إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الشاعر اللبنانى وديع سعادة ملف كامل

تقليص
هذا الموضوع مغلق.
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    ماذا سأفعلُ اليوم؟ ليسَ في نيَّتي فعلُ
    شيءٍ ولستُ مضطرًّا لفعلِ شيء.
    يمكنني على الأرجح أن أعْقِدَ صداقةً،
    من هنا من وراءِ الزجاج،
    مع هؤلاءِ الناسِ في الشارع.
    لا يزالُ النهارُ في أوَّلِهِ وبضعُ دقائقَ
    من الصداقة تكفي اليوم. بعد ذلك يجبُ أن
    أخرجَ إلى الشرفةِ وأسقي الزهورَ،
    ويجبُ، ربما، أن أتمشَّى قليلاً
    في المدينةِ وأجلبَ قنِّينةَ عرق.
    النافذةُ مُقْفَلَةٌ وأنا رجلُ قصيرٌ وراءَها،
    طولُهُ 165 سنتيمترًا
    ويعقِدُ صداقةً مع شارعٍ طويل.
    يُمَرِّرُ يدَهُ بينَ وقتٍ وآخرَ على شَعرِهِ،
    وما يسقطُ منه يحملُهُ ببطءٍ ويرميهِ في القمامة.
    رجلٌ هادئٌ،حتَّى أنَّهُ بينَ غرفةِ النومِ والمطبخِ
    يتوقَّفُ مِرارًا ليسْهو أو ليستريح.
    يلفُّ سيكارتَهُ على مهلٍ، يشيلُ التبغَ الزائدَ من طرفيْها،
    ينظرُ إلى الولاَّعةِ لحظةً، ثُمَّ يخفضُ رأسَهُ ويُشْعِلُها.
    العمارةُ أمامي أصبحَتْ في طبقتِها السابعةِ.
    عامِلٌ هنديٌّ فوقُ يبدو لي كملاكٍ.
    الناسُ أيضًا يُشْبهونَ الملائكةَ من بعيد،
    لا سيَّما المهاجرون. لا أعرفُ لماذا
    لا يُمكنُني تَخَيُّلُ هجرةٍ من دونِ ملاك،
    خصوصًا هجرةُ العُمَّال. الذين يحملونَ أمتعتَهُمْ ويمشون.
    وأحيانًا يتوقَّفونَ على بُعْدِ خطواتٍ من البابِ،
    يلفُّونَ سيكارةً، ويعودون إلى بيوتِهِمْ.
    أُمَرِّرُ إصبعي على البُخارِ العالقِ
    على الزجاجِ من فمي وأتراجعُ خطوةً.
    أنظرُ إلى الكنبةِ على يميني. لا تزالُ ذاتَها.
    الأصدقاءُ الذين كانوا يزورونَني جلسوا عليها.
    اليومَ أنا وحدي ويُمكنُني أن أكونَ جمهورَها الوحيد.
    بيني وبينها صداقةٌ قديمة،
    مُذْ لمحتُها في زاويةِ صالةِ العَرْضِ
    وقلتُ للبائعِ لا أستطيعُ أن أدفعَ أكثرَ،
    فحملَها بلُطْفٍ وجاءَ بها إليَّ.
    لا تزالُ هنا في مكانِها. رُبَّما انزاحت قليلاً
    حين ارتمى عليها الأصدقاء،
    لكنَّها في المكانِ ذاتِهِ تقريبًا،
    وصديقتي مع هؤلاءِ العُمَّال،
    ومع هذا الخطِّ المُبْهَمِ الذي
    رَسَمَتْهُ يدي على بُخارِ الزجاج.
    أقتربُ وأرسمُ خطًّا آخرَ:
    خطٌّ آخرُ صديقٌ آخرُ... أنظرُ إليهِ، وأرتمي على المقعد

    تعليق


    • #32
      2على زُجاجِ نافذتي أصدقاءُ،

      لكنَّهُمْ يتموَّهونَ بسُرْعَةٍ كَمَنْ يركضُ في الضبابِ،
      ثم يتلاشون. أرفعُ قدمي. أضَعُها على الأريكةِ أمامي،
      وأتأمَّلُ أصابعَها المُلْتَوِيَة.

      تبدو كشجرةِ صنوبرٍ ضربَتْها الريحُ سنواتٍ،
      حتَّى تيبَّسَتْ مُحْدَوْدِبَةً.

      جمودُها الآنَ وصمتُها يذكِّرانني بعمرٍ طويلٍ
      من الركضِ والصخَبِ وراءَ مجهولٍ مُخيف.
      كانت رفيقتي الوحيدة.
      ولم أكافِئْها بشيءٍ غيرَ أنْ أحْمِلَها
      في آخرِ الليلِ وأضعَها كيفما كانَ في الفراشِ،
      وغالبًا ما حَرَمْتُها من هذه اللذَّةِ البائسة.
      قَدَمٌ غريبةُ الإخلاصِ،
      إلى درجةِ أنَّها لم تفارقني ولا يوم.
      أعرفُ أقدامًا كثيرةً ملَّتْ وغادَرَتْ أصحابَها.
      انقطعَتْ عنهم بحجَّةِ المرضِ،

      أو انفصلَتْ فجاةً على الطريق.
      كانت تلكَ الأقدامُ تستريح،
      سوى قدمي ظلَّتْ وفيَّةً ومُنْهَكَة.
      وهي المُتَيَبِّسَةُ تقريبًا الآنَ، لا تزالُ معي،

      وهذه علامةٌ من علاماتِ القداسة.
      أُمَرِّرُ يدي على هذه القَدَمِ وأُدغدعُ وبرَها الناعمَ
      أربِّتُ عليها وألاطفُها وأتأمَّلُها طويلاً.

