمعتهما صداقة قوية على قلة مرات اللقاء بينهما .
فكل منهما فارس فى قصيدته و في شعره ...
ينتصر للعروبة يأبى الذل و القهر ..
فلسطين هى سيدة جراحاته النازفة ...
ينطق بلسان و ضمير المواطن العربى
الذى شاهد ضياع الحلم ..
و غلبة الإستبداد و الظلم !
كل منهما...
امل دنقل ...
و ممدوح عدوان ..
.
ما بين الأشباه ......يختلف !
بالعودة إلى الغائب الحاضر أمل دنقل ...1940 -1983
هو أبرز الشعراء العرب في القصيدة السياسية
الرافضة فيما بعد نكسة عام 1967..
قد تكون أعماله قليلة نسبة إلى قصر عمره
و لكنها أعمال شديدة التأثير و الدلالة ..
كانه يحكي ما في الضمائر واصلا بالمضمون السياسي لشعره الى
أقصى درجات التقنية الفنية و القيمة الفكرية حتى أن القارئ
تجاه هذا الثراء اللغوى و الفكرى الباذخ تتراكم فى ذاكرته
لا مجرد أبيات عابرة ...بل صورا و مشاهد أبدا لا
تطمس أو تمحى ّ!
البكاء
بين يدى زرقاء اليمامة
و هى من أهم قصائده ...
عبرفيها عن صدمته ...بأسلوب قوى ..مباشر
متمردا على الواقع السياسي و مرارة الهزيمة
برؤية قومية تعيد إلى الذاكرة مأساة زرقاء اليمامة
حين حذرت من خطر غزو وشيك فلم يصدقها قومها !
هذه القصيدة المؤثرة ...أو إجهاشة البكاء المرير ...
هى صوت المواطن البسيط الذى لم ينل من أطايب الحياة نصيب
ثم دعى إلى الميدان..
فانهزم ...
و خرج من أتون الهزيمة ...مهانا ...منكسرا ...خائب الأمل !
فراح يسترجع التراث العربى...واصلا إلى الهم العربى الحالى
عّلنا ... من مرثية الماضى .... نستخلص عبرة للحاضر.... علّنا !!
العرافة المقدسة
جئت إليك مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء
أسأل يا زرقاء
عن فمك الياقوت عن نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع .. وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكسة
عن صور الأطفال في الخوذات... ملقاة علي الصحراء
عن جاري الذي يهم بارتشاف الماء
فيثقب الرصاص رأسه .. في لحظة الملامسة
عن الفم المحشو بالرمال والدماء
أسأل يا زرقاء
عن وقفتي العزلاء بين السيف .. والجدار
كيف حملتُ العار..
ثم مشيتُ؟ دون أن أقتل نفسي؟! دون أن أنهارْ؟!
ودون أن يسقط لحمي.. من غبار التربة المدنسهْ؟!
تكلَّمي أيتها النبية المقدسهْ
لا تغمضي عينيكِ، فالجرذان..
تلعقَ من دمي حساءَها.. ولا أردُّها!
تكلمي.. لشدَّ ما أنا مُهان !
لا اللَّيل يُخفي عورتي.. ولا الجدرانْ!
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها..
ولا احتمائي في سحائب الدخانْ!
تقفز حولي طفلة واسعة العينين..
عذبة المشاكسة
كان يقص عنك يا صغيرتي .. ونحن في الخنادق
فنفتح الأزرار في ستراتنا .. ونسند البنادق
وحين مات عطشا في الصحراء المشمسة
رطب باسمك الشفاه اليابسة
وارتخت العينان
فأين أخفي وجهي المتهم المدان؟
والضحكة الطروب: ضحكته ..
والوجه .. والغمازتان
***
أيتها النبية المقدسة
لا تسكتي .. فقد سكت سنة ... فسنة...
لكي أنال فضلة الأمان
قيل ليَ ;اخرسْ!
فخرست ...
ظللتُ في عبيد ( عبسِ ) أحرس القطعان
أجتزُّ صوفَها ..
أردُّ نوقها ..
أنام في حظائر النسيان
طعاميَ : الكسرةُ .. والماءُ .. وبعض الثمرات اليابسة .
وها أنا في ساعة الطعانْ
ساعةَ أن تخاذل الكماةُ .. والرماةُ .. والفرسانْ
دُعيت للميدان !
أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأن ..
أنا الذي لا حولَ لي أو شأن .
.
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان ،
أدعى إلى الموت .. ولم أدع إلى المجالسة !
تكلمى أيتها النبية المقدسة
تكلمي .. تكلمي ..
فها أنا على التراب سائلً دمي
وهو ظمئً .. يطلب المزيدا .
أيتها العَّرافة المقدسة ..
ماذا تفيد الكلمات البائسة ؟
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ ..
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار !
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار ..
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار !
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف : قايضوا بنا ..
والتمسوا النجاةَ والفرار !
ونحن جرحى القلبِ
جرحى الروحِ والفم .
لم يبق إلا الموتُ ..
والحطامُ ..
والدمارْ ..
