إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رسالة غرام فى زجاجة عطر

تقليص
هذا الموضوع مغلق.
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16








    «ولما أهدت إليه رسمها كتب إليها » :
    كنت ساعة أجلس للكتابة إليك،
    أراني كالمصور، غير أني أنقل من عالم في داخلي؛
    أما الآن ورسمك يملأ عيني، فقد أضيف إلى عالمي المضطرب
    بأخيلته الكثيرة عالم من الجمال الصافي،
    هو فوق ذلك كالسماء فوق الأرض: تحييها بالشمس والقمر،
    وهو من وراء ذلك كالآخرة وراء الدنيا: تطعمها بالجنة والخلد.




    ولكدت ولله يا حبيبتي أتخيل هذا الرق الموضوع أمامي
    يبرقُ بصورتك ويشرق بوجهك — نافذة سحرية فتحت
    بيني وبين عالم الجمال الأزلي فأطل فيها وجه حوراء
    من حُور الجنة ينظر إليّ وأنظر إليه،
    يحمله جسم خلق ليكون فتنة للجنة ذاتها،
    وكأنه بجماله ومعانيه حقائق ذلك النعيم جاءت تترجم
    لذة الخلود للنفس البشرية في بلاغة مصورة
    اختاروا لها رسمك أنت.



    وهل في الحسن أحسن من هذا الوجه
    الذي يرف على القلب بأندائه ويتلألأ بنضرته،
    حتى لكأنه خلق من نور الفجر،
    وكأن علامة الفجر فيه إنما هي هذا الروح
    الذي يحيط القلب من وجهك بمعانٍ كنسمات الصبح،
    عليلة من شدة الرقة، ذابلة من فرط الجمال،
    مملوءة من روح الندى بما يجعلها حول النفس
    كأنها جو من شعور حي فرح لا نسمات في الجوِّ.



    وجه منضر يفزع لروعة حسنه من يراه،
    كأن شيئًا بدعًا لم يكن ممكنًا فأمكن!
    أو كأن في حمرة خديه وشفتيه خمر القلب رؤيتها شرْبها،
    وفيها السكر بالجمال والنشوة بالهوى،
    فما هو إلا أن ينظر وجهك الناظر حتى يخالط قلبه.
    وعلى ما رأيت هذا الوجه الفاتن،
    فما رأيته من مرة إلا حسبتها أول مرة،




    وإني لألمح فيه سرٍّا عجيبًا
    يكون فقدان العبارة عنده هو أبلغ العبارة في وصفه؛
    إذ لا تتكلم روعة الحس بالجمال، وهي تنزل في صور الألفاظ،
    وإنما تغمز على القلب غمزة خافتة
    تشعر الناظر أن روح المنظر خامرت الروح،
    وأن حياة الشكل انسكبت في الحياة،
    وأن المعنى الغامض في السر اتصل بالمعنى الغامض في النفس.




    ويمثل هذا السر الذي يطالعني من جمال وجهك
    أصبح الجمال على الحقيقة هو علم أفراح النفس وأحزانها،
    وعاد الشخص الجميل المعشوق، وما هو بكل معانيه
    إلا الفن الفلسفي الكامل أتيح لنفس أخرى
    تحاول بالحب أن تكون كاملة.





    نتابع

    تعليق


    • #17






      ومن هذا السر يظل وجه الحبيب جديدًا على كل نظرة من محبه،
      وإن طال ترداد النظر وتكراره،
      كأن الوقت لا يمضي معه كما يمضي مع الأشياء،
      وكأن الحبَّ أبدية على قدر ما تحتمل الدنيا،
      ولذا فهو يضغط على القلب لا بالساعة ولا باليوم،
      بل يجثم بقطعة ضخمة من الزمن كأنها عمر كامل
      فرحها شديد شديد، وحزنها شديد شديد.




      سرعجيبت فكرت طويلًا كيف أسميه فلم يستوِ لي،
      وقد جلّ أن يقع معناه في كلمة،
      ولكني أسميه المعنى المتفرق المجتمع؛
      إذ هو بجملته ظاهر في الوجه كله،
      وهو بجملته أيضًا ظاهر على مقدار ذلك
      في كل موضع من قسمات وجهك ومعارفه،
      كأنه لا أجزاء له ولا جملة كأنه شيء أبدي،
      كأنه في وجهك تأله الحب




      ومن بعض هذا السر تلك الابتسامة الواقعة على ثغرك
      ترق فيها الروح مرة وتتكاثف مرة،
      حتى كأنها وهي في الرسم — لون روحي
      ظهر يتموج على شفتيك،
      فما أقلب فيه عيني إلا شعرت أن روحي تذوب فيه
      كما يتمازج لونان في السماء على الشفق الأحمر




      ومن بعضه هذه النظرة الحية
      التي تبعث في كل معنى من معانيك حياة،
      وتخلق منه لعيني فكرة أتلمحها فيه،
      نظرة ساحرة تجعلني أرى كل شيء في رسمك محدودًا،
      ومع ذلك أراك أنت غير محدود في شيء!
      كأن لك فيضًا من الجمال والسحر يستغرق العالم،
      ويغمر الكون، ولا يكتفي بما ينتهي دون ما لا ينتهي،
      أم كأنك أنت مجتلى هذا الفيض لعيني؛
      وكأنك وسيلة في اتصال روحي بروح الجمال الأزلي


      وماذا أقول في هذا الشكل المنسجم المتجاوب من كل نواحيه،
      إلا أنه القوة الرهيبة ظاهرة في ملمسها الناعم،
      والضعف المؤنث الذابل مسلحًا بأسلحة الفتنة،
      والسلطة القادرة اتخذت لها شكل الجمال فيك لتأمر وتنهى فينا.