      لم أكن صديقَها في أيِّ يومٍ.
      كنتُ دائمًا مُسْتَعْجِلاً وكثيرَ الازدراء.

      الآن كأنَّني أشعرُ بها لأوِّلِ مرَّة.
      ماذا يفعلُ واحدٌ حين يكتشفُ فجأةً أنَّ

      عاشقةً تبعتْهُ أربعينَ عامًا دونَ أن يدري؟
      وقفْتُ، مشيْتُ برفقٍ على قدميَّ، وجلبتُ تبغي.

      في تلكَ القريةِ البعيدةِ، على أرضِ بيتٍ

      من تُراب،مشيتُ أولى خطواتي

      وكانت قدمايَ حافِيَتَيْن.
      لم يكن أبي من المؤمنين بأنَّ على

      الواصلينَ لتوِّهِمْ إلى الأرضِ
      أن يتعرَّفوا إليها بلحمِهِمْ،
      لكنَّهُ كانَ عاجزًا عن شراءِ حذاء.
      كنتُ أعرفُ أنَّ الأحذيةَ التي أرتديها هي

      أحذيةُ إخوتي، بعدما لُمِّعَتْ

      وأضيفت إليها مسامير.
      كنتُ أبتسمُ، لكنَّني لم أكن سعيدًا.
      أعتقدُ أنَّ هناكَ شَرْطًا للسعادة:
      أن يكونَ الحذاءُ الذي ترتديهِ جديدًا.
      لا أعرفُ أناسًا سُعداء بأحذيةٍ عتيقة.
      كيفَ يمكن أن يفرحُ واحدٌ وحذاؤهُ قديم؟
      هناكَ مثلاً ناسٌ يشيخونَ باكرًا بسببِ أحذيتِهِمْ
      وناسٌ يموتونَ بسببِ أحذيتِهِمْ

      تعليق


      • #33
        ولا شكَّ أنَّ في التاريخِ شعوبًا انقرضَتْ
        أو أُبيدَتْ بسببِ أحذيتِها أيضًا.
        وأنا لا أستطيعُ أن أنكرَ أنَّ أحذيةَ إخوتي
        كان لها تأثيرٌ كبيرٌ في حياتي:
        في حزني الباكرِ، وحزني اليومَ، وخجلي،
        وضعفي، وفشلي في الحُبِّ والحياة.
        ولا شكَّ كانت سببًا في هجري المدرسة،
        وتشرُّدي، ونومي على الطرقات.
        حتَّى في نحولِ جسدي وتوقُّفِ نُمُوِّ طولي،
        وفي جلوسي الآنَ وحيدًا
        في هذه الغرفةِ التي غابَ عنها الشعاعُ،

        بسببِ غيمةٍ على الأرجح،
        غيمةٍ قد تُمْطِرُ، وحينئذٍ أستطيعُ أن

        أقفَ على النافذةِ وأتأمَّلَ المطر.

        مُذْ سَكَنْتُ هذه الغرفة لم يدخل شعاعٌ
        إلاَّ ومَرَّرْتُ يدي عليه.
        كانت لكلِّ تلكَ الأشعَّةِ أجسادٌ ناعمةٌ ونحيلة،
        لكنَّني كنتُ أعرفُ كُلَّ شعاعٍ من ملمسِهِ.
        مرَّةً كانَ ضوءَ سفينةٍ في الميناء المقابل،
        وحينَ اختفى شعرتُ بوحدةٍ غريبة.
        هل لأنَّها سفينةٌ فيها مهاجرون؟
        ناسٌ يرحلونَ إلى بلادٍ بعيدةٍ،

        يجلسونَ على المقاعدِ الخلفيَّةِ

        أو يصعدونَ إلى السطح ليُرْسِلوا آخرَ
        نظرةٍ إلى البيوت؟
        ناسٌ كَنَسُوا البيتَ وسَقَوا الحوضَ،
        ثمَّ انتزعوا عشبةً من شقٍّ قربَ البابِ ورحلوا؟

        أشعلتُ سيكارةً ولَهَوْتُ بدُخانِها،
        كُلُّ شيءٍ هادئٌ، حتَّى الهرَّةُ الصغيرةُ
        في زاويةِ الشارعِ لا تنظرُ إليّ.

        كُلُّ شيءٍ هادئٌ في هذه الغرفةِ منذُ سنوات،
        وبِتُّ أعتقدُ نفسي جِدارًا وإذا خرجتُ ستهبطُ.
        أحيانًا أفكِّرُ أنَّ حديدَ الغرفةِ من عظامي.
        لكنَّ عظامي رقيقةٌ وهشَّةٌ
        و لا رَيْبَ أنَّ هذا الجسدَ محمولٌ بدعائمَ أخرى

        كيفَ مَشَتْ معي هذه العظامُ سنواتٍ دونَ أنْ

        أسمعَ أزيزَها أو أرى انهيارَها المفاجئَ
        على الطُّرُقات؟ غير أنِّي وحيدٌ تمامًا،
        ولذلك يَخِفُّ وزني.


