إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الروائى الانجليزى تشارلز ديكنز Charles Dickens

تقليص
هذا الموضوع مغلق.
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #61
    الفصل التاسع عشر

    الهوامش المالية


    فيما اعتدت على الآمال لدي بدأت أشعر بتأثيرها النفسي
    على نفسي وعلى الذين من حولي , فعشت في حال من
    القلق المستمر حيال تصرفي مع جو , ولم يكن ضميري
    مرتاحاً تجاه بيدي . وحين كنت أستيقظ في الليل ,
    كنت أفكر بنفس كئيبة بأنني ربما كنت أكثر سعادة
    لو أنني لم أتعرف إلى وجه الآنسة هافيشام ,
    وبلغت الرجولة قانعاً بكوني شريك جو
    فى دكانه القديم المتواضع .لم يكن مركزي الجديد
    بذي فائدة لهربرت . فقد دفعه تبذيري لمصاريف
    فاقت قدرته , وأفسد البساطة في حياته ,
    وأصاب طمأنينته بالقلق والندم .وبدأت أغرق بالدين ,



    كمبيالات وفواتير وديون .. !

    وسرعان ما لحق بي هربرت . كان بودي أن أتحمل
    مصاريف هربرت , لكن هربرت كان معتداً بنفسه ,
    فلم أستطع التقدم إليه بمثل هذا الإقتراح .
    وهكذا غرق بالمصاعب من كل حدب وصوب ,
    وبقي ينتبه لنفسه .كان في كل صباح يذهب إلى
    الوسط التجاري , وغالباً ما كنت أزوره في مكتبه
    لكنني لا أذكر أني رأيته مرة يفعل شيئاً سوى النظر حوله .
    فكنت أقول له أحياناً : " يا عزيزي هربرت , إن وضعنا سيء . "
    " يا عزيزي هاندل , لئن صدقتني , فقد كنت على وشك
    النطق بهذه الكلمات .
    "وكنت أقول : " إذن لنمعن النظر في أمورنا . "
    كنا نشعر دائماً بمتعة بالغة عن تحديد موعد لهذا الغرض .
    فنطلب وجبة خاصة على الغداء مع زجاجة نبيذ غالية
    لشحذ الفكر لتلك المناسبة . وبعد الغداء ,
    نأتي بالأقلام والورق . فأتناول ورقة وأكتب في أعلاها :
    " مذكرة بديون بيب . " كذلك كان هربرت يتناول ورقة
    ويكتب عليها : " مذكرة بديون هبرت .
    " ثم يرجع كل منا إلى كومة أوراق بجانبه ,
    سبق أن ألقيت في الأدراج , أو استحالت نتفاً في الجيوب ,
    أو أصابها بعض الإحتراق من الشموع ,
    أو ألصقت إلى المرآة طوال الأسبوع , أو لعلها أتلفت
    بشكل أو بآخر . فكان صرير الأقلام يبعث فينا
    أثناء الكتابة كثيراً من الانتعاش حتى أنه كان يصعب
    أحياناً التفريق بين القيام بهذا العمل وتسديد المال بالفعل .
    وبعد أن نكتب لبعض الوقت , كنت أسأل هربرت
    كيف تسير معه الأمور , فيقول : " إنها تتصاعد يا هاندل ,
    لعمري إنها تتصاعد . "فأجيب : " كن حازماً يا هربرت ,
    واجه الأمر ودقق في شؤونك . وتكون لأسلوبي الحازم نتائجه ,
    فينكب هربرت على العمل من جديد , ثم يستسلم بعد فترة ,
    مبرراً بأن بعض الفواتير قد فقدت .
    " إذن قدرها يا هربرت , قدرها بأرقام مدورة وسجلها . "
    فيجيب صديقي بأعجاب : " يا لك من إنسان بارع ,
    فلديك في مجال الأعمال قدرات رائعة حقاً ! "
    اعتقدت ذلك أيضاً , واعتبرت نفسي في تلك المناسبات
    رجل أعمال من الدرجة الأولى : حازم , حاسم ,
    واضح وهادئ المزاج .ومن إحدى عوائدي
    في العمل ما كنت أدعوه " تخصيص هامش " .
    فلو افترضنا مثلاً أن ديون هربرت
    هي مائة وأربعة وستون جنيهاً .
    أقول : أُترك هامشاً وسجلها مئتين . أو لنفترض أن
    ديوني هي أربعة أضعاف ذلك, فإنني أترك هامشاً
    وأسجلها سبعمئة . كنت شديد الإيمان بالحكمة
    من هذا الهامش , لكن لابد لي من الاعتراف من
    أنها طريقة مكلفة . إذ سرعان ما نعرف بديون
    جديدة تغطي الهامش بأكمله وتتجاوز
    حدودها لتدخل في حيز هامش آخر .
    إنما كان يسودنا شعور بالسكينة والإرتياح
    نتيجة التدقيق بأحوالنا , وهو ما عززني آنذاك
    بموقف من الإعجاب بالنفس .

    تعليق


    • #62
      ذات مساء كنت
      في حالة السكينة هذه حين وصلتني رسالة من بيدي
      تعلمني فيها عن وفاة شقيقتي وتطلب إلي حضور
      الدفن نهار الاثنين التالي .
      ندر أن أتذكر شقيقتي بحنان كثير ,
      لكن حسبي أن هناك صدمة من الندم , بغياب مشاعر الحنان .
      وبتأثير ذلك , امتلكني غيظ شديد من المهاجم
      الذي عانت الكثير بسببه , وشعرت بأنه لو كان لدي الدليل الكافي ,
      لكنت طاردت أورليك , أو أي إنساناً آخر , إلى آخر الدنيا انتقاماً .
      كتبت إلى جو معزياً , وحين حل النهار استقليت عربة
      إلى قريتي وسرت باتجاه دكان الحدادة .
      بعد انتهاء مراسم الدفن , تناولت غداء بارداً مع جو وبيدي .
      وقد سُر جو كثيراً حين سألت إن كان بوسعي أن
      أنام في غرفتي الصغيرة . وفيما بدأت تقترب بداية الظلمة ,
      اغتنمت فرصة للخروج إلى الحديقة مع بيدي في نزهة قصيرة .
      قلت لها : " أظن أن من الصعب عليك البقاء هنا يا عزيزتي بيدي . "
      فقالت بلهجة أسف :" أوه , لا يمكنني ذلك يا سيد بيب .
      لقد كنت أتحدث إلى السيدة هابل, وسأذهب إليها في الغد .
      آمل أن تستطيع الاهتمام بالسيد غارجري , سوياً إلى أن يستقر . "
      " وكيف ستعيشين يا بيدي ؟ إن كنت بحاجة إلى المال ــ "
      " كيف سأعيش ؟ سأخبرك يا سيد بيب . سأحاول
      الحصول على وظيفة معلمة في المدرسة الجديدة
      المنجزة تقريباً هنا , لقد تعلمت منك الكثير يا سيد بيب ؛
      وكان لدي الوقت للتقدم منذ ذلك الحين . "
      " أعتقد أنك ستتحسنين دائماً يا بيدي , وفي كافة الظروف . "
      ثم أخبرتني بتفاصيل وفاة شقيقتي . إذ ظلت في إحدى
      حالاتها السيئة أربعة أيام , وحين خرجت منها في المساء ,
      قالت (( جو )) بوضوح . فاستدعي جو من الدكان
      وأشارت إليه بأنها تريد أن يجلس بالقرب منها ,
      ثم ألقت برأسها على كتفه بارتياح ورضى .
      وقالت (( جو )) ثانية و (( سامح )) , ومرة (( بيب )) .
      ولم ترفع رأسها بعد ذلك , وبعد ساعة كانت قد فارقت الحياة .
      " ألم يُكتشف شيء يا بيدي ؟ " لا شيء . "
      " هل تعلمين ماذا حل بأورليك ؟ "
      " أعتقد من لون ملابسه أنه يعمل في مقالع الحجارة . "
      ثم أخبرتني أنه ما زال يحاول إيقاعها في حبه ,الأمر الذي
      أثار غضبي الشديد , كان علي الذهاب في الصباح الباكر .
      وفي الصباح الباكر , كنت في الخارج أنظر خلسة
      من إحدى نوافذ دكان الحدادة . وقفت هناك بضع دقائق ,
      أتطلع إلى جو وقد باشر عمله ,
      فيما وهج الصحة والقوة بادٍ على محياه .
      " وداعاً يا عزيزي جو ! كلا , لا تمسحها ـ بالله عليك ,
      أعطني يدك المسودة ! سأعود ثانية ومرات عديدة . "
      فقال جو : " ليس عاجلاً يا سيدي , وليس دائماً يا بيب . "