      إنه الجمال أكبر من الجمال؛
      إذ كانت فيه القوة والفتنة والحب جميعًا،
      والجمال وحده من شأنه أن يُعجب، ولكنه فيه يُصبي ويُدله،
      وبذلك يُعجب ويفتن، وبذلك يتسلط مسوغًا الحق،
      وبذلك لا تكون له إلا الطاعة




      لا أرى غير هذا الشكل يأخذ بقلبي،
      ولكن أين أجد الكلام يستوعب كل ما في قلبي
      لأعطي كل معانيك الصوت واللغة؟
      وكيف لي أن أزعم أني وصفت التي تمتاز
      على الشمس والقمر بأن فيهما النور وحده،
      وفي وجهها النور الحي؟






      نتابع

      تعليق


      • #18





        بعد رسالته « البلاغة تتنهد »
        انقطعت عنه كتبها زمنها بحكم الدلال،
        أو كأنها تستغفر بالسكوت مما خطته …
        فكتب هذه الرسالة.




        وكم حار عشاقٌ ولا مثلَ حيرتى *** إذا شئت يوماً أن أسوء حبيبى
        وهل لى قلب غير قلبى يسوؤه *** ويأخذ لى فى الكبرياء نصيبى؟
        ألا ليت لى قلبين : قلب بحبه *** مريض، وقلب بعد ذاك طبيبى
        ويا ليت لى نفسين:من رئم روضة *** ألوف، ومن ذى لبدتين غضوب
        وكيف بقلب واحد أحمل الهوى *** عجيباً على طبعى وغير عجيب
        فوالله إن الحب خير محاسنى *** ووالله إن الحب شر عيوبى



        هذه رسالة لن أبعث بها،
        رسالة مني أنا وإليّ أنا،
        أكتبها اليوم لأقرأها غدًا،
        فقد — ولله— كاد هذا الحب يجعلني على اختلاف أيامه
        أشخاصًا مختلفين متناكرين،
        حتى إنه ليحتاج شخص الغد أن يتعرف ماذا كان خبر شخص الأمس؟
        أكتبها لنفسي، ومتى تنفس غد هذا اليوم النحاسي من فجره الذهبي،
        وأخذت تتسلى
        هموم يوم في يوم آخر،
        وضربت موجة من الزمن موجة أخرى فهزمتها إلى الساحل
        الذي تموت فيه الأمواج، ساحل النسيان المحيط ببحر الحوادث؛
        لتتكسر عليه أمواجها العاتية ضربة ضربة.
        ثم تنسحق وتتلاشى — فحينئذ أقرأ في رسالتي هذه
        تاريخ الألم الذي بلغ مني الغيظ،
        ودكَّ أطوادًا شامخة من الصبر كنت ألوذ بها في رمضاء الحب،
        حتى عادت ظلامًا كظلال الحصى لا تفيء إليها النملة …



        وأقرؤها ثم أمزقها من سطرها الأعلى إلى سطرها الأسفل،
        ثم أنحي عليها من كل جهة تقطيعًا حتى أدعها مزقًا بعدد كلماتها،
        ثم أبسط بها كفي إلى الريح، وأقول لها:
        أيتها الريح التي لا يستطيع أن يرد هبوبها أحد
        ولا أن يلويها عن وجهها،
        إن هذا كله ريش طائر من طيور الحب ذبحه الهجر
        فخذيه إلى حيث لا تلتقي واحدة بواحدة، وانثريه في أمكنة منسية،
        فإنك تبعثرين به خفقات هذا القلب الذي يحاول أن ينسى!



        واهًا لحوادث الحب،
        كأنما هي تقع لتغير من الحياة في أيام قليلة
        ما يغير العمر الممتد في سنوات متطاولة.
        سل الشيخ الفاني الذي أوفى على المائة
        فأصبح عمره في الإنسانية صفرين إلى عود …
        سله: من أنت؟ يقل لك: أنا الذي كنت أنا من أربعين!
        بل خمسين بل ستين سنة، …
        وسل المحب الذي أضناه الحب. من أنت؟
        يقل لك: أنا الذي كان هو من شهر أو شهرين أو ثلاثة ! …
        وسلني أنا في الهجر لا بل دعها هي تسألني …
        ألا إن شر الحوادث هي تلك التي تنزل بنا فلا نعرف منها
        إلا أننا كنا نعيش من قبلها، وتتقدم الحياة يومًا بعد يوم،
        ولكن الحي جامد في مكانه من الزمن على ألم يتوجع
        له ما يبرح أو ذكرى يحنُّ إليها ما يزال!