        لماذا أتذكَّرُ أبي الآنَ؟ كنتُ طفلاً حين

        أوصلتُهُ إلى القبر.
        لكنَّهُمْ كانوا ينظرونَ إليَّ وكان من اللياقةِ
        أن أشيخَ أمامهم.
        هؤلاء الذينَ اعتقدتُ أنَّهُمْ يُحِبُّونني

        لم يفعلوا شيئًا من أجلي.
        لم يقولوا لي أنْ أذهبَ وألعبَ مع الأولاد.
        ظلُّوا يحدِّقونَ بي حتَّى طالت قامتي
        وحَمَلْتُ معهم الجثمانَ إلى القبر.
        كان مُقْفَلاً بمسامير.
        أليسَ أكثرَ لُطْفًا أنْ يردُّوا الغطاءَ على
        الموتى بهدوءٍ كلحافٍ ناعمٍ اعتادوهُ في بيوتِهِمْ؟


        علبةُ التبغِ على الطاولةِ أمامي
        ويكفي أنْ أُحَرِّكَ يدي قليلاً.
        لكنْ يُخَيَّلُ إليَّ أنَّها يدٌ فرغَتْ من الدم،
        وإذْ تتحرَّكُ أحيانًا فبزخمِ حركةٍ قديمة.
        العُمَّالُ أمامي لا يكفُّونَ عن الحركةِ
        بخفَّةِ من تأكَّدَ له أنَّهُ يستأثرُ بدمِ الحياة.
        حاولتُ أن أقنعَ نفسي بأنَّ الأعضاءَ المتحرِّكةَ

        شيءٌ جميل،وأنَّ للرجلِ عادةً

        عروقًا صغيرةً يجري فيها دمٌ نقيٌّ.
        لكنَّهُ شيءٌ مقيتٌ أن تكونَ مثلَ آلةِ ضَخٍّ،
        هكذا مع سائلٍ رتيبٍ كُلَّ العمر، كمن ليسَ عندَهُ شيءٌ ليفعلَهُ

        تعليق


        • #34
          3 أنظرُ إلى أثاثِ الغرفةِ من غيرِ أن أتحرَّكَ من مكاني.
          نظرةٌ صغيرةٌ قد تجعلُ هذا الأثاثَ صديقي.
          لا أعرفُ لماذا أهجسُ اليومَ بالأصدقاء. كانوا يجلسونَ هنا،
          على الكنبةِ، وينظرونَ إلى الحيطان. نظراتُهُمْ لا تزالُ عالقةً على الطِّلاء،
          ويُخَيَّلُ إليَّ أنِّي أرى وجوهَهُمْ كذلك، كأنَّهُمْ حين رحلوا تركوا نظراتِهِمْ،
          وأرسلوا وجوهَهُمْ لتتفقَّدَها فعَلِقَتْ هي أيضًا على الحيطان.

          عَرَفْتُ في حياتي ناسًا رحلوا وبَقِيَتْ عيونُهُمْ سنواتٍ جالسةً
          بهدوءٍ في آخرِ مكانٍ نظروا إليه. عَرَفْتُ ناسًا تعاملوا مع اعضائهم
          مثلَ جَمْهَرَةٍ التقَتْ مُصادفةً في احتفال، ثُمَّ ذهبَ كُلُّ واحدٍ في طريق.
          على الأدراجِ وفي الشوارعِ والساحاتِ تتوزَّعُ أعضاءٌ كثيرةٌ،
          كانت تجلسُ يومًا مع أصحابِها ثُمَّ كَبُرَتْ وغادرتْهُمْ.
          رأيتُ أعضاءً ضائعةً وأعضاءً غافيةً وأعضاءً تبتسم.
          بعضُها كأنَّهُ وُلِدَ للتوِّ وبعضُها يموت. التقيتُ عيونًا تسهرُ
          من دونِ أصحابها وأرجُلاً تمشي وحدَها على الطُّرُقات
          وشِفاهًا تتكلَّمُ وحدَها مع العابرين. التقيتُ كلماتٍ
          وأنفاسًا ونظراتٍ غادرَتْ أصحابَها وتحوَّلَتْ كائناتٍ جديدة.

          إنَّني مع هذه الكائنات جالسٌ الآن. مع أشياءَ انسحبَتْ من ماضيها
          وبدأتْ حياتَها الخاصَّةَ، وأشعرُ كأنَّ أعضائي على وشكِ الانسحابِ
          منِّي لتبدأَ هي أيضًا حياتَها. في أيَّةِ حالٍ،
          لم أنظرْ يومًا إلى أعضائي كشيءٍ لصيقٍ بي
          بل كانت دائمًا تتمتَّعُ باستقلالِها.
          يخرجُ بعضُها منِّي وأنا نائمٌ ليجلسَ على الشرفةِ.
          يخرجُ بعضُها ويتمشَّى في الشارع. ومرَّاتٍ،
          حينَ أستيقظُ في الصباح، أقضي نهاري في
          البحثِ عن عضوٍ مفقودٍ، وأحيانًا لا أجدُهُ.