      الفصل العشرون

      الوجه المشرق


      انتقلت مع هربرت من سيء إلى أسوأ بويادة ديوننا
      والبحث في شؤوننا ، ووضع الهوامش ، وما شابه
      ذلك ، ومع مرور الوقت بلغت سن الحادية
      والعشرين . وقبل بلوغي الحادية والعشرين بيوم
      واحد , تلقيت مذكرة رسمية من ويميك يعلمني فيها
      أن السيد جاغرز سيكون سعيداً إن قمت بزيارته
      في الخامسة من بعد ظهر اليوم التالي .
      حين وصلت المكتب , هنأني ويميك وأومأ لي
      برأسه للدخول إلى غرفة وصيي .
      صافحني السيد جاغرز وهو يخاطبني بالسيد بيب
      وقدم لي تهانيه . ثم سألني عن أحوال معيشتي ,
      فلم أستطع الإجابة على ذلك السؤال .
      سألته إن كنت سأتعرف على هوية المحسن إلي
      ذلك النهار . فأجابني بالنفي , ثم قال إنه على علم
      بأنني مدين , فقدم لي ورقة نقدية بقيمة خمسمائة
      جنيه , وأضاف بأنني سأحصل على نفس المبلغ
      سوياً , وأن علي أن أعيش ضمن هذه الحدود إلى
      أن يظهر المحسن إلي . بدأت بالتعبير عن امتناني
      للمحسن لكرمه الفائق الذي يخصني به , حين
      أوقفني السيد جاغرز ليقول : " أنا لا أتلقى أجراً
      لأنقل كلماتك للآخرين يا بيب . " . وبذلت جهوداً
      متتالية لأتبين متى سيتم الكشف عن المحسن
      السري . وإن كان سيأتي إلى لندن , لكنها باءت
      جميعها بالفشل . بل كل ما استطعت حمل السيد
      جاغرز على قوله هو : " حين يكشف لك ذلك
      الشخص عن نفسه , سيتوقف دوري في المهمة . "
      من هنا استنتجت أن الآنسة هافيشام لم تخبره ـ
      لسبب أو لآخر ـ عن إعدادها لي للزواج من استيلا
      , أو أنه يستاء من ذلك ويشعر بالغيرة حياله , أو
      يعارض المخطط بشدة ولا يرغب القيام بشيء بصدده .
      تركته وذهبت إلى مكتب ويميك , ولما أصبحت
      الجنيهات الخمسمائة في جيبي , خطرت ببالي فكرة
      ورأيت أن أستشير ويميك . فأخبرته أنني أود
      مساعدة صديق يحاول الانطلاق في ميدان التجارة
      لكنه لا يملك المال لذلك . فكان رأي السيد ويميك
      بأنني أرتكب ضرباً من الحماقة لو فعلت ذلك ,
      وسيكون حالي كمن يلقي بماله سدى في نهر التايمز .
      لكن ويميك كان في منزله أكثر كرماً من المكتب ,
      ولذا قمت بزيارته عدة مرات في المنزل , ووجدنا
      في النهاية تاجراً شاباً يدعى كلاريكر كان يحتاج
      إلى مساعدة عاقلة ورأس مال , وقد يحتاج في
      حينه إلى شريك له . وقد وقعت معه على اتفاق
      سري بشأن هربرت , فدفعت نصف مبلغ
      الخمسمائة جنيه الذي أملكه , ووعدت بتسديد
      دفعات أخرى من دخلي بتواريخ محددة .
      كان العمل من التنظيم البارع حتى أن هربرت لم
      يكن لديه أدنى شك بضلوعي فيه . ولن أنسى أبداً
      وجهه المشرق الذي عاد به ذات مساء ليخبرني
      خبراً مذهلاً , هو أنه تعرف إلى تاجر شاب أبدى
      إعجاباً باهراً به , وأنه مؤمن بأن الفرج قد جاء
      أخيراً . يوماً بعد يوم أخذت آماله تكبر ووجهه
      يبتهج .إلى أن تم أخيراً إنجاز كل شيء ودخل
      ميدان العمل. بكيت فرحاً عندما ذهبت إلى السرير
      , لأنني رأيت أن آمالي قد منحت شخصاً بعض الخير .

      تعليق


      • #63
        الفصل الحادي والعشرون

        شجار مؤقت


        لو قدر لذلك المنزل الوقور في ريتشموند أن
        يستحيل مزاراً للأرواح حين أموت , فلا شك أن
        شبحي سيكون من زائريه . آهٍ لليالي والأيام العديدة
        التي كانت روحي المعذبة تزور ذلك المنزل حين
        كانت استيلا تعيش هناك !
        ففي داخل المنزل وخارجه , كنت أعاني كل أنواع
        العذاب الذي تسببه لي استيلا ؛ فطبيعة علاقاتي
        معها التي وضعتني موضع الألفة بدلاً من موضع
        التفصيل , كادت تدفعني إلى الجنون . فكانت
        تستخدمني لمضايقة باقي المعجبين , وكان لها
        معجبون كثر . كنت أشاهدها غالباً في ريتشموند
        وتبلغني أخبارها في المدينة , وغالباً ما كنت
        اصطحبها مع عائلة براندلي التي تقيم معهم للتنزه
        وحضور المسرحيات والحفلات الموسيقية وحفلات
        الأنس والسمر وسائر أنواع اللهو ,



        بيب يرافق استيلا فى الحفلات

        حيث كنت ألاحقها ــ وكان كل ذلك مصدر عذاب
        وشقاء . ولم أنعم بساع من السعادة بصحبتها ,
        ورغم ذلك فقد بقيت أفكر على مدار الساعة
        بالسعادة الناجمة عن وجودها معي حتى الممات .
        ذات مساء أخبرتني استيلا أن الآنسة هافيشام تود
        أن تستضيفها ليوم في (( ساتيس هاوس )) , وأن
        علي اصطحابها إلى هناك والعودة إذا شئت .
        فوافقت بكل طيبة خاطر , وذهبنا بعد يومين لنجد
        الآنسة هافيشام في الغرفة حيث رأيتها أول مرة .
        كانت هذه أكثر ولعاً باستيلا نحوي بنظرة ثاقبة ,
        وسألتني بتوق حتى على مسمع استيلا : " كيف
        تعاملك يا بيب , كيف تعاملك ؟
        " لكن عندما جلسنا بالقرب من موقدها ليلاً ,
        كانت غريبة للغاية , إذ فيما ظلت تمسك بيد استيلا
        , جعلتها تذكر أسماء وأحوال الرجال الذين تجتذبهم
        , وفيما كانت الآنسة هافيشام تصغي باهتمام ,
        جلست تتكئ باليد الأخرى على عصاها
        وتحدق إلي كالشبح .
        استنتجت من ذلك أن استيلا كانت تستخدم لتثأر
        الآنسة هافيشام من الرجال , وأنها لن تكون من
        نصيبي إلا حين تثأر لها . واستنتجت من ذلك سبب
        إبعادي طيلة ذلك الوقت , وسبب رفض وصيي
        الإقرار بأية معلومات تتعلق بأنها ستكون من نصيبي .

        وحدث في هذه الزيارة أن تبادلت استيلا والآنسة
        هافيشام كلاماً قاسياً , وكان هذه أول مرة أراهما
        تتعارضان .
        كنا نجلس قرب الموقد , والآنسة هافيشام ما تزال
        تتأبط ذراع استيلا , حين بدأت هذه تسحب يدها
        تدريجياً .فقالت الآنسة هافيشام وهي تنظر إليها
        بحدة : " ماذا ! هل سئمتي ؟ "
        أجابت استيلا : " بل سئمت قليلاً من نفسي . "
        وهي تحرر ذراعها وتتجه نحو المدفأة , حيث
        وقفت تحد إلى النار .
        فصرخت الآنسة هافيشام وهي تضرب الأرض
        بعصاها بعصبية : " قولي الحقيقة أيتها الجحودة !
        لقد سئمتي . نظرت استيلا إليها بهدوء تام ,
        ثم حدقت إلى النار ثانية .
        فقالت الآنسة هافيشام : " يا لك من جماد وحجر !
        يا لقلبك البارد , البارد . "



        يا صاحبة القلب البارد

        قالت استيلا : " ماذا ؟ وهل تلومينني لأنني باردة ؟
        أنتي ؟ فكان الرد العنيف : " ألست كذلك ؟ "