        أنا منذ شهر أرقب منها كتابًا ولا يأتي كتابها،
        ففي كل يوم غضب على أثارة قبله،
        وكنت أرى أن الحب هو الطريقة التي يعثر بها الإنسان على روحه
        وهو مغشي بماديته، فيكون كأنه في الخلد وهو بعد في الدنيا
        وأكدارها، فأصبحت أرى الحب كأنه طريقة يفقد بها الإنسان
        روحه قبل الموت، فيعود كأنه ضارب غمرة من الحميم
        وهو قارّ في نسيم الدنيا!



        ليس لي ولله من شدة حبي إياها إلا أن أبغضها
        وأتجهمها بالكلام النافر الغليظ،
        وأقول لها … نعم أقول لها، ثم أقول لها:
        قبح لله الحب إن كان مثل وجدي بك: لا يؤتي الحياة جمالها
        إلا يسلبها حريتها واستقرارها معًا!
        وأقول لها، ثم أقول لها: لقد أوقعتني من حبك وهجرك
        بين الشرِّ والذي هو شرٌّ منه …
        وأقول لها أيضًا: لقد يكون ما نراه من حب المرأة الجميلة
        فنظنه أبدع ما تحسنه من الرقة والظرف،
        هو أبدع ما تتقنه من صناعة الكذب بوجهها …!




        ولكن هل تصدق شيئًا من هذا، وهي تعلم من فلسفتها،
        أن إرادة البغض إنما هي أقوى دليل على وجود الحب،
        وهي التي قالت لي ذات يوم: إن ازدراءرجل محب
        لامرأةٍ يحبها .. هو حب جديد!

        يا ويحي، ماذا أصنع؟
        إن سكتُّ علمتْ علم السكوت، وقالت: محب يأكلُ الغيظ من قلبه،
        وإن غضبت لم يفتها معنى الغضب، وقالت: محب يلتمس أسباب الرضا،
        وإن زعمت السلوة كان الزعم من حجتها، وقالت: محب يصور قلبه غير تصويره!






        نتابع

        تعليق


        • #19


          يا ويحي! كيف؟
          أيمكنني أن أنزل هذه الصورة الفاتنة من مكانها،
          وقد أرادت المقادير أن تزخرف بها غرفة الأحلام في نفسي
          فجعلتها في صدرها؛ لأنها من زينة لله التي أخرجها لي،
          ولم يجتمع ما أحبه من الجمال في امرأة إلا فيها؟
          وهل على الحب خيار؟
          أم هو الجمال الأزلي يستعلن لكل إنسان بالوسيلة التي
          توافق مزاجه، وتلائم تركيب نفسه على قدر ما يلائمه
          وعلى أحسن ما يلائمه



          أنا لن أبغضها إلا أن تسيء إليَّ أكبر من إساءة دلالها،
          بل إساءة تضعها في دمي،
          دمي الحر الجياش المتحدر إليَّ من أقصى تاريخ المكارم.
          وفي مذهبي أنه إذا اجتمع الأذى والحب في قلب،
          وجب أن ينصرف الحب مطرودًا مدحورًا، وليس من ذلك بُدّ،
          ولكن، بالله! أين منها الأذى الممض المؤلم الذي يطرد الحب،
          ويجعلني أبغضها بدمي كما أحببتها بدمي؟
          إن هي إلا هذه الإساءة المبتسمة،
          إساءة الدلال التي تغضب لتجدِّّد الرضا؛
          وتبعد لتؤتي القرب معنى غير معناه القديم،
          وتؤلم لتحدث اللذة الحادة التي يمزاجها الطرب،
          وترسل الوحشة إلى القلب كأنها سفير سياسي
          يمضي بأسلوب الحرب ليرجع بأسلوب السلم،
          وتأتي من كل ذلك ما هي آتية لتجمع عليك
          من سحر الزمان الذي يهدد الحب،
          ومع قوة الحسن قوة الرغبة في لذة الحسن،
          ومع ثورة القلب عليها ثورة الفكر على القلب وعليها!



          ليت شعري،
          أتقوم العاصفة الهوجاء من خطرات مروحة الحبيبة؟
          ويقع الزلزال المدمر من رجرجة منديلها في يدها؟
          لا أدري ولكن ربما! ربما!
          إن لكل حبيبة خيالًا ساحرًا كأنه خارج من قوى الكون كله
          لا من قواها الضعيفة،
          فما تلمس من شيء إلا سحر به على عين محبها
          فحوله فيما شاء الهوى من صور الخيال
          المعقولة والمستبعدة، والممكنة والمستحيلة!


          كل يوم أقول في هذه الجميلة القاسية التي أبغضها،
          أعني أحبها، أعني أبغضها …
          إنها لظريفة إلا حين يجب أن تكون ظريفة …
          وإن كل محاسنها لا تعنّ إلا في مساوٍ بقدرها.


          ترى ماذا حبس كتبها عني؟
          أتكلمني بهذا السكوت؟
          إن السكوت للغة أحيانًا؟
          أم هي تدعني أبحث عن كلمتها في خواطري وأفكاري
          لأسر بقدر ما أجد، وأتألم بقدر ما أستطيع؟
          أم المحبة قد أخذت تطير إلى النسيان بأجنحة الأنام
          التي تحمل كل شيء ولا ترجع به.