          تتحرَّكُ يدي وتَكْبِسُ زِرَّ الراديو.
          الخارجُ لا يزالُ نفسَهُ: الحرب.
          إنِّي محاطٌ بقتلٍ فظيع. سنواتٌ مليئةٌ بالجثثِ
          ولا أعرفُ كيفَ لا أزالُ هنا، بين الجدرانِ، جسدًا سويًّا.
          ناسٌ كثيرون يمشون الآنَ في الخارجِ بأعضاءٍ ناقصةٍ،
          باحثين ليسَ عن أعضائهم المفقودةِ لأنَّهُم على الأرجحِ نسوها،
          بل عن لقمةِ خبز. وناسٌ كثيرون لم يعودوا بحاجةٍ إلى تلك الأعضاء
          لأنَّهُمْ تناثروا معها في أمكنةٍ لا يعرفونَها هُمْ ولا أحِبَّاؤهُم

          تعليق


          • #35
            انتشروا في أكثرَ من مكانٍ، نثرةً نثرة، مُتَّحِدين بالغبارِ
            الذي لا يُرى وبإسمنتِ البناياتِ وبالنسيانِ الرهيب...
            أتلمَّسُ أعضائي عضوًا عضوًا. إنَّني، في الواقعِ،
            لا أزالُ جسدًا كاملاً، وما حَسِبْتُ أنَّي فقدتُهُ مع الأيَّامِ لم أفقِدْهُ إلاَّ في الأحلام.

            حينَ بدأتِ الحربُ لم أكن أسكنُ هنا. كنتُ في الشمال.
            في قريةٍ على الساحلِ أعملُ في معملٍ للسماد،
            وأعودُ في المساء بينَ شجرِ الليمونِ إلى البيت.
            تلكَ القريةُ على التلَّةِ الصغيرةِ كانت تبدو لي مثلَ نورسٍ على
            وشكِ أنْ يحطَّ في الماءِ ويَعْدُل. سطوحُها القرميدُ لم تكن تجدُ
            وقتًا للتحدُّثِ إلى أصحابها من كَثْرَةِ ما هي مأخوذةٌ بالبحرِ والسماء.
            أحجارُ الجدرانِ وأشجارُ الحدائقِ استأثرَتْ وحدَها بالنظراتِ
            والأصابعِ المدلّلَة. أعتقدُ أنَّ الشجرَ كانَ ينمو ويُثْمِرُ، هناك،
            بفعلِ نظراتهم، والمطرُ ينزلُ استجابةً لهم.
            كنتُ أراهم يحدِّقونَ في السماءِ ويعرفونَ نوايا الغيوم.
            والرياحُ تمرُّ بهم أليفةً وواضحةً كأنَّهُمْ أصدقاؤها.
            كأنَّهم كانوا ذاتَ يومٍ مع الرياحِ رفاقَ طريق، وتبادلوا على الدربِ أسرارَ حياتِهم.

            صوتُ المذيعةُ ينقلُ أسماءَ قتلى وجرحى. إنَّهم يحصدونَ بعضَهم في الشمال،
            ويحصدونَ بعضَهم في الجنوب، ويحصدونَ بعضَهم في الجبال،
            ويحصدونَ بعضَهم في المُدُن. قبلَ أيَّامٍ كانوا رفاقًا.
            زاروا بعضَهُمْ بعضًا وشرِبوا القهوةَ وتواعدوا للقاءِ الأحد المقبل
            وفجأةً يتلاقونَ مدجَّجينَ بالسلاح. يتقابلونَ أعداءً وجُثثًا.
            المذيعةُ تنقلُ أسماءَ جثثهم، وتُنهي بأغنية.

            إنِّي مُحاظٌ بجدرانٍ تقيني منظرَ الخارج.
            أخبروني أنَّ ناسًا هُناك ماتوا سحلاً على الطُّرُقاتِ.
            ربطوهم بسيَّاراتٍ وجَرُّوهم في الشوارعِ وسطَ بكاءِ نساءٍ
            وزغاريدِ أخريات، ثُمَّ رَمَوْهُمْ تحتَ الجسرِ بعدَ أن تركوا
            خيطَ دَمٍ منهم على الأسفلت. أخبروني أنَّ موتًا كثيرًا
            وبكاءً كثيرًا جرى على الطُّرُقاتِ، حتَّى تفتَّحَ الأسفلتُ
            عن زهورٍ بشريةٍ يستطيعُ كُلُّ العابرينَ أنْ يَرَوْها،
            لكنَّ المفجوعينَ وحدَهُمْ يشمُّونَ فيها رائحةَ الزهور.

            أشمُّ أحيانًا مثلَ هذه الرائحةِ. هؤلاءِ الذينَ غادروني
            من دونَ أن يطلبوا دمعةً أو كلمةَ وداع.
            الَّذين انسحبوا بخفَّةٍ من حياتي، كأنَّ ورقةً صغيرةً سقطت في الماء.