        يتبع

        تعليق


        • #64
          قالت استيلا : " عليك أن تعلمي بأنني كما صنعتني .
          خذي المديح كله , خذي الملامة كلها , خذي النجاح كله ,
          خذي الفشل برمته , وباختصار خذيني . "
          صاحت الآنسة هافيشام بمرارة : " أوه , أنظر إليها ,
          أنظر إليها ! أنظر إليها حيث تربت ,
          كم هي قاسية وجاحدة من رباها !
          حيث وضعتها إلى هذا الصدر البائس حين كان ينزف
          من الطعنات التي أصابته,وحيث أغدقت عليها
          سنوات من الحنان والعطف."
          قالت استيلا : " ماذا تريدين ؟ لقد كنت طيبة جداً معي ,
          وإنني مدينة لك بكل شيء . فما الذي تريدينه ؟ "
          أجابت الأخرى : " الحب . " لديك إياه . "



          لقد حذرتينى من الوقوع فى الحب

          قال الآنسة هافيشام : " كلا . " والدتي بالتبني ,
          لقد قلت بأنني مدينة لك بكل شيء , كل ما بحوزتي
          هو لك مجاناً , وكل ما منحتني , لك استرجاعه عند الطلب ,
          وإن سألتني أن أمنحك ما لم تمنحيني إياه ,
          فإن إقراري بالجميل والواجب يتعذر عليه المستحيل . "
          صاحت الآنسة هافيشام وهي تلتفت نحوي بغضب :
          " ألم أعطها الحب أبداً ! ألم أعطها الحب متقداً ,
          فيما هي تتحدث إلي هكذا ! لتدعوني مجنونة , لتدعوني مجنونة ! "
          أجابت استيلا : " ولماذا أدعوك مجنونة أنا من دون سائر الناس ؟
          هل من أحد يعرف نواياك نصف ما أعرف ؟
          وهل من أحد يعرف ذاكرتك الثابتة نصف ما أعرف ؟
          أنا التي جلست بجانب هذا الموقد بالذات أتعلم دروسك
          وأنظر في وجهك , حين كان وجهك غريباً يخيفني . "
          فانتدبت الآنسة هافيشام تقول : " منسية بسرعة !
          أحوالي باتت طي النسيان ! " كلا , لم تنس , لم تنس ,
          بل هي مخزونة في ذاكرتي . متى وجدتني
          أخالف تعليماتك ؟ ومتى وجدتني أوافق على ما تعارضين عليه ؟
          كوني عادلة معي .
          انتدبت الآنسة هافيشام تقول : " مغرورة جداً , مغرورة جداً . "
          قالت استيلا : " من علمني أن أكون مغرورة ؟
          ومن كان يمتدحني وأنا أتعلم دروسي ؟ "
          وزعقت الآنسة هافيشام تقول : " قاسية جداً , قاسية جداً . "
          " ومن علمني أن أكون قاسية ؟ ومن كان يمتدحني وأنا أتعلم دروسي ؟ "
          صاحت الآنسة هافيشام وهي تمد ذراعيها :
          " لكن لتكوني مغرورة وقاسية معي . استيلا ,
          لتكوني مغرورة وقاسية معي . "
          نظرت استيلا إليها بتعجب هادئ , ثم عادت تنظر إلى النار ثانية .
          واستقرت الآنسة هافيشام , لست أدري كيف على أرض الغرفة ,

          تعليق


          • #65
            فانتهزت الفرصة لأغادر الغرفة وأتمشى تحت ضوء النجوم
            مدة ساعة أو أكثر في الحديقة المهملة .
            وعندما استجمعت شجاعتي في النهاية لأعود للغرفة ,
            وجدت استيلا تجلس على ركبة الآنسة هافيشام .
            بعد ذلك لعبت الورق مع استيلا كسابق عهدنا ,
            وبذلك انتقضت الأمسية , فذهبت للنوم.
            قبل أن نغادر في اليوم التالي , لم يتجدد الشجار بين
            الآنسة هافيشام واستيلا , ولم يتجدد في أي مناسبة مماثلة .
            يعتذر علي قلب هذه الصفحة من حياتي دون أن أذكر
            فيها اسم بانتلي درامل , وإلا كنت في منتهى السعادة .
            ففي ذات مناسبة , حين كنت أنا وهربرت مجتمعين
            مع بعض الأصدقاء في نادينا , تراءى لي أنني
            رأيت بانتلي ينظر باستهزاء نحوي بطريقة مشينة ,
            وما لبث أن عرض على الحاضرين نخب استيلا .
            سألت : " استيلا من ؟ "
            فأجاب درامل : " لا عليك . "
            قلت : " استيلا من أين ؟ "
            " من ريتشموند أيها السادة , ذات الجمال الفريد . "
            فقال هربرت عبر الطاولة بعد أن شُرب النخب :
            " أعرف تلك السيدة . فقال درامل : " حقاً ! "
            قلت مضيفاً وقد احمر وجهي : " وكذلك أنا . "
            قال درامل : " حقاً ! يا إلهي ! "


            أثارت هذه الإهانة غيظي فدعوته بالإنسان الوقح
            على التجرؤ بشرب نخب فتاة لا يعرف عنها شيئاً ,
            وأفصحت عن استعدادي للمبارزة معه : لكن الحضور
            قرروا أنه في حال أحضر درامل شهادة من السيدة
            تفيد أنه يحمل شرف معرفتها , فسيتوجب علي الاعتذار له
            بصفتي سيداً , نظراً لأنني فقدت صوابي .
            وفي اليوم التالي جاء درامل يحمل اعترافاً موجزاً بخط استيلا ,
            يفيد أنها حازت شرف الرقص معه عدة مرات ,
            مما لم يترك لي أي خيار سوى الاعتذار له .
            يعجز لساني بالتعبير عن الألم الناشئ عن التفكير بأن
            استيلا تبدي إعجابها بمثل هذا الإنسان الحقير الأخرق .
            لذا اغتنمت أول فرصة للقائها في حفل في ريتشموند
            ومفاتحتها حول هذا الموضوع ــ وكان درامل بين الحاضرين .
            قلت : " استيلا , أنظري إلى ذاك الرجل في الزاوية لذي ينظر إلينا . "
            قالت استيلا : " لماذا أنظر إليه ؟ وما المثير فيه لأنظر إليه ؟ "
            قلت : " ذلك السؤال بالذات الذي أريد توجيهه إليك .
            فما زال يحوم حولك طيلة الليل . فأجابت استيلا وهي ترمقه بنظرها :
            " أن ألعث وسائر المخلوقات الكريهة تحول حول الشمعة المضاءة ,
            فهل يسع الشمعة القيام بشيء ؟ " كلا , لكنني أشعر بالخزي يا استيلا
            إذ تشجعين رجلاً مقيتاً للغاية مثل درامل . رأيتك تمنحينه
            نظراتك وابتساماتك هذه الليلة بالذات , كما لم تمنحينيها أبداً . "
            قالت استيلا : " وهل تريدني إذن أن أخدعك وأوقع بك ؟ "
            وهل تخدعينه وتوقعين به يا استيلا ؟ "
            " أجل , وبالكثيرين غيره ـ جميعهم ما عداك .
            ها هي السيدة براندلي مقبلة , لن أقول أكثر من ذلك . "

            الفصل الثاني والعشرون

            الزيارة المربكة


            بلغت الثالثة والعشرين , وكنا تركنا نزل برنارد
            منذ أكث من سنة وسكنا في (( التامبل )) ,
            وكانت غرفنا في (( الغاردن كورت )) بجانب النهر .
            وقد دفع العبرحلة لهربرت إلى مرسيليا , فبقيت بمفردي .
            افتقدت وجه صديقي المرح وعشرته , فجلست أقرأ
            حتى الحادية عشرة . وما أن أغلقت الكتاب حتى
            سمعت وقع أقدام على الدرج .



            بيب يسمع خطوات على السلم

            حملت قنديل القراءة
            وخرجت إلى أعلى الدرج .ناديت وأنا أنظر إلى
            الأسفل : " يوجد شخص في الأسفل , أليس كذلك ؟
            أجل . أي طابق تريد ؟ " الأعلى , أريد السيد بيب
            " ذلك اسمي . صعد الرجل , ومن خلال ضوء
            مصباحي رأيت وجهاً غريباً علي , كان ينظر إلي
            بتأثر وفرح لرؤيتي .وفيما حركت المصباح مع
            إقبال الرجل , تبين لي أنه يرتدي كالمسافرين في البحر.
            كان شعره طويلاً رمادي اللون وكان يبلغ نحو
            الستين من العمر . قوي البنية , وقد اسمر جلده
            واشتد بسبب تعرضه لعوامل الطقس . ولما صعد
            الدرجة أو الدرجتين الأخيرتين , رأيته يمد كلتا
            يديه نحوي . فقلت : " أرجوك ما هو غرضك ؟
            كرر : " غرضي ؟ " ثم قال : " آه ! أجل .
            سأشرح غرضي إذا سمحت . وهل تود الدخول ؟
            فأجاب : " نعم أود الدخول . "
            أدخلته الغرفة التي كنت غادرتها لتوي , وطلبت
            إليه التعريف عن نفسه . نظر حوله بفرح وكأن له
            نصيباً من الأشياء التي يتطلع إليها , ثم خلع
            معطفه وقبعته الخشنة ومد يده إلي ثانية , فقلت وأنا
            أشك تقريباً بأنه مجنون : " ماذا تقصد ؟ "
            جلس على كرسي قرب الموقد وغطى جبينه بيديه
            السمراوتين الكبيرتين , ثم قال وهو ينظر من فوق
            كتفه : " ما من أحد هنا , أليس كذلك ؟ "
            فقلت : " لماذا تسأل هذا لسؤال وأنت غريب جاء
            إلى منزلي في هذا الوقت من الليل ؟ "



            وصل رجل غريب ..