          إن السكوت من أكبر فضائل المرأة، وقليلًا ما وفقت إليه!
          ولعله أشق عليها من كتمان سرها؛
          ولكن سكوت الحبيبة عن كلمات الحب هو الرذيلة،
          الرذيلة التي لا يعدلها في الغيظ عند محبها إلا أن
          تنطق بهذه الكلمات — كلمات الحب — لرجل غيره.

          اتفقت لي بالأمس حادثة أوحت إليّ بهذه الحكمة:
          قد يكون أدق خيط من خيوط آمالنا،
          هو أغلظ حبل من حبال أوهامنا …!




          آه آه!
          ما أراني عند هذه الكلمة إلا قد انتهيت إلى الموضع
          الذي يحسنُ عنده تمزيق رسالتي؛
          لأقول للريح: خذي ريش طائر الحب المذبوح …










          نتابع

          تعليق


          • #20





            أكتب إليك يا حبيبتي كتاب عيني؛
            إذ أكتب عن نظرتك السحرية التي أجد لها في قلبي
            معرض فن كامل من صور المعاني الجميلة.
            فإن نظرة الحب تقع في العين وحقيقة معناها في القلب،
            كأختها قبلة الحب: هي في الفم، وحلاوة طعمها في الفكر.



            أتدرين يا حبيبتي كيف أراك؟ …
            إن في عيني من أثر حبك ما جعل في نظري
            قوة خلق معنوي تريني كل شيء من فوق معانيه،
            كأني خلقت فيه جمالًا أو معنى،
            أو خلقت فيه القدرة على أن يسمو في روحي،
            ويرتفع بها فوق ما هو في نفسه وحقيقته،
            وعلى الجملة فكأني أسبغ الفن على المادة،
            فإذا كل شيء يُرى هو في نفسي شيء ألبس مجازًا
            أو استعارة أو نحوهما مما يحقق فيه مع صنع مادته
            عمل فكري وخيالي.



            في نظري من أثر حبك حس من الفكرة،
            فهو نظر وتقدير معًا، والأشياء لديه مادة وعبارة سواء،
            والإدراك به حقيقة وخيال جميعًا،
            وبكل ذلك فالجمال في نظري جمال من ناحيتين:
            حسنه في ذاته، وحسنه في خيالي الذي يجعله أسمى من ذاته.
            ولو أردت مثلًا أضربه لقلتُ لك: خذي جمالين في معنى واحد
            فإني أنشأت حديقة زهر، ولكني لا أقول لك أنت غرست حديقة؛
            بل أقول لك: غرست الفجر.



            كذلك أراك بحس الشاعر الذي يضيف
            دائمًا إلى الحياة والطبيعة زوائده وفنونه،

            ولكني أراك أيضًا بحس الطفولة التي تضيف
            إليها الحياة والطبيعة دائمًا مثل تلك الزوائد والفنون،
            فما أحسبني رأيتك مرة إلا وكأني رأيت فيك أول أنثى،
            وكأنما الحب هو بدء الدنيا مرة ثانية من أولها،
            أي ولادة خيالية: إن لم تولد بها الأشياء في أشكال
            جديدة فبألوان جديدة، أي زخرفة الوجود كله
            ونقشه لعين العاشق بجمال المعشوق،
            كأن الوجود بيت قد طلي وزخرف ونقش؛
            لأنه ستدخله عروس الحب!



            وانظري الآن يا حبيبتي صور نظراتك في قلبي،
            فإن لها بعثات من ورائها بعثات،
            وفيها المعاني من تحتها المعاني.






            نتابع

            تعليق


            • #21










              فهذه نظرات تمتد تأمر تشعرني قوة سطوتها كأنها تقول:
              أريد … أريد … ثم لا يرضيها الرضا
              فكأنها تقول: أريد منك أكثر مما أريد …!



              ونظرات تجيء تشعر النفسَ قوة سحرها،
              فلا تتفتر بها عيناك حتى أرى الحياة وقد ملأت وجهك
              بفن من الأنوثة الساحرة كأنما أبدعته لك خاصة.

              ونظرات من عين ساجية ساكنة الطرف كأنها تقول لي:
              إن نظراتي إليك بعض أفكاري فيك!

              ونظرات بتقطع الطرف بيني وبينك فيها
              كأنها تقول لي أفهمت …؟



              ونظرة طويلة صارمة لها سِيماء قاض محقق
              تبحث فيّ عن توكيد لتهمة أو براءة!

              ونظرات من عين تسأل متجاهلة وقد شطرت بصرها
              كأن فيها فكرين؛ أحدهما يقول أعرفك، والآخر يقول لا أعرفك!

              ونظرات الحبيبة لألات بعينها كأنها تقول لقلبي:
              أنت جريء كالفراشة، ولكن على الشعلة المحرقة …!



              ونظرات الجميلة المزهوة كأن فيها شيئًا أعلى من أرواحنا
              يوضح لمحات من الجمال الأزلي.

              ونظرات الضاحكة اللعوب تنفر وتتدلل كأنما تقول لي:
              إنها تحس بأفكاري تداعبها وتلمسها!


              ونظرات الخفرة الحيية التي كأنما تحاول
              أن تخفي سر قلبين تحت كسرةِ طرف ضعيفة.