            كنتُ طفلاً حينَ كانَ أبي يُحَدِّثُني عن الحروب.
            أخبرني عن ضحايا رصاصٍ وضحايا جوعٍ وضحايا مَرَض.
            عن موتى لم يجدوا أحبَّاءً لدفنهم، وعن مُشرَّدي جوعٍ
            يجوبونَ القُرى والمدنَ ولا يحظَوْنَ بلقمةٍ.
            قال لي إنَّهُ كان واحدًا منهم، ووجدَ نفسَهُ في عُمْرِ الخامسةِ
            متسوِّلاً خائبًا من بيتٍ إلى بيت، وباحثًا في الغاباتِ
            عن عظمةٍ يطحنُها بالحجرِ ليستطيعَ التهامَها.
            كان أبي يخبرني عن الحروب. و لم أكن افعلُ غيرَ أن انظرَ إليه

            تعليق


            • #36
              4 الساعةُ العاشرةُ والنصفُ تقريبًا. أُطفئُ الراديو وأُلقي نظرةً إلى الخارج.

              الشارعُ نفسُه والعُمَّالُ أنفسُهُمْ وبضعُ غيوم. أظنُّها ستُمْطِر.

              طالَ انحباسُ المطرِ ولا شكَّ في القريةِ الشماليَّةِ، هُناك،

              ينتظرونَ هطولَهُ. لكنْ، كَمْ بَقِيَ منهم هؤلاءِ الَّذينَ أخذوا أسرارَ الرياح

              وكانوا يعرفونَ نوايا الغيوم؟ عشراتُ الآلافِ هاجروا

              مُذْ بدأتْ تلكَ المذيعةُ تنقلُ أسماءَ الجثث.

              ولا رَيْبَ آلافٌ من الَّذينَ كانت أصابعهم تُدَلِّلُ الأشجارَ

              لمسوا جلدَ الحقائبِ لأوَّلِ مرَّةٍ وحملوها بحسرةٍ إلى

              بلدانٍ قاسيةٍ ومجهولة. وضعوا فيها صُوَرَهُم مُبْتَسِمِينَ بجانبِ البابِ

              وقُرْبَ حوضِ الحَبَق، وحَمَّلوها بعضَ أنفاسِ الغُرَفِ،

              وأرسلوا نظرةً أخيرةً ومَضَوْا.

              أخبروني أنَّ ناسًا لم يجدوا الوقتَ لارتداءِ أحذيتِهِمْ قبلَ الرحيل.

              وصلوا حُفاةً وعُراةً إلى مُدُنٍ وقرىً وصادَقُوا العراءَ للنومِ معه.

              قالوا إنَّ الموتَ وصلَ فجاةً وهم نيام، وإنَّ الموتَ وصلَ فجاةً

              بثيابِ أصدقاء، وإنَّ الموتَ وصلَ فجأةً من سماءٍ كانت قبلَ يومٍ تمطرُ عليهم

              وعلى حقولهم. وقالوا إنَّ ناسًا كثيرينَ سقطوا بعدَ خطوةٍ،

              وناسًا كثيرين سقطوا من دونِ خطوةٍ، ودروبًا كثيرةً لا تزالُ تسمعُ أنينًا هُناكَ،

              واُمَّهاتٍ نسيْنَ أطفالَهُنَّ على الأسِرَّةِ من شِدَّةِ الرعبِ ورحلْنَ بدونهم.

              أظنُّها ستُمْطِرُ. الغيومُ تأتي من بعيد. على الأرجحِ من سماءِ بلدانٍ

              فيها مُهاجِرونَ، ورُبَّما ستَذْرِفُ هنا بعضَ دموعِهِمْ.

              تَلَبُّدُها يشبهُ أنفاسَ المهاجرينَ، وفي تباطُؤها فوقَ البيوتِ
              شيءٌ من أشواقِهِمْ. أظنُّها ستُمْطِرُ.

              حينَ كُنَّا صغارًا كانَ المطرُ لعبتَنا المفضَّلة.
              أبي،الفلاَّحُ الفقيرُ،

              لم يكن معه ثمنُ ألعابٍ،
              فكُنَّا نلعبُ بأغراضِ الطبيعة. الماءُ والثلجُ والفراشاتُ

              تعليق


              • #37
                والغصونُ كانت أغراضَنا.
                ولم تكن بينَ الأرضِ و بيننا قِسْمَة.

                لم أكن أعرفُ لماذا كانَ أبي
                ينهرُني عن عَدِّ النجوم.

                الآنَ أعرفُ أنَّ ذلكَ كانَ خوفًا
                من غيابِ أحدِ رفاقي.

                كان يعلمُ أنْ ليسَ كُلُّ الرفاقِ دائمًا

                سيحضرونَ،

                وأنَّ عددًا كبيرًا منهم لا بُدَّ يومًا سيغيب،
                وأنَّني سأنامُ،

                في تلكَ الخيمةِ العاليةِ المفتوحةِ للعراءِ،
                مرَّاتٍ عديدةً من دونِ رفيق.
                كان أبي بالتأكيدِ يعرفُ أعماقَ مشاعري،
                ويُحِبُّني فوقَ التَصَور


                حينَ افترقْنا، كانَ ذلكَ قُرْبَ شاطئ.
                بيتُنا الذي استأجرناهُ

                مُعَمَّرٌ فوقَ قناطرَ، على صخرٍ بحريٍّ،
                والبحرُ كانَ واحدًا من أهلِ البيت.