            تعليق


            • #66
              أجاب وهو يهز رأسه إلي بمحبة : " أنت شاب شجاع ,
              إنني مسرور لأنك نشأت شاباً شجاعاً !
              لا تسيء إلي , فستندم لاحقاً إن فعلت . "
              أقلعت عن نيتي التي أفصح عنها , فقد كنت أعرفه
              عرفت المجرم صاحبي , إذ لم يكن بحاجة ليخرج
              المبرد من جيبه ويريني إياه . لم يكن بحاجة
              ليتناول المنديل من جيبه ويلفه حول رأسه .
              تذكرته حتى قبل أن يقدم لي هذه الأدلة .
              عاد إلى حيث كنت واقفاً , ومد لي ذراعيه مرة
              أخرى . لم أعرف ماذا أفعل , فمددت له يدي على
              مضض , فأمسك بهما ورفعهما إلى شفتيه ثم قبلهما
              , ثم قال : " لقد تصرفت بنبل يا ولدي .
              بيب النبيل ! ولم أنس ذلك أبداً . "
              كان على وشك أن يغمرني , لكنني أبعدته وقلت :
              " إبق بعيداً ! إن كنت ممتناً لما فعلته عندما كنت
              طفلاً صغيراً , فحبذا لو أظهرت امتنانك بتقويم
              سبيلك في الحياة . إنك مبتل وتبدو مرهقاً ,
              هل تشرب شيئاً قبل رحيلك ؟ "
              قال بلى , فحضرت له بعض الرم والماء الساخن
              وقدمته إليه , فوجدت لدهشتي عيناه مغرورغتان
              في الدموع . لانت مشاعري حيال ذلك فأسرعت
              أسكب لنفسي بعض الشراب ,



              لقد حققت نجاحا كبيرا

              وقلت له : " آسف
              لأنني تحدثت إليك بخشونة الآن . آمل أن تكون
              سعيداً وعلى ما يرام . كيف تعيش ؟ "
              فقال : " اشتغلت بتربية الخراف وتربية الماشية ,
              إلى جانب بعض التجارة , بعيداً في العالم الجديد "
              " وهل حققت النجاح كما آمل ؟ "
              " لقد حققت نجاحاً باهراً . "
              " يسرني سماع ذلك . "
              " هل لي أن أتجرّأ بسؤالك كيف حققت النجاح منذ
              تقابلنا في المستنقعات ؟ "
              بدأت أرتجف , وحملت نفسي على إخباره بأنه
              قد تم اختياري لوراثة إحدى الممتلكات .
              " هل لي أن أسأل ممتلكات من ؟ " لست أدري .
              " هل لي أن أخمن مقدار دخلك بعد أن بلغت
              الحادية والعشرين ؟ والآن بالنسبة للرقم الأول ,
              خمسة ؟ وبالنسبة للوصي , لعله أحد المحامين .
              والآن إلى أول حرف من اسم المحامي هو حرف
              ( ج ) ؟ لعله جاغرز ؟ "
              ثم أخبرني لدهشتي بأنه هو المحسن إلي , وأنه
              عبر البحر إلى بورتسماوث وحصل على عنواني
              من ويميك . لقد جعل مني سيداً ! لقد عاش حياة
              خشنة كي أعيش حياة رقيقة . وعمل بجد كي أترفع
              عن العمل .



              لقد جعلت منك " جنتلمان " ..

              ركع أمامي ودعاني ابنه , لقد عمل
              راعياً مأجوراً وأقسم أن كل جنيه يكسبه سيكون لي
              . ثم توفي سيده وترك له المال , فحظي بالحرية
              وعمل لحسابه فاغتنى وجعل مني سيداً .
              وضع يده على كتفي , فارتجفت للفكرة التي
              أعرفها جيداً , فلعل يده ملطخة بالدم .. ثم سألني :
              " أين ستضعني ؟ يجب أن أُوضع بمكان ما يا ولدي . "
              قلت : " ألتنام ؟ "
              أجاب : " أجل , لأنام طويلاً وبارتياح,فقد تقاذفني
              البحر وأرهقني شهوراً طويلة. "
              قلت : " إن صديقي وشريك منزلي غائب , عليك
              بغرفته . " لن يأتي غداً , على ما أرجو . "
              قلت : " لا , لن يأتي غداً . "
              " أنظر يا بني العزيز , أقول هذا لأن الحذر ضروري . "
              " وماذا تقصد بالحذر ؟ "
              " إنه الموت , لقد حكم علي بالسجن مدى الحياة ,
              والموت هو لمن يعود . "
              كان همي الأول إغلاق مصاريع النوافذ لكي لا
              يتسرب الضوء من الداخل , ثم إغلاق الأبواب
              وإقفالها . فأعرته بعض البياضات , وآوى إلى
              الفراش .
              جلست بجانب الموقد أخشى الذهاب إلى فراشي ,
              وبقيت ساعة أو أكثر في ذهول لا أستطيع التفكير
              ؛ ولم أدرك تماماً , إلا حينما بدأت التفكير , كم
              كنت محطماً , وأن السفينة التي أبحرت على متنها
              أصبحت أشلاء . "
              نوايا الآنسة هافيشام نحوي , مجرد حلم , استيلا
              لم تكن من نصيبي ؛ فلم يبق لي سوى المعاناة في
              (( الساتيس هاوس )) لمثابة جزاء لعلاقات الجشع
              . تلك كانت أولى الآلام التي عانيت منها . لكن
              الألم الأشد والأعمق كان أنني هجرت جو وبيدي
              من أجل المجرم المتهم بجرائم لا أعرفها
              والمعرض للشنق .

              تعليق


              • #67
                الفصل الثالث والعشرون

                الحقيقة البغيضة

                أمضيت ليلة مفعمة بالقلق وأنا أغط قبالة الموقد .



                وتبددت الاحلام فى لهيب المدفأه

                استيقظت في السادسة ثم سهوت ثانية وغرقت بنوم عميق ,
                أيقظني منه ضوء النهار بإجفال . اغتسلت وارتديت ملابسي
                وجلست قرب الموقدة أنتظر قدومه لتناول الفطور .
                وما لبث أن فتح الباب ودخل , لم أستطع حمل نفسي على
                تحمل مظهره , وبدا لي أن مظهره أسوأ من ضوء النهار .
                أخبرني بأنه انتحل اسم بروفيس على متن الباخرة ,
                ولكن اسمه الحقيقي هو آبل ماغويتش .
                بعد الفطور ـ وقد تناول طعامه بشراهة ـ راح يدخن غليونه ,
                ثم أخرج محفظة مكتنزة من جيبه تعج بالأوراق المالية ,
                وألقى بها على الطاولة ." هناك ما يستحق الإنفاق
                في هذه المحفظة , يا ولدي العزيز . إنه لك .
                إن كل ما بحوزتي ليس لي , بل هو لك . "



                ماجويتش يصر على اعطاء النقود لبيب

                فقلت : " أود التحدث إليك . أود معرفة ما ينبغي القيام به .
                أود معرفة السبيل إلى تجنيبك الخطر . "
                قال : " حسناً يا ولدي العزيز , الخطر ليس بكبير ,
                إلا إذا وشى أحدهم بي . " وكم ستبقى هنا ؟ "
                " كم سأبقى ؟ لست بعائد , لقد جئت لأبقى هنا . "
                قلت : " وأين ستقيم ؟ وماذا نفعل بك ؟ أين ستكون آمناً ؟ "
                أجاب : " يا بني , هناك شعور مستعارة للتنكر ,
                ومساحيق للشعر ونظارات وملابس سودء ـ أما بالنسبة إلى
                أين وكيف سأعيش , فأعطني رأيك . "
                بدا لي بأنني لن أستطيع سوى أن أجد له مسكناً هادئاً
                يمتلكه بالجوار حين يعود هربرت الذي أتوقع رجوعه
                بعد يومين أو ثلاثة , أما الإفضاء بالسر إلى هربرت ,
                فكان أمراً واضحاً بالنسبة لي .
                أقنعت بروفيس أن يتخذ لباس مزارع غني ,
                وتدبرنا أن يحلق شعره قصيراً مع إضافة بعض المسحوق عليه .
                وكان عليه الابتعاد عن أنظار خدمي إلى أن يتم تجهيز ملابسه .
                كنت محظوظاً حين أمنت له الطابق الثاني من مبنى
                محتوم للسكن في الجوار , ورحت أنتقل من متجر لآخر
                أشتري الملابس الضرورية , فارتداها في اليوم التالي .
                لكن مهما كانت الثياب التي يرتديها , فقد كات أقل ملاءمة
                مما كان يرتديه في السابق . وباعتقادي , فإن فيه شيئاً ما
                يجعل من محاولة إخفاء ملامحه أمراً يائساً .
                فقد كان يجر أحد ساقيه وكأنها ما تزال مثقلة بالحديد .
                زد على ذلك , فإن عيشة الأكواخ المنعزلة التي
                قضاها سابقاً أضفت عليه جواً من الفضاضة يتعذر
                على الثياب تلطيفه , وفي كل طرقه بالجلوس والأكل
                والشرب كانت هناك شخصية السجين والمجرم واضحة أشد وضوح .