              ونظرات العذراء أومضت بعينيها وسارقت اللحظ
              لأن روحها تريد أن تقول: إنها للحب متيقظة!





              ونظرات ترنو في سكون واسترخاء كأنها تقول:
              إن تعبيري هو أن يموت في التعبير!

              ونظرات أراها محدجة كما تنظر من روعة وفزع
              حين لا فزع ولا روعة، فاعلم أن الجمال يهاجمني بسلاحِ خوفه!

              هذه نظرة بريئة، ولكن في شكل خاص من البراءة …
              لينبعث منها فجأة معنى ظريف يتماجن ويمكر ويعبث!



              وهذه نظرة ناعسة، كأن وراءها فكرًا خطرًا نائمًا
              تجتهد أن لا ينتبه …!

              وهذه نظرة — نظرة واحدة — يقول
              من يعرف أنساب معاني الحب:
              إنها ربما كانت … أخت القبلة،
              في قصيرة لا ينفتح بها الجفن حتى ينطبق!

              وهذه نظرة طويلة قوية في جذبها،
              فربما كانت أخت العناق!



              وهذه نظرة — نظرة واحدة — يجشع فيها بصرك؛
              لأن تهمة لك من عيني التقت مرة باعتذار لي من عينك.

              وهذه نظرة بين المعنيين تحتمل كليهما:
              إساءة الدلال إليَّ وإحسانه عليّ!

              وهذه نظرة بين اللقاءين تجذب في قلبي
              الخوف والأمل بمقدار واحد.



              تلك يا حبيبتي صور نظراتك في معرض قلبي،
              وتقابلها هناك الصور الأخرى التي لا تريدين
              أن أصفها لك؛ لأنها الصور المسكينة:
              صور أحلامي …!







              نتابع

              تعليق


              • #22





                نصبت لى فى الكرى حباله ***** اصطاد صيداً من الصور
                رأيت جسمى انتهى لحاله ***** تضيء كالشمس والقمر
                ***



                فطرت فى النور أجتليه ***** محاسناً تملأ الســما
                ولا ضــوء بـلا شـــبيه ***** إلا حبـيبـى تبســــما
                فقلت:هل بى يا قلب فيه ***** لعلنى أطفئ الظما
                ***



                ناجيت قلبى بذى المقاله ***** فدمدم الأفق بالشرر
                صرخت: ما للفضاء ما له ***** فقال: فى قلبك الخطر
                ***



                يا أفق هل خفت من شراره ***** تحت الضلوع اسمها الفؤاد
                أم ســـعر الهجـر فيـك نـاره ***** تـوقد من يابـس الوداد
                أم يـوم حـب قـضى نـهاره ***** وحل من بعد الســــواد ...؟
                ***



                فقـال: وجـه نـرى خـياله ***** فى قلبك الحامل الضرر
                ارجع فلو أن ذي (الغزالة) ***** تغـازل النـجم لانفجـر
                ***






                نتابع

                تعليق


                • #23




                  «وتلقى منها ذات يوم كتابًا،
                  فلما فض غلافه لم يجد فيه إلا زهرة ذابلة، فكتب إليها»:
                  قرأت يا حبيبتي هذا الكتاب الذي لم تكتبيه …
                  ونسمت شفتاي ذلك السرالذي فيه،
                  وكدت أقول إنها هي نسمات عطرها
                  سحرتها في هذه الأوراق بسحرها،
                  ولكني تأملت الأوراق الذابلة فخُيل إليّ من ذواها وطيبها،
                  أنها أجسام قبلات حارة احترقت على شفتي حبيبها …!




                  وفهمت من العطر أن الرسالة مكاشفة بالحب أو مناسمة:
                  ولكني فهمت من الذبول أنها معاتبة في الحب أو مخاصمة !




                  وقالت لي الزهرة يا حبيبي:
                  بلى أنا كوكب عطر من يدها الجميلة في فلك زهري غض،
                  ثم انتثرت من فلكي وذبلت؛ لأني انتثرت من فلكي …!




                  وقد نشأت في روضتي على أملود ناعم ريان،
                  فلما صرت في أناملها على أغصان اللحم والدم
                  في روضة الجمال، أحسست أني بت قلبًا يحب ويعشق،
                  ومرضت لأني بت قلبًا يحب ويعشق …!




                  وكنت أنفح بالعطر والشذى الفياح،
                  فلما لمستني شفتاها لمسة عدت أفوح بالحب،
                  وهجرتني لأني عدت أفوح بالحب …




                  وكنت تمثال النشوة والفرح:
                  فلما رفت بي على خدها رفتين،صرت تمثال السكر والعربدة،
                  واطرحتني لأني تمثال السكر والعربدة.

                  «وكنت بملء النضرة أفيض منها على الكون،
                  فلما وضعتني ساعة على صدرها التهبت كشعلة هوى،
                  ونبذتني لما أحست بي على صدرها كشعلة هوى»










                  نتابع

                  تعليق


                  • #24


                    وقلت للزهرة يا حبيبتي:
                    إنما أنت كلمة أيتها الزهرة الذابلة،
                    وما ذبولك إلا سحابة على نور معنى من المعاني.