                أبي ظَلَّ فوق، في الضَّيْعَةِ، مع بيتِهِ وشجرِهِ،

                ومع سُلَّمِهِ الخشبيِّ يقعدُ على

                درجتِهِ السُّفْلى كُلَّ مساء،

                مُنْتَظِرًا بوسطةَ القريةِ الآتيةَ

                من المدينةِ علَّها تقفُ على المفرقِ

                وينزلُ منها أحَدُ أولادِهِ.
                لكنَّ ذاكَ السُلَّمَ ظَلَّ، لسنواتٍ،

                لا يَرى غيرَ رجلٍ منتظرٍ، ودخانَ سيكارة.
                حينَ ودَّعتُهُ لآخرِ مرَّةٍ، كان ذلك على الشاطئ.

                ثُمَّ تصاعدَ من بيتنا دخانٌ كثيفٌ.

                و الدخانُ كانت له رائحةُ لحمٍ محروق.

                وصارَ أبي هيكلاً عظميًّا أسود...

                صَعِدْتُ و ألقيتُ نظرةً أخيرةً على فحمِهِ،

                ومضيتُ حاملاً وحدي حطبَ الحياة.
                حطبَ الحياة؟ لا، أعتقدُ أنِّي
                كنتُ أحملُ براعمَ أيضًا

                . وكنتُ، أنا و بعضُ الأصدقاء،


                نظنُّ أنَّ شجرةً وارفةً

                ستخرجُ من تلكَ البراعمِ
                وتُظَلِّلُ مكانًا جميلاً.

                كان لنا أهلٌ آخرون: الأحلام.
                وفي حينِ كُنَّا نمشي مع أحلامِنا،

                كانَ هناكَ، في مكانٍ خفيٍّ، من يصطادُها،
                وكانت هي تسقطُ، مثلَ أهلِنا جميعًا.

                5

                كان مصنعُ الأسمدةِ يضخُّ في ذلكَ
                الوقتِ سمادًا من المفترض

                أن يحمله الفلاَّحونَ ويرشُّوهُ
                على حقولِ الزيتون. وكانتِ الأشجارُ،

                كَكُلِّ سنةٍ، تنتظرُ غذاءَها،

                وغصونُها مائلةٌ نحوَ البيوتِ

                تترقَّبُ وصولَ أصحابِها.
                لكن فيما كان أملُ المواسمِ

                ينزلُ حبَّةً حبَّةً في الإهراءاتِ،
                كانتِ الحقولُ تُهْجَرُ حقلاً حقلاً،

                والأشجارُ تسقطُ مع سقوطِ

                أصحابِها في الهجرانِ وفي الحربِ

                وفي الموت. تمدُّ رؤوسَها نحوَ

                بيوتٍ حضنَتْها مُذْ كانت صغيرةً،

                وتنحني رويدًا رويدًا ، وتَيْبَس.
                في تلكَ الحقولِ كانَ ثمَّةَ نبضٌ

                آخرُ يجري في عروقِ النَّبات،

                نبضٌ بشريٌّ جنبًا إلى جنبٍ مع

                النُّسْغِ وروحِ الشمس والتراب.

                حتَّى العشبُ والأشواكُ كان بينها

                وبين الناس تفاهُم,

                حينَ ينظرُ أحدُهُمْ إلى السماءِ

                ترتفعُ معه عيونُ نبتة.

                وعلى الأرجحِ كانتِ الاشجارُ
                تنامُ حينَ يغمضُ الناسُ عيونَهم.

                وزهرةُ اللزَّانِ، الوحيدةُ في البراري،
                سعادتُها تأتي من لمسِ أيديهم.

                كانت حياتُهم تَعْني فرحَ نبتةٍ

                وشَبَعَ خروف،

                وتختلطُ حالاتُهم بحالاتِ أرزاقهم،
                تتكرَّرُ ولاداتُهُمْ مع

                ولاداتِ المواشي وانعقادِ الزهر
                ونُمُوِّ الخَضار،

                واللبنُ والنعناعُ بعضٌ من أجسادهم

                تعليق


                • #38
                  كان مصنعُ السمادِ يضخُّ

                  حبوبًا كأنَّهُ يضخُّ ذكرى من

                  الماضي وكان هناكَ شجرٌ يجوعُ،

                  وشجرٌ يَيْبَسُ، وشجرٌ يُحْرَقُ،
                  وشجرٌ يُذْبَحُ، وشجرٌ يقاوِمُ منتظرًا

                  ناسًا لا يستطيعونَ الوصولَ،

                  وناسًا سقطوا على الطريقِ،

                  وناسًا رحلوا إلى بلدانٍ بعيدة.
                  على بوَّابةِ المصنعِ عُشْبَةٌ تكبرُ
                  يومًا بعد يوم،

                  كأنَّها تتمتَّعُ وحدَها بحياةِ السماد.