                كنت أتوقع وصول هربرت طول الوقت , ولم أكن أجرؤ على
                الخروج إلا حين أصطحب بروفيس للتنزه بالهواء الطلق
                بعد حلول الظلام , وأخيراً سمعت ذات يوم خطوات
                هربرت السارة على السلم , جاء باندفاع
                مفعماً بالنشاط من رحلته إلى فرنسا .
                " هاندل , يا عزيزي , كيف حالك , وكيف حالك من جديد ؟
                يبدو كأنني تغيبت طوال سنة كاملة ! لا شك في ذلك ,
                فقد غدوت في غاية الشحوب والنحول ! هاندل , يا هالو ! عفواً . "
                قلت وأنا أغلق الباب : " هربرت , يا صديقي العزيز ,
                لقد حدث شيء غريب جداً .هذا أحد زواري . "
                تقدم بروفيس يمسك بانجيل أسود صغير أخرجه من جيبه وقال :
                " لا عليك يا عزيزي . أمسكه بيدك اليمنى .
                قتلك الله على الفور إن خدعتني . قبله . "
                فقلت لهربرت : " إفعل ذلك , كما يريد .
                " فأذعن هربرت وهو ينظر إلي بدهشة وقلق حميم .
                ثم جلسنا جميعاً قرب الموقد , وأفضيت بالسر كاملاً .
                جلسنا حتى وقت متأخر , وحل منتصف الليل قبل أن أصطحب
                بروفيس إلى مسكنه وأطمئن عليه . وحين أغلق الباب وراءه ,
                شعرت بأول لحظة ارتياح عرفتها منذ ليلة وصوله .

                تعليق


                • #68
                  حين عدت إلى شقتي , جلست مع هربرت للبحث بالسؤال التالي :
                  ماذا ينبغي القيام به ؟ فقلت : " هربرت , لابد من القيام بعمل ما ,
                  فهو مصمم على مصاريف جديدة شتى , جياد وعربات وغيرها
                  من الأمور الباهظة . لا بد من إيقافه بطريقة ما . "
                  " تعني أنه لا يسعك أن تقبل . "
                  فقاطعنه حين تمهل وقلت : " وكيف يسعني ذلك ؟ تصور !
                  أنظر إليه ! تصور الحياة التي عاشها ! "
                  سرت بنا رعشة , وقلت : " لكنني أخشى يا هربرت
                  أن الحقيقة البغيضة هي أنه مرتبط بي , مرتبط بي بشدة .
                  هل هناك ما يشبه هذا الحظ ! ثم تصور كم أنا مدين له .
                  إني مثقل بالدين ـ وهو دين ثقيل جداً علي ,
                  في وقت ليست لدي فيه أية آمال ـ ولم أُعَدُّ لأي مهنة ,
                  ولا أصلح لشيء باستثناء أن أكون جندياً . "
                  أجاب هربرت : " الجندية لن تفيد .. لأنك لن تستطيع أن
                  تسدد دينك له , ثم إنها شيء تافه , لعلك تكون أفضل بكثير
                  في مؤسسة كلاريكر , رغم صغرها .
                  إنني أعمل كي أصبح شريكاً , كما تعلم . "
                  يا لصاحبي المسكين ! فليس لديه أدنى علم بمال من .
                  ثم تابع هربرت يقول : " لكن الأمر الأول والأساس
                  الذي يجب القيام به هو إخراجه من إنكلترا .
                  سيكون عليك الذهاب معه , ومن ثم يصار إلى إقناعه بالذهاب . "
                  جاء في اصباح التالي لتناول الفطور , فسألته أن يخبرنا
                  المزيد عن نفسه وعن المجرم الآخر الذي تعارك معه في المستنقعات .
                  وافق على ذلك بعد أن ذكّر هربرت بأنه ملزم باليمين
                  الذي أقسمه بكتمان السر



                  هربرت يقسم على حفظ السر

                  وهذا باختصار ما أخبرنا به :
                  " لا أذكر أين ولدت أكثر مما تذكران ,
                  كان أول عهدي بنفسي في إسكس , أسرق اللفت لأعيش .
                  لم يرني أحد جائع رث الثياب إلا وطردني أو ألقى القبض علي .
                  أدخلت السجن عدة مرات حتى اعتدت عليه , فعشت فعلياً في السجن .
                  مارست التسكع والتسول والسرقة , وعملت أحياناً
                  حين كان يتاح لي , سارقاً للطيور والدواجن مرة أخرى ,
                  وعاملاً كادحاً بمناسبة أخرى , ثم صائداً للطيور بواسطة الصقر ,
                  وفي أمور أخرى لا تكسب بل تؤدي إلى متاعب ـ
                  حتى بلغت سن الرجولة


                  ثم في سباق إبسوم , منذ أكثر من عشرين سنة ,
                  تعرفت على رجل لو عثرت عليه لحطمت رأسه بهذا القضيب .
                  اسمه الحقيقي كومبيسون , ذلك هو الرجل يا عزيزي بيب ,
                  الذي شاهدتني أتعارك معه في المستنقعات . حاول كومبيسون
                  هذا أن يكون سيداً , والتحق بمدرسة حكومية داخلية حيث تلقى التعليم .
                  كان لطيفاً في حديثه وبهي الطلعة أيضاً . أقنعني بأن
                  نتشارك في نشاطه بالاحتيال والتزوير وتسريب الأموال المسروقة ,
                  إلى ما شابه ذلك . فكافة أنواع الحيل التي يدبرها رأسه ,
                  دون أن يقع في أسرها وينال فيها الأرباح فيما يدخل غيره السجن بسببها
                  تلك كانت أعمال كومبيسون , لم يكن لديه قلب أكثر من مبرد حديد ,
                  وكان بارداً كالموت , وحاذقاً كالشيطان .وسرعان ما انهمكنا بالعمل ,
                  واستدرجني لشباكه لأعمل عبداً له.
                  كنت مديناً له على الدوام , وكنت أعمل رهن إشارته ,
                  وأشتغل لصالحه وأعرض نفسي دائماً للخطر . في نهاية الأمر ,
                  ألقي القبض علينا بتهمة تسريب الأموال المسروقة ,
                  إضافة إلى تهم أخرى سابقة . لكن المحلفون أوصوا
                  بالرأفة بـ كومبيسون نظراً لحسن سلوكه ورفقته السيئة ,
                  والتخلي عن كافة المعلومات التي كانت ضدي .
                  فحكم عليه بالسجن سبع سنوات , وأنا حكم علي بأربعة عشر سنة . .

                  تعليق


                  • #69
                    كنا في سفينة الاعتقال ذاتها , لكنني لم أستطع الوصول إليه لمدة طويلة ,
                    رغم محاولتي ذلك . أخيراً جئت خلفه وضربته على خده لأديره
                    وأنهال عليه بضربة ساحقة ، حين رأوني وألقوا القبض علي ,
                    تدبرت أمر الهروب من السفينة واختبأت وسط القبور
                    بالقرب من الشاطئ , وهناك شاهدت فتاي للمرة الأولى !
                    ومنك يا بني علمت أن كومبيسون طليق أيضاً في المستنقعات .
                    أظن أنه فر خوفاً مني دون أن يعلم بأنني خرجت إلى الشاطئ ,
                    فطاردته حتى ألقيت به أرضاً وهشمت وجهه . لم أهتم لنفسي ,
                    بل قررت جره إلى سفينة الإعتقال كأسوأ تدبير ألحقه به ,
                    حين قدم الجنود وقبضوا علينا سوياً , قُيِّدت بالحديد
                    وجرت محاكمتي ثانية , فحكم علي بالسجن مدى الحياة ,
                    لم أبق هناك مدى الحياة يا ولدي العزيز ويا صديق بيب العزيز ,
                    فها أنذا . سألت بعد فترة صمت : " هل توفي ؟
                    " كن على يقين بأنه يأمل أن أكون أنا الذي توفيت ,
                    هذا إن كان على قيد الحياة . لم أسمع عنه شيئاً أبداً .
                    كان هربرت يكتب على غلاف كتاب ,
                    فدفعه خلسة نحوي فيما وقف بروفيس يدخن
                    وعيناه تحدقان بالنار , فقرأت ما يلي :
                    " كومبيسون هو الذي تظاهر بأنه عشيق الآنسة هافيشام . "
                    أغلقت الكتاب وهززت رأسي لهربرت , لكننا لم نتفوه بأي كلمة ,
                    ورحنا ننظر إلى بروفيس وهو يدخن قرب الموقدة .