                    أفمن لغة القبلة أنت، وقد جئت رسالة من شفتيها إليّ
                    فانكمشت من حياء وخفر؟



                    أم من لغة الابتسام، وقد جئت تحية من وجهها
                    وفيك ذلك المعنى من غموض الدلال،
                    فأنت موجهة إليَّ ولست موجهة إليَّ؟



                    أم أنت من لغة اللمس، وقد جئت سلامًا من يدها،
                    وهذا التجعيد فيك شدة حب وضغطة شوق؟




                    أم أنت من لغة النظر، وقد جئت ذابلة متناعسة؛
                    لأن فيك نظرة من غرامها تنظر ولا تنظر؟




                    أم أنت من مادة العناق، وقد جئت هالكة ضمًا
                    من انطباق صدرين تحتها زلزلتا قلبين ترجفان؟




                    أم أنت …! آه! أم أنت من لغة النسيان،
                    وجئت رسالة هجر منها،
                    وهذا الذبول الذي فيك هو مرض الجفاء ترسله إلى قلبي؟



                    ولكن ماذا قلت أنت للزهرة يا حبيبتي؟
                    أما إنك قلت لها: إن كتابة العطر لا تقرأ …؟
                    إن كلام النية لا يتكلم …!
                    إني أضن عليه بكلمة …!





                    نتابع

                    تعليق


                    • #25






                      كتابها قد جاءنى حاملا ***** لقلبى الخفاق قلبا خفق
                      والتمعت فيه نجوم المنى ***** فى أسطر مثل سواد الغسق
                      وأعرف القبلة فى موضع ***** يلوح لى كالزهر لا كالورق



                      وكم به سطر إلى آخر ***** كالصدر للصدر دنا فاعتنق!
                      وكم به معنى أنام الجوى *****وكم به معنى أتى بالأرق!
                      سألته كيف رأى وجهها؟ ***** فقال: جل الله فيما خلق



                      قلت: وذاك الخد لما استحى؟ ***** فقال مثل الفجر فيه الشفق
                      قلت: وذاك الثغر ما أمره؟ ***** فقال لما ذكرتك (انطبق)
                      يا ثغرها، فيك نسيم الندى ***** فكيف قلبى فى نداك احترق؟







                      نتابع

                      تعليق


                      • #26







                        وسألتْه مرة أن يكتب إليها في أوصاف الألم وفلسفته،
                        قالت: لأن قلبي يجد فيك أستاذي … من يؤلمه،
                        أعني يداويه مما يؤلمه!
                        فكتب هذه الرسالة والتي بعدها:



                        وأنا ولله يا حبيبتي كسارٍ وقع في ظلمة مدلهمة
                        تحت ليلٍ كأنه رماد قد هيل على جمرات النجوم فأطفأها،
                        وهو على ذلك يخبط في قفر أشد وعورة واستغلاقًا
                        من جفاء الحبيبة الهاجرة المتعنتة:
                        لا يعرف الطريق الذي يؤدي إليها كأنها ليست في جهة،
                        ثم بينا هو يعتسف وقد ضل ضلاله شام البرق
                        فحسب الملائكة جاءته من فوقه تحمل مصباحًا،
                        ولكن ظلام حظه جعل الملائكة أيضًا تطفئ مصباحها،
                        وتدعه لما بين يديه …


                        وكذلك أطفأت أنت حتى كلمات الأمل،
                        التي هي كالبرق تضيء ولا يثبت منها شيء،
                        وتلوح معانيها ثم إذا هي مظلمة من كل معنى،
                        وتركتني لآلامي كالحنظلة المرة،
                        لو أنك أمسستها قطرات من العسل لما أحلتها ولا بقيت حلوة.
                        لا … لا، بل قطرة واحدة من هذه القطرات تجعل
                        حنظلتي كلها يا حبيبتي قرصًا من العسل ما دامت منك.
                        تريدين أن أكتب أوصاف الألم وفلسفته؟
                        ألا فاعلمي أن آثارك فيَّ هي كتابي إليك
                        … لا … لا، بل سأتكلم عن أخرى مثلك هي … هي الحياة.



                        أكثر تكاليف الحياة في ألمها وتعبها كأكثر أمراض الحياة،
                        فهل من هذا إلا أن كل إنسان مريض ما دام حيٍّا — بأنه حي …؟
                        ونعيش بين الأشياء والمخلوقات،
                        ومنها ما يسرنا كأنه أجزاء في وجودنا قد زيت علينا،
                        ومنها ما يؤلمنا كأنه أجزاء قطعت منا.
                        فهل يؤخذ من هذا الإنسان ما دام مضطرًا
                        فهو مريض بأنه مضطر …
                        فأين إذن يلقي الحي آلامه وفي جسمه مرض يخلقها مندفعة منه،
                        وحول جسمه مرض آخر يردُّها راجعة إليه.
                        أهما مرضان في القوة أم سجنان للقوة؟



                        إنما أمر لله إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون،
                        ومن شقاء الإنسان أنه طول حياته يزور كلمة الألوهية
                        «كن»
                        ويريد أن يقبض من الأشياء قيمتها …!
                        وأشد ما يؤلمه أن يهزأ منه ما يقول له «كن» فلا يكون منه شيء،
                        فالحكيم لا يتألم إلا ألم الحكمة، والجاهل يتألم بآلام الخيبة والعقاب.
                        على أن كل ألم لو حققنا راجع بلذة أو حكمة أو منفعة،
                        وأفراحنا وأحزاننا — على تناقضها تلتقي كلها منسجمة
                        في الحكمة الأزليّة التي قدرتها لمن يفرح ومن يتألم.