                  وكانت تلك العشبةُ آخرَ ما

                  نظرتُ إليهِ وأنا أغادر.
                  ولكنْ لماذا أتذكَّر تلكَ اللحظاتِ
                  من أيَّامٍ تبدو لي

                  صَدِئَةً مثلَ لافتةِ طريقٍ

                  مَدْروزَةٍ بالرصاص؟

                  إنَّني هُنا الآنَ، في هذه

                  الغرفةِ الصغيرةِ على كنبةٍ.

                  وما عدا ذلك نوعٌ من

                  أنواع الوهم. الماضي؟

                  كَمَنْ يحاولُ إيقافَ عابرينَ
                  بالوَطْءِ على ظلالهم.
                  النافذةُ نفسُها، العُمَّالُ أنفسُهُمْ،
                  وبعضُ غيوم.

                  لا شيء تغيَّرَ منذُ الصباح،

                  فقط عقاربُ الساعةِ

                  تقدَّمَتْ بضعَ دقائق.

                  أتمشَّى قليلاً في الغرفةِ.

                  أقتربُ من المرآة. أُمشِّطُ شَعري.

                  اسحبُ من المِشْطِ شعرتيْنِ

                  وأُلقيهما في القُمامة.
                  أظافري طويلةٌ وكانَ يجب

                  أن أقُصَّها. كان يجبُ أن

                  أفعلَ شيئًا مُفيدًا.

                  أين الشعاع؟ قبلَ قليلٍ كانَ
                  يتقدَّمُ نحوي ويكادُ يلمسُ جسدي.
                  نظرتُ بشوقٍ إلى حَبْوه،
                  إلى طفولتِهِ الأولى في بيتي.
                  أنظرُ من النافذة. في السماءِ غيومٌ.
                  أظنُّها ستُمْطِرُ

                  تعليق


                  • #39
                    محاولة وصل ضفّتين بصوت 1997

                    1

                    وعاءٌ في يديَّ

                    ينتظر

                    حين تمطر السماء

                    أظنُّ يخرج الموتى

                    ليشربوا.

                    أعشاش عالية

                    الذين ألِفناهم شجرًا باسقاً

                    صاروا قشًّا حين حزنوا

                    ونزلت العصافيرُ ورفعتهم

                    بمناقيدِها.

                    غيوم

                    الذين جرفتهم المياه إلى الوادي

                    ارتفعوا غيومًا،

                    لم يمطروا

                    وقفوا فوق

                    نظروا إلى الأرض

                    وتبدَّدوا.

                    أقدام

                    هناك أيضًا

                    موتى تفجَّروا

                    ونزلوا أشعةً بيضاء على أشجارهم

                    حدث ذلك فجأةً يومَ كانوا نائمين

                    مطمئنين في ترابهم،

                    يوم فتحوا عيونهم ورأوا

                    أشياءً غريبة تمشي في حقولهم

                    على قدمين مثل ناس

                    من عصور غابرة

                    يومَ فتحوا عيونهم

                    وأخرجوها من الظلام

                    وتفجّروا.

                    إرث الموتى

                    طلعوا من تحت التراب

                    وعادوا

                    فقط ليرسموا ابتسامة

                    نسوا أن يتركوها لنا.

                    فضاء

                    عَلَتْ يداه راسمتين

                    قمرًا مشطورًا:

                    لم يكمل دائرته

                    تركَ فراغًا فوق

                    لينفذ منه القلب

                    إلى فضائه.

                    تكوين

                    بالفضاء النحيل الباقي بين يديه

                    حاولَ أن يعيد كونًا،

                    رسَمَ بدمعة نجمة

                    بنظرة قمرًا

                    شمسًا بلمسة

                    وحين أغمض عينه مشى الناس

                    إلى أعمالهم

                    على رصيف جفنه.

                    بَلَل

                    رَحَلَ هازئًا
                    كمن يتبلَّل في شتاء
                    ويخلع نفْسَه
                    عوض أن يخلع قميصه.


                    أحلامٌ أخرى

                    أعطيَ روحُه أن يبقى أربعين يومًا فوق جسده
                    كي يحقّق في فضائه الأخير
                    أحلامًا خابت على أرضه
                    لكنه
                    رفرفَ لحظةً
                    ومضى.

                    ظِل

                    نسمتُه الأخيرة
                    جَرَتْ وراءه على الدَّرَج
                    ونامت معه قرب عشبة
                    بين حَجَرين
                    وغيمةٌ عابرة
                    تركت ظلاً خفيفًا
                    على وجهه

                    تعليق


                    • #40
                      حديقة

                      قتلوه مرّات عديدة
                      حتى توزَّعَ
                      جثثًا.

                      لم يكن يحصي شواهده
                      كان فقط يتنزَّه
                      في حديقته الخلفية.


                      نزهة ذاك اليوم

                      يومَ غادَرَ ظلَّت على قفل الباب أصابعُ يديه
                      على الرصيف قدماه
                      فوق الإسفلت طبقة من جلده.

                      هل هذه نزهة أم موت؟
                      سألوا،
                      وحين رفع ذراعيه قالوا
                      يريد الطيران
                      لكنه كان يلوّح
                      لوجهه.


                      جنازة إلهية

                      اليد التي أخذت طفلها إلى القبر
                      عروقُها أمطرت
                      عميانًا على الحجر

                      وعينان فوق
                      رفرفتا قليلاً
                      وانضمَّتا إلى الماء.