                    الفصل الرابع والعشرون

                    الخطوة المميتة


                    قررت أن أرى استيلا والآنسة هافيشام أن أسافر مع
                    بروفيس إلى الخارج . فذهبت إلى ريتشموند في اليوم التالي ,
                    لكن الخادمة أخبرتني بأن استيلا ذهبت إلى ساتيس هاوس .
                    انطلقت باكراً في الصباح التالي إلى المدينة ,
                    وحين وصلت العربة إلى البلو بور , رأيت بنتلي درامل خارجاً ,
                    وانزعجت كثيراً لرؤيته في المدينة لأنني
                    أدرك تماماً سبب مجيئه إلى هناك .
                    دخلنا المقهى معاً , حيث انتهى من فطوره وطلبت فطوراً لي .
                    كان لقاء مزعجاً للغاية , استدعى النادل وقال له :
                    " هل حصاني جاهز ؟ " جيء به إلى الباب سيدي . "
                    " أنظر , إن السيدة لن تركب اليوم , فالطقس غير مناسب . "
                    " حسناً , سيدي . " ولن أتناول الغداء هنا لأنني سأتغذي لدى السيدة . "
                    " حسناً سيدي . ثم رمقني درامل بنظرة ,
                    وبدا على وجهه تعبير انتصار أصابني في الصميم .
                    ولم يخيم علي الارتياح إلا حين خرج .
                    اغتسلت وارتديت ملابسي وذهبت إلى ساتيس هاوس ,
                    كانت الآنسة هافيشام جالسة قرب الموقدة ,
                    فيما كانت استيلا تجلس على وسادة عند قدميها وهي تعمل بالصوف.
                    أخبرت الآنسة هافيشام أنني اكتشفت هوية المحسن إلي ,
                    فاعترفت بأنها جعلتني أقع في اعتقاد أنها هي المحسنة إلي ,
                    قلت : " هل كان ذلك لطيفاً ؟ "
                    فصاحت الآنسة هافيشام وهي تضرب الأرض بعصاها
                    وتثور غضباً على حين غرة : " من أنا , من أنا ,
                    بالله عليك , لأكون لطيفة ؟ "
                    ثم التفتُّ إلى استيلا قائلاً : " استيلا , تعلمين بأنني أحبك ,
                    تعلمين بأنني أحببتك كثيراً منذ زمن بعيد . "
                    رفعت عينيها إلي لدى مخاطبتها هكذا ,
                    لكن أصابعها تابعت الشغل بالصوف ونظرت إلي بهدوء .
                    فقلت : " كان علي أن أقول ذلك من قبل ,
                    لولا أخطائي طويلاً بالاعتقاد أن الآنسة هافيشام كانت
                    تنوي تزويجنا من بعض , وفيما اعتقدت أنك لن تقوي
                    على مساعد نفسك,فقد أحجمت عن البوح بذلك,
                    لكن علي أن أقول ذلك الآن. "
                    هزت استيلا رأسها , فيما بقيت على هدوئها تتابع الشغل بالصوف .

                    تعليق


                    • #70
                      " أعرف , أعرف بأن لا أمل لي باعتبارك من نصيبي يا استيلا .
                      ما زلت أحبك . أحببتك منذ رأيتك في هذا البيت لأول مرة . "
                      نظرت إلي بهدوء تام فيما تابعت أصابعها العمل ,
                      وهزت رأسها ثانية ثم قالت بهدوء :
                      " يبدو أن هناك عواطف لا أستطيع فهمها .
                      فحين تقول أنك تحبني , أعرف ما الذي تعنيه لجهة التعبير ,
                      لكن ليس أكثر من ذلك . فأنت لا تخاطب شيئاً في صدري ,
                      ولا تلامس شيئاً هناك . إنني لا أكترث بأي شيء تقوله .
                      حاولت أن أنذرك بهذا , أليس كذلك ؟ "
                      فقلت بلهجة تعيسة : " بلى . "
                      " بلى , لكنك لم تتعظ , اعتقاداً منك بأنني
                      لا أعني ما أقول , والآن ألم تعتقد ذلك ؟"
                      " اعتقدت وكان أملي بألا يكون ذلك قصدك , فأنت صغيرة ,
                      وغير مجربة , وجميلة . استيلا ! ليس ذلك في الطبيعة , لا شك . "
                      " إنه من طبيعتي , إنه من الطبيعة التي تكونت بداخلي . "
                      ثم سألتها إن كانت حقاً تستحث بانتلي درامل , وتركب الجياد برفقته ,
                      وإن كان سيتناول الغداء معها في ذلك النهار بالذات .
                      لم تندهش كثيراً لمعرفتي بذلك , بل أجابت تقول : " هذا صحيح . "
                      " لا يمكن أن تحبينه يا استيلا ! "
                      " ماذا قلت لك ؟ هل ما زلت تعتقد , رغم ذلك بأنني لا أعني ما أقول ؟ "
                      " لن تتزوجينه أبداً يا استيلا . "
                      نظرت استيلا نحو الآنسة هافيشام , ثم تأملت لحظة
                      وشغل الصوف يديها , وقالت : " ولم لا أخبرك بالحقيقة ؟ فأنا سأتزوجه . "
                      وضعت وجهي بين يدي , لكنني استطعت تمالك نفسي
                      أكثر مما توقعت , نظراً لعذابي الذي سببه سماعي الكلمات التي قالتها .
                      " استيلا , عزيزتي , عزيزتي , لا تدعي الآنسة هافيشام
                      تدفع بك إلى هذه الخطوة المميتة . ضعيني جانباً إلى الأبد
                      وقد فعلت ذلك , لكن امنحي نفسك لشخص يستحقك
                      أكثر من درامل . فالآنسة هافيشام تمنحك له كأعظم إهانة
                      وتجريح يصيب رجالاً أفضل منه ممن هم معجبون بك ,
                      ويصيب القلة الذين يحبونك . "
                      قالت بصوت ألطف : " سوف أتزوجه ,
                      فالتحضيرات لزفافي قيد الإنجاز , وسأتزوجه في القريب العاجل .
                      لماذا تذكر اسم والدتي بالتبني بأسلوب التجريح ؟ أنا التي قمت بذلك . "
                      " قمت بذلك يا استيلا , لترمي بنفسك على شخص متوحش ؟
                      مثل هذا المتوحش الحقير الأحمق . "
                      فقالت استيلا : " لا تخشى أن أكون نعمة عليه . فلن أكون كذلك .
                      اقترب ! هذه يدي , فهل نفترق على ذلك أيها الفتى ـ أو الرجل ـ الخيالي ؟ "
                      أجبتها ودموعي المريرة تتدفق عل يديها : " أوه يا استيلا ,
                      كيف أستطيع أن أراك زوجة درامل ؟ "



                      استيلا تعلن خطه زواجها

                      أجابت : " هراء هراء , فهذا سيزول بلمح البصر . "
                      " أبداً يا استيلا . "
                      " ستخرجيني من أفكارك في أسبوع . "
                      " من أفكاري ! بل أنت جزء من وجودي ,
                      جزء من نفسي . أوه , ليباركك الله , ليسامحك الله !