                        نتابع

                        تعليق


                        • #27


                          وما أشبه آلام الإنسان بألم الطفل المدلل.
                          نراه يحزن لكثرة ما يفرح،
                          ويحول ابتسامته دموعًا في عينيه
                          فيتغير في صورته دون أن يتغير في معناه، فيضحك باكيًا،
                          ويشكو فتكون شكواه طريقة مرح في غير شكلها،
                          ويكون في نفسه معنى واحد ولكن وجهه الغض اللين
                          يضع لهذا المعنى أساليب مختلفة هي أنواع من ألعاب الطفولة.



                          إننا نسر حين تخضع لنا القوة المحيطة بنا فتؤاتينا،
                          ونألم حين تتمرد علينا،
                          ولكن يا ويحنا! ألا يجوز أن نكون نحن قد تعالينا ففتناها،
                          وتكون آلامنا آتية من سموها على المادة،
                          كما ترى وجه الفيلسوف عابسًا تحسبه منظر لوعة
                          وهو منظر فكرة سامية؟



                          ترفعنا الهموم والآلام؛ لأن عواطف الحزن والشقاء
                          لا تكون إلا من سمو، وهي لا بد أن تكون؛
                          لأنها وحدها الحارسة فينا لإنسانيتنا،
                          إذ تخلق مع حياة الجسم المادية حياة معنوية للقلب،
                          ونحسها من فقد ما نفقده؛ لأنه لا بد للضمير الإنساني
                          من صوت أليم يقول له أحيانًا: أنت سماوي فاترك هذا،
                          وكأن كل لوعة ألم يحسها المرء هي صرخة
                          عاطفة جديدة ولدت في النفس!



                          حين يموت الميت العزيز يولد من موته لذويه الحزن عليه …
                          تلك بعينها هي طريقة خلق الفضيلة؛
                          نفقد شيئًا فنجد من فقده معنى.
                          والمرأة بكل قواها ترعى طفلها وتحوطه وتربيه،
                          ولكن ابنها بكل ضعفه يربي عواطفها ويرعاها ويحوطها،
                          وإن دمعه ليجعلها ترى للأشياء مدامع …
                          فهو خالق فيها؛ لأنه مخلوق منها،
                          وهذا هو التفسير الذي لا غموض فيه؛
                          لأنه هو ذاته الغموض الذي لا تفسير له.
                          وكذلك آلامنا هي أطفال معانينا.



                          وقفتُ يومًا على شاطئ البحر،
                          فخُيل إليّ أنه عين تبكي بها الكرة الأرضية بكاء على قدرها،
                          وتأملت الجبال فحسبتها همومًا ثقيلة مطبقة على صدر الأرض،
                          وفكرت في البراكين فقلت لوعة أحزانها تثور وتهمد.



                          ثم رجعت بهذا النظر في الإنسان،
                          فإذا له على قدره بحر وجبال وبراكين.
                          عند الطبيعة: لا ألم ولكنه نظام،
                          وعند الإنسان: لا نظام ولكنه ألم …
                          ولعمري، لو أتى للأقدار أن تخاطب البائس المتألم
                          لكان الخطاب بينهما جملتين من القدر،
                          وحرفًا واحدًا من البائس على هذا النسق:
                          القدر: هل عرفت كل السر؟
                          الإنسان: لا.
                          القدر: ويحك، فهذا الذي أصابك بعض السر!







                          نتابع

                          تعليق


                          • #28






                            منى السلام على من لو تصافحها ***** يد النسيم، أحست غمز آلامى
                            مرت على الورد فى الأكمام فارتعشت ***** أسىً،وقالت: أهذا قلبه الدامى؟



                            وأبصرت غصناً ظمآن منطرحاً ***** فما رأت فيه إلا بعض أسقامى
                            وتسمع الطير صداحاً بأيكته ***** يشكو، فتسمع فى شكواه أنغامى!



                            حقيقة الحب فيها، ثم تُظهر لى ***** كأننى عالق منها بأوهام
                            يا للعجيبة للمرآة! أنظرها ***** ولا أرانى فيها وهى قدامى...



                            يا أختَ شمس كلون الخد مشرقة ***** وأخت بدر كنور الوجه بسام
                            ما كنتِ مثلهما إلا لتبتسمى *****على ليالى فى حبى وأيامى








                            نتابع

                            تعليق


                            • #29






                              كان لى قلب،فيا عجبى ***** ليس فى جنبى سوى أثره
                              ضاع منى فابحثوا تجدوا ***** فى ابتسام الحسن أو نظره
                              ويحه قلباً أعيش على ***** صفوة عيشى على كدره
                              يرتقى كالنسر ثم ترى ***** مرتقاه عين منحدره



                              ههنا قلب وحامله ***** ميت الأمن على حذره
                              ذاب ذوب العطر مذ وقدت ***** للهوى نار على زهره
                              ضره ما كان منفعة ***** نفعه ما كان من ضرره
                              عابس كالليل ليس منه ***** أمل إلا سنا (قمره)