وصبيةٌ مشرّدون يعبرون آخرَ الأنهارْ
ها أنت يا زرقاءْ
وحيدةٌ ... عمياءْ !
وما تزال أغنياتُ الحبِّ .. والأضواءْ
والعرباتُ الفارهاتُ .. والأزياءْ !
فأين أخفي وجهيَ المُشَوَّها
كي لا أعكِّر الصفاء .. الأبله.. المموَّها.
في أعين الرجال والنساءْ !؟
وأنت يا زرقاء ..
وحيدة .. عمياء !
وحيدة ...عمياء .
أغنية الكعكة الحجرية
بمناسبة اعتصام الطلاب الغاضبين
في ميدان التحرير .
أيها الواقفون على حافة المذبحة ...
أشهروا الاسلحة
سقط الموت ...وانفرط القلب كالمسبحة
والدم انساب فوق الوشاح !
المنازل أضرحة ...والزنازين اضرحة ...
والمدى أضرحة
فارفعوا الأسلحة واتبعونى ...
أنا ندم الغد و البارحة
رايتى ...عظمتان ....وجمجمة !
وشعارى ...الصباح !!
كلمات سبارتاكوس الأخيرة
مُعَلَّقٌ أنا على مشانقِ الصَّباحْ
وجبهتي - بالموتِ - مَحنيَّهْ
لأنني لم أَحْنِها.. حَيَّهْ!
يا إخوتي الذينَ يعبُرون في المِيدان مُطرِقينْ
مُنحدرين في نهايةِ المساءْ
في شارِع الإسكندرِ الأكبرْ
لا تخجلوا.. ولترْفعوا عيونَكم اليّ
لأنكم مُعلَّقونَ جانبي.. على مشانِق القيصَرْ.
فلترفعوا عيونَكم اليّ
لربما.. إذا التقتْ عيونُكم بالموتِ في عَينَيّ:
يبتسمُ الفناءُ داخلي.. لأنكمْ رفعتم رأسَكمْ.. مرَّهْ!
فلترفعوا عيونَكم للثائرِ المشنوقْ
فسوف تنتهونَ مثلَه.. غدا
وقبّلوا زوجاتِكم.. هنا.. على قارعةِ الطريقْ
فسوف تنتهون ها هنا.. غدا
فالانحناءُ مُرّ..
والعنكبوتُ فوق أعناقِ الرّجالِ ينسجُ الردى
فقبِّلوا زوجاتِكم.. إني تركتُ زوجتي بلا وداعْ
وإن رأيتم طفليَ الذي تركتُه على ذراعِها بلا ذراعْ
فعلّموهُ الإنحناءْ!
علّموهُ الانحناءْ!
فعلّموهُ الإنحناءْ!
وليس ثَمَّ من مَفَرّ.
لا تحلُموا بعالمٍ سعيدْ
فخلف كل قيصر يموتُ: قيصرٌ جديد!
وخلف كل ثائرٍ يموتُ: أحزانٌ بلا جدوى..
ودمعةٌ سُدى!
يا قيصرُ العظيم: قد أخطأتُ.. إني أَعترِفْ
دعني - على مِشنقتي - أَلْثُمُ يَدكْ
ها أنذا أُقبّل الحبلَ الذي في عُنقي يلتفّ
فهو يداكَ
وهو مجدُك الذي يجِبرُنا أن نعبُدَكْ
دعني أُكَفِّرْ عنْ خطيئتى
أمنحكَ - بعد ميتتي - جُمْجُمَتي
تصوغُ منها لكَ كأساً لشرابِك القويّ
فإن فعلتَ ما أريدْ
إن يسألوك مرةً عن دميَ الشهيدْ
وهل تُرى منحتَني;الوجودَ; كي تسلُبَني ;الوجودْ;
فقلْ لهم: قد ماتَ.. غيرَ حاقدٍ عليّ
وهذه الكأسُ - التي كانتْ عظامُها جمجمتَه -
وثيقةُ الغُفرانِ لي.
يا قاتلي: إني صفحتُ عنك..
في اللّحظةِ التي استرحتَ بعدَها مني:
استرحتُ منكْ!
لكنني.. أوصيكَ إن تشأْ شنقَ الجميع ....
أن ترحم الشجر!
لا تقطعِ الجذوعَ كي تنصبَها
مشانقاً !!
لا تقطعِ الجُذوع
فربما يأتي الرَّبيع
والعامُ عامُ جوع
فلن تشمَّ في الفرُوعِ.. نكهةَ الثَّمر!
وربما يمر في بلادِنا الصّيف الخَطِِرْ
فتقطعَ الصحراء.. باحثاً عن الظلالْ
فلا ترى سوى الهجيرِ والرّمالِ...
والهجيرِ والرمال...
والظمأِ الناريّ في الضُلوع!
يا سيدَ الشواهدِ البيضاء في الدُّجى..
يا قيصر الصقيع
يا إخوتى الذين يعبرون فى الميدان فى انحناء
منحدرين فى نهاية المساء ...
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت ...قيصر جديد !
للحديث بقية .....
تعليق