                      انتهى كل شيء ومضى ! انتهى الكثير وولى , حتى أنني حين خرجت من البوابة , بدا ضوء النهار أغمق لوناً مما كان عندما دخلت . سرت الطريق كله إلى لندن , إذ لم أستطع العودة إلى المنزل ورؤية درامل . ولم أستطع تحمل الجلوس في العربة ليوجه إلي الحديث .
                      كان الوقت تجاوز نصف الليل حين عبرت جسر لندن .
                      وحين وصلت بوابة منزلي , سلمني الحارس الليلي
                      ورقة وأخبرني أن حامل الرسالة الذي جاء بها يرجوني
                      قراءتها على ضوء القنديل .
                      أخذت الرسالة وقد دهشت كثيراً لهذا الطلب .
                      فتحتها فيما كان الحارس يمسك بقنديله ,
                      وقرأت ما بداخلها بخط ويميك : " لا تذهب إلى البيت . "



                      يتبع

                      تعليق


                      • #71
                        الفصل الخامس والعشرون

                        تدابير السلامة


                        استأجرت عربة واتجهت إلى فندق في (( كوفنت غاردن ))
                        حيث أمضيت الليلة هناك . وباكراً في الصباح التالي ,
                        ذهبت لرؤية ويميك في منزله . رحب بي وشرح لي السر .
                        فقد سمع في سجن نوغايت أن بروفيس هو عرضة للشك ,
                        وأن شقتي في الغاردن كورت وضعت قيد المراقبة ,
                        فاعتبر أن من الضروري إعلامي بذلك , واكتشف كذلك أن
                        كومبيسون كان في لندن , فرأى أن من الأسلم أن يبقى
                        بروفيس مختبئاً في لندن بعض الوقت ,
                        وألا يحاول السفر قبل أن يخف البحث عنه .
                        وحين لم يجدني في المنزل , ذهب إلى هربرت
                        لدى كلاريكر واتفقا بينهما على تدابير مرضية لتأمين
                        سلامة بروفيس , فأسكنوه مؤقتاً في طابق أعلى مفروش
                        قريباً من النهر حيث تسكن كلارا صديقة هربرت
                        مع والدها المريض . كانت خطة جيدة ,



                        ويميك لديه اخبار هامه

                        كما أخبرني ويميك لأسباب ثلاث .
                        أولاً , المنزل بعيد عن مسكني , ولن يبحث أحد ني هناك .
                        ثانياً , يمكنني الاطمئنان على سلامة بروفيس
                        من خلال هربرت , دون الذهاب إلى هناك شخصياً .
                        ثالثاً , حين يصبح من الأمان نقله على متن سفينة أجنبية ,
                        فسيكون هناك على أتم الاستعداد .
                        جعلني ذلك أشعر بسعادة أكثر , فشكرت ويميك مراراً وتكراراً ,
                        ثم نصحني بالبقاء في منزله إلى أن يحل الظلام ,
                        وتركني أستمتع برفقة والده العجوز .
                        وحين حل الظلام , خرجت أبحث عن مكان يسمونه :
                        (( ميل بوند بانك )) . وبعد أن ضللت الطريق عدة مرات
                        اهتديت إليه بالصدفة . قرعت الباب ففتحت لي الباب
                        امرأة مسنة بهية الطلعة , وما لبث أن جاء هربرت
                        واصطحبني بصمت إلى غرفة الستقبال ,
                        ثم قال : " كل شيء على ما يرام يا هاندل ,
                        وهو راضٍ جداً رغم توقه لرؤيتك ,
                        فتاتي العزيزة مع والدها ( سمعته يصيح في الطابق الأعلى ) ؛
                        فإن انتظرت حتى تهبط فسأعرفك عليها , ثم نصعد إلى بروفيس . "
                        وفيما نحن نتحدث بنبرة هادئة , انفتح باب الغرفة
                        ودخلت فتاة نحيلة جميلة للغاية , سوداء العينين ,
                        تبلغ نحو العشرين , تحمل سلة بيدها .
                        أخذ هربرت منها السلة بحنان وقدمها لي باسم كلارا .
                        قال : " أنظر , ها هو عشاء كلارا , يقدمه والدها كل ليلة .
                        فهو يصر على الاحتفاظ بجميع المؤن في غرفته وتقديمها بنفسه . "

                        تعليق


                        • #72
                          كان بروفيس يسكن في غرفتين في الطابق الأعلى ,
                          فلم يعبر عن أي خوف ولا ظهر أنه يشعر بذلك ,
                          أخبرته كيف سمع ويميك في سجن نيوغايت بأن الشكوك تحوم حوله ,
                          وأن شقتي مراقبة , وأن ويميك نصح بإخفاءه لبعض الوقت ,
                          وببقائي بعيداً . وأضفت أنه عندما يحين موعد سفره ,
                          فسأذهب معه أو أتبعه عن كثب , حسب ما تقتضيه السلامة .
                          ثم قدم هربرت اقتراحاً جيداً , فقال :
                          " كلانا يجيد قيادة المراكب يا هاندل ويمكننا عبور النهر
                          عندما يحين الوقت المناسب . ألا تعتقد أن من الأفضل
                          لو بدأنا الآن بالاحتفاظ بقارب ومارسنا عادة التجديف
                          في النهر ذهاباً وإياباً ؟ وحين تكون لك تلك العادة ,
                          من سيلاحظ أو يكترث بذلك ؟ "
                          أعجبتني خطته , وكذلك بروفيس , فاتفقنا على تنفيذها .
                          كما اتفقنا على أن يسدل بروفيس ستارة نافذته المشرفة
                          على النهر كلما رآنا قادمين في قاربنا وأن الأمور تسير
                          بشكل صحيح . ثم تمنينا له ليلة سعيدة وغادرناه .
                          حين استأذنت مغادراً الفتاة اللطيفة الجميلة
                          ذات العينين السوداوين , والمرأة الحنونة
                          التي تعيش في بيتها , فكرت باستيلا وبفراقنا ,
                          فذهبت إلى البيت في حزن عميق .



                          بيب يشترى قاربا

                          حصلت على القارب في اليوم التالي ,
                          فجيء به إلى سلم التامبل , وأرسي بحيث أستطيع
                          الوصول إليه خلال دقيقة أو دقيقتين .
                          ثم بدأت أخرج للتدب والتمرين , بمفردي أحياناً ,
                          وأحياناً برفقة هربرت , فلم يلاحظني أحد كثيراً
                          بعدما خرجت بضعة مرات . في البداية , لم أجدف بعيداً ,
                          لكن سرعان ما رحت أبتعد إلى ميل بوند بانك .
                          وكان هربرت يرى بروفيس ثلاث مرات على الاقل في الأسبوع ,
                          ولم يحمل إلي أية أخبار مقلقة . لكنني بقيت
                          أعلم بأن هناك سبب للخوف , ولم يسعني التخلص من
                          فكرة أنني مراقباً , إنما لم يكن بالمستطاع فعل شيء ,
                          سوى انتظار إشارة من ويميك .

                          تعليق


                          • #73
                            الفصل السادس والعشرين

                            منذ عشرين سنة

                            في أحد الأيام بينما كنت أمشي ببطء قبل الغداء ,
                            التقيت بالسيد جاغرز ودعاني لتناول الغداء معه
                            في منزله في شارع جيرارد . كنت على وشك
                            الاعتذار عندما قال أن ويميك سيأتي , قبلت الدعوة
                            وذهبنا سوياً إلى مكتبه حيث أنهى عمل اليوم , ثم
                            اصطحبنا ويميك واستقلينا عربة إلى منزل السيد
                            جاغرز .ما أن وصلنا هناك حتى قدم الغداء .
                            فلفتت انتباهي مدبرة المنزل , امرأة في الأربعين ,
                            وكنت قد رأيتها في منزل جاغرز في زيارة سابقة
                            . كانت طويلة في غاية الشحوب , ولها عينان
                            كبيرتان متعبتان , وشعر غزير كثيف . في هذه
                            المناسبة , كانت تضع طبقاً على الطاولة عند كوع
                            سيدها حين خاطبها هذا قائلاً أنها بطيئة . لاحظت
                            حركة من أصابعها حين تكلمت معه . كانت حركة
                            تشبه الحياكة , وقفت تنظر إليه وهي لا تدرك إن
                            كان عليها الذهاب أو أن لديه مزيداً يقوله لها .
                            كانت نظرتها متلهفة , ولم أشك تماماً بأنني شاهدت
                            مثل هاتين العينين وهاتين اليدين , وفي مناسبة
                            جرت مؤخراً أذكرها جيداً .
                            صرفها فانسلت خارج الغرفة , لكن صورتها بقيت
                            أمامي بوضوح وكأنها ما تزال بشخصها هناك .
                            نظرت إلى تلك اليدين , نظرت إلى تلك العينين ,
                            نظرت إلى الشعر الغزير , وقارنتها بعينين ويدين
                            وشعر آخر أعرفه , وبما يمكن لهذه أن تكونه بعد
                            عشرين سنة مع زوج متوحش وحياة عاصفة .



                            بيب يلاحظ الشبه الشديد

                            فشعرت تمام اليقين أن تلك الفتاة هي والدة استيلا .
                            بعد انتهاء الغداء , استأذنت مع ويميك بالخروج
                            باكراً وغادرنا سوياً . وفي الطريق , استوضحت
                            من ويميك ما يعرفه عنها . وهذا ما أخبرني به : "
                            منذ نحو عشرين سنة , اتُّهمت هذه المرأة بالقتل ثم
                            بُرئت ساحتها . كانت صبية في غاية الجمال ,
                            وأعتقد أن دماً غجرياً يجري في عروقها .