                              وهنأ قلبه وصاحبه ***** قد بنى الدنيا على حجره
                              تقرص الألم مهجته ***** مثل قرص الوحش من ظفره
                              والحديد والصلب تحسبه ***** صورة عمياء من صوره
                              لم يلن لا بمطرقة ***** من قضاء الله أو قدره



                              وسؤال لا جواب له: ***** أى ذين الحلو فى ثمره؟
                              لو يبين الحلو خالقه ***** كيف يسقى المر من مطره؟





                              نتابع

                              تعليق


                              • #30





                                البحر
                                كان صاحب الرسائل قد مرض مرضة طويلة بالنزلة الشعبية.
                                فجزعت لمرضه، وكانت تعالجه بأسطر من بلاغتها كالدواء،
                                وذهب إلى البحر متثقلًا، فلما وجد خفٍّا من نسيمه وروحه
                                كتب إليها هذه الرسالة،
                                ولم ننشر رسائلها إليه في مرضه؛ لأنها خاصة.



                                «وكتب إليها من شاطئ البحر،
                                وكان قد ذهب إلى هناك مسشفيًا من علة أصابته»
                                لقد كنت ولله من وثاق المرض كالسجين المغلغل:
                                يحمل على أعضائه أعضاء من قيود وسلاسل،
                                فلا يجد كل الأمكنة أوسعها وأضيقها إلا جسمه
                                والجسد الحديدي الذي فيه جسمه، وكأنه من الكرب لم يقيد،
                                وإنما أقفل على روحه من ذلك الحديد بقفل
                                يكف هذه النفس، ويحول بينها وبين الدنيا.



                                فلما احتواني البحر جعلت سلاسلي تذوب فيه
                                شيئًا من شيء في يوم من يوم،
                                ثم كأنها لم تكن إلا آثار لون أسود فغسلها البحر ومحاها،
                                أو كانت جمرات ألم أحمر فأطفأها وسال عليها.



                                ألا ما أعجب رحمة لله!
                                فبينا هموم الإنسان في موضع هي أشد اندماجًا من الحديد،
                                إذا هي في موضع غيره متخلخلة أسرع ذوبانًا من الملح المبتل:
                                كأن مكانًا يلبس أنفسنا، ومكانًا يخلع عنها،
                                أو كأن الأرض بتباين أمكنتها وبقاعها
                                تقابل الأقدار في اختلاف عللها وتصاريفها،
                                حتى يكون السفر من بلد إلى بلد أحيانًا
                                كأنه تحول من قدر إلى قدر.



                                كان المرض يُخيل لي أن هواء ناحيتي مستنقع معلق …
                                فجئت إلى هواء البحر فإذا هو بحر ذائب يحس المتنفس منه
                                أن في صدره مثل الموج على ما ركد فيه مما تركته
                                الأيام والليالي من أحداثها وهمومها،
                                فإذا صدره جياش مصطخب بالحياة يفور بها ويتضرب،
                                وإذا موجة من العافية قد اندفقت في هذا الصدر
                                فثلج وابترد وتنقى
                                كأنما غسل ثم غسل إلى ملء بحر.



                                وأرى السماء هنا والبحر متدل منها، فكأنها مخيط أزلي،
                                وهذا البحر كله موجة واحدة، وثبت من هناك عن ثبجها الأزرق
                                ووقعت إلى الأرض، أو هذا بحر سائل موار؛
                                إذ هو يدفع أنفاس الحياة الأرضية الفانية فلا بد أن يجري ويتحرك،
                                وذاك بحر مستقر لثباته على الأزلية الخالدة،
                                ويقع من أحد البحرين ثبات اليقين في روحي
                                ومن الآخر حركة الأمل في قلبي،
                                وتندمج بهما في حياتي روح أيام زاهية مضيئة كأنوار السماء،
                                وروح آمال بلية منعشة كأنفاس البحر.



                                وأرى البحر مائجًا يترشرش ويتناثر وهو بارد،
                                ولكنه يبدو كما يغلي الماء في وعاء على النار،
                                يتقاذف من شدّة ما يغلي، يضطرب ويدوي كما يرجف الرعد
                                ترددت هدهدته يجاوب بعضها بعضًا،
                                فكأنما البحر سحاب عظيم قد حبسه الله في الأرض
                                فهو أبدًا ثائر يضج ويرعد،
                                ولا يبرح ينازع الأرض أن يفر منها!






                                نتابع

                                تعليق

                                مواضيع تهمك

                                تقليص

                                المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: Reem2Rabeh الوقت: 04-23-2025 الساعة 04:27 PM
                                المنتدى: ضبط وتوكيد الجودة نشرت بواسطة: HeaD Master الوقت: 04-15-2025 الساعة 09:30 AM
                                المنتدى: التصنيع والانتاج نشرت بواسطة: HeaD Master الوقت: 04-11-2025 الساعة 01:08 PM
                                المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: نوال الخطيب الوقت: 03-19-2025 الساعة 03:07 AM
                                المنتدى: الكمبيوتر والإنترنت نشرت بواسطة: عوض السوداني الوقت: 03-18-2025 الساعة 07:22 AM
                                يعمل...
                                X