                            جاغرز يحصل على حكم ببراءتها

                            دافع السيد جاغرز عنها في المحكمة وتولى القضية
                            بشكل مذهل . كانت القتيلة امرأة تكبرها بعشر
                            سنوات , وتفوقها قوة بكثير . كانت مسألة غيرة .
                            وكان سبق لهذه المرأة أن تزوجت في سن مبكرة
                            من رجل متسكع . وجدت القتيلة في حضيرة ماشية
                            , حيث حصلت مقاومة عنيفة أو ربما قتال ,
                            وأصيبت بالكدمات والخدوش والتمزيق , ثم أمسك
                            برقبتها أخيراً وخنقت .



                            موللى تخنق منافستها

                            أما المتهمة فقد أصيبت بكدمة أو اثنتين , لكن
                            ظهري كفيها كانا ممزقين , والسؤال هو :
                            هل حصل ذلك بالأظفار ؟ لقد أظهر السيد جاغرز
                            أنها عبرت طريقاً شاقاً عبر أشواك كثيرة ,
                            وبالفعل فقد عثر على أشواك عالقة في جلدها .
                            كانت النقطة الأشد التي أتى بها هي التالية .
                            فقد اشتبهوا كثيراً بأنها عمدت في الوقت الذي
                            حصلت به الجريمة إلى قتل طفلتها من ذلك الرجل
                            ـ البالغة من العمر ثلاث سنوات ـ لكي تنتقم منه ,



                            وهددته بقتل الطفله

                            فقال السيد جاغرز في معرض الدفاع عنها :
                            " لستم تحاكمونها لأنها قتلت طفلتها , لم لا تفعلون
                            ذلك ؟ " وعلى العموم , فقد برع السيد جاغرز
                            على هيئة المحلفين فرضخوا له . "
                            " وهل هي تعمل لديه منذ ذلك الحين ؟ "
                            قال ويميك : " أجل . "
                            فسألته : " هل تذكر جمبس الطفل ؟ "
                            " قيل إنها فتاة . "تبادلنا تحية المساء ,
                            وذهبت إلى المنزل بمادة جديدة لأفكاري ,
                            رغم أنني لم أسترح من الأفكارالقديمة بعد .

                            تعليق


                            • #74

                              الانسه هافيشام تكتب الرساله

                              كانت الآنسة هافيشام قد بعثت إلي برسالة صغيرة
                              تفيد بأنها تود أن أجتمع بها بشأن قضية عمل ذكرتها لها .
                              فذهبت في اليوم التالي إلى ساتيس هاوس .
                              أما القضية المشار إليها فهي تتعلق بهربرت .
                              وقد سبق وأن أخبرتها بأنني أريد مساعدو صديق ,
                              لكنه لم يعد بوسعي متابعة ذلك لأسباب علي التكتم بها .
                              فسألتني عن مقدار المبلغ الذي أحتاجه , فقلت : " تسعمائة جنيه . "
                              فسألتني : " وهل يطمئن فكرك أكثر لو أعطيتك المال لهذه الغاية ؟ "
                              " سيطمئن أكثر بكثير . "
                              فكتبت إيعازاً إلى السيد جاغرز بأن يدفع لي المبلغ المطلوب .
                              كانت شديدة الندم للتعاسة التي سببتها لي ,
                              فشدت على يدي وبكت فوقها , ثم صاحت بيأس :
                              " آه , ما الذي فعلته ! ما الذي فعلته ! "
                              " إن كنت تقصدين ما فعلته في أذيتي , دعيني أجيب :
                              فعلت القليل القليل . فقد كنت سأحبها مهما كانت الظروف
                              وهل تزوجت ؟ " أجل . "



                              انكسر قلبى بسبب زواج ستلا

                              لم يكن السؤال ضرورياً , فالوحشة المستجدة في المنزل الموحش
                              أخبرتني بذلك . ثم قالت : " لو تعرف قصتي , لأشفقت علي , وتفهمتني . "
                              أجبتها : " أعرف قصتك يا آنسة هافيشام , وقد أثارت حزني العميق .
                              هل لي أن أسألك عن طفولة استيلا ؟ ابنة من هي ؟ "
                              هزت برأسها " ألا تعرفين ؟ "هزت برأسها .
                              " لكن هل السيد جاغرز هو الذي أحضرها
                              إلى هنا أم أرسلها إلى هنا ؟ " أحضرها إلى هنا . "
                              " هل لي أن أسأل كم كان عمرها آنذاك ؟ "
                              " سنتان أو ثلاثة , شخصياً إنها لا تعرف شيئاً ,
                              سوى أنها تُركت يتيمة فتبنيتها . "
                              اقتنعت تماماً بأن تلك المرأة هي والدتها ,
                              ولم يعوزني دليل لترسيخ هذه الحقيقة في ذهني .
                              لم أكن آمل تحقيق المزيد من تمديد الزيارة ؟
                              فقد نجحت في مسعاي من أجل هربرت ,
                              كما أن الآنسة هافيشام أخبرتني
                              بكل ما تعرفه عن استيلا , وهكذا افترقنا.

                              تعليق


                              • #75
                                الفصل السابع والعشرون

                                غيرة وانتقام


                                قام هربرت بعدة زيارات إلى المنزل المحاذي
                                للنهر حيث تقيم كلارا مع والدها بروفيس .
                                في إحدى الأمسيات , أخبرني قائلاً : " جلست مع
                                بروفيس ساعتين في الليلة الماضية يا هاندل .
                                أخبرني بالمزيد عن حياته . فتحدث عن امرأة كانت
                                له معها مشكلة كبيرة . كانت فتاة غيورة وتحب
                                الانتقام إلى أقصى درجة يا هاندل . "
                                " إلى أي درجة ؟ " القتل . "
                                " كيف قتلت ؟ ومن ؟ "
                                " امرأة أخرى أقوى منها , في حظيرة ماشية ,
                                حيث جرى عراك ووجدت الضحية مخنوقة , دافع
                                السيد جاغرز عن القاتلة , وكان لشهرة هذا الدفاع
                                من اسمه معروفاً بالدرجة الأولى لدى بروفيس . "
                                " وهل أدينت المرأة بالجرم ؟ "
                                " كلا , بل برئت ساحتها . ورزقت الصبية المبرئة
                                وبروفيس طفلة صغيرة كان بروفيس مولعاً بها
                                كثيراً . وعشية تلك الليلة بالذات حين خنقت التي
                                كانت تثير غيرتها , جاءت الصبية إلى بروفيس
                                وأقسمت أنها ستقتل الطفلة , وأنه لن يراها ثانية ,
                                ثم اختفت . " وهل نفذت المرأة قسمها ؟ "
                                " بالطبع يا ولدي لقد قال كل ذلك . عانت والدة
                                الطفلة مدة خمس سنوات من الحياة الأليمة التي
                                وصفها لنا , ويبدو أنه سعر بالإشفاق عليها , لذا
                                فخشية أن يستدعى للشهادة بشأن الطفلة المقتولة
                                ويكون سبباً في موت الأم , فقد أخفى نفسه بعيداً
                                عن الناس وعن المحاكمة , ولم يتطرق الناس إلى
                                ذكره سوى بأنه رجل يدعى آبل كان مثاراً للغيرة
                                لكنها اختفت بعد تبرئتها , وهكذا فقدت الطفلة ووالدتها .



                                كومبيسون يشهد ضد ماجويتش

                                أما الشرير كومبيسون , فحين علم بأنه
                                متخف حين ذاك , وبالأسباب التي تدفعه لذلك ,
                                احتفظ بالمعلومات كوسيلة لإفقاره وتشغيله في
                                الأعمال المضنية . وهل أخبرك متى حدث ذلك ؟
                                " منذ عشرين سنة تقريباً . "
                                " أنظر إلي يا هربرت , المسني , ألا تخشى بأنني
                                محموم ؟ " كلا يا ولدي العزيز , بل أنت مثار ,
                                لست سوى نفسك . " أعلم بأنني لست سوى نفسي
                                والرجل الذي يختبئ عند النهر هو والد استيلا . "

                                تعليق

                                مواضيع تهمك

                                تقليص

                                المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 06-08-2025 الساعة 11:33 PM
                                المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 06-04-2025 الساعة 05:29 PM
                                المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 05-31-2025 الساعة 10:07 PM
                                المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 05-30-2025 الساعة 11:48 PM
                                المنتدى: التصنيع والانتاج نشرت بواسطة: HaMooooDi الوقت: 05-30-2025 الساعة 09:36 AM
                                يعمل...
                                X