                      الحياة هناك

                      دفنتْ طفلها هناك وانتظرت سنوات
                      لتنام قربه
                      وحين وضعوها في ذاك التراب
                      صار عمرها يومًا
                      وكان هو صار
                      عجوزًا.


                      زهور

                      وضعتْ زهرةً في وسط الدار
                      وزهرةً في الزاوية
                      وأخريات على الجدران
                      في الممشى في غرفة الطعام في المطبخ في غرف النوم

                      وذات يوم على السرير
                      نبتت زهرة غريبة
                      لها عينان مغمضتان
                      وفمٌ نصف مفتوح
                      ينتظر قطرة.


                      زهرة سريّة

                      قبل أن يأخذها النوم
                      إلى ساحاته الصامتة
                      قلَّمتْ اظافرها
                      ورمت نثراتها في حوض الزهور

                      وفي الصباح
                      نبتت في الحوض
                      يدٌ صغيرة.


                      مكانهم

                      ليس للنسيان محطّات على هذه الطريق
                      اليد التي لمست عابرين منذ أجيال
                      تلمسهم الآن مرةً أخرى
                      وغبارُهم ينزل من جديد
                      تحت أقدامهم.

                      كانوا يريدون فارسًا وجاء
                      عبَرَ سريعًا تاركًا
                      نسيمًا على قمصانهم،
                      من ظلّه سقط شيء على الطريق
                      ومذذاك
                      يدور الماشون في مكانهم على الإسفلت
                      والجالسون مسمَّرون
                      في مقاعدهم.


                      بلاد

                      أخذت اسمها من الماء
                      وسالت
                      والزبدُ الذي رأيناه على الموج
                      كان ناسَها
                      والعشبُ على الكثبان
                      ضلوعَهم

                      بلادٌ
                      كلُّ رجالها يغادرون
                      لذلك كانت نساؤها يقترنَّ
                      بالأشجار

                      تعليق


                      • #41
                        انتظار

                        سحبنا ظلالنا عن الطرقات
                        ونصَبْنا كمائننا:

                        الآن ننتظر
                        كي نصطاد رؤىً
                        تصعدُ لتصطاف في الأرواح.


                        الطريق

                        سلَّمتنا المياهُ أسرارها أخيرًا
                        لكننا كنا على حافة الشلال
                        فانحدرنا رذاذًا
                        مرسلين للنباتات نعومة سقوطنا

                        كنا في الحقل
                        نكمن لعصافير تطير وتحطّ
                        في غابات رؤوسنا
                        وحين رفعتْنا الغيومُ كنَّا أطلقنا رصاصاتنا
                        فأُُصبنا
                        وانحدرنا
                        نقاطًا

                        كنا تقريبًا نغنّي
                        نَصْلي دبْقَ أصواتنا ربما تعْلقُ
                        رقصاتٌ عليها
                        ربما غابرون مقيمون في الهواء يأتون
                        ويرافقوننا.

                        أخذْنا سرَّ الماء
                        سقوطَه
                        نثارَ مراياه
                        حيث كانت تعبر مسرعةً
                        كسورُ بيوتنا
                        رأينا أيضًا دروبًا كالأمعاء
                        يمرُّ فيها الناس كالفاكهة
                        وحينَ وَصَلْنا
                        كنا فقدنا الرؤية
                        وسمعنا تنفُّس العشب
                        في أجسادنا.


                        رغبة

                        كانت فقط مجرَّد رغبة
                        أن نحمل مظلاّتنا ونبتسم تحت المطر
                        أن نلعب قليلاً في الشوارع
                        ونتركَ على الرصيف نثارًا
                        من زجاجة العالم.


                        إعادة الإرث

                        الآن
                        نعيد صمتنا وأصواتنا
                        إلى مكانها الأول
                        حيث لا يَسمع أحدٌ
                        حتى لهاثَه

                        تعليق


                        • #42
                          استعادة شخص ذائب

                          هذه البحيرة ليست ماء.

                          كانت شخصًا تحدثتُ إليه طويلاً ثم ذاب!
                          ولا أحاول الآن النظرَ إلى

                          ماء بل استعادةَ شخص ذائب.
                          كيف يصير الناس هكذا بحيرات

                          يعلوها ورق الشجر والطحلب؟!
                          قطرةً قطرة ينزل الموتى على بابي
                          ومركبٌ يتوقف من أجلي تحت الشمس
                          وجالية فقيرة من الرعشات تعود إلى الرمل.
                          لم أرتجف. لكني جُننت.

                          الماء بارد لكني لم أرتجف.

                          فقط ارتعشتُ قليلاً. ثم جُننت.
                          على سطح البحيرة ورقة كانت عينًا.

                          على الضفَّة غصن كان ضلعًا بشريًا.
                          أحاول الآن جَمْعَ الأوراق والغصون.

                          أحاول جمع شخص كنت أحبُّه.
                          لكن مرَّ كثيرون من هنا

                          جمعوا ورقًا وحطبًا ليشعلوا مواقدهم.
                          لن يتمَّ أبدًا جمْعُ شخص.

                          لن يتمَّ جمع أعضاء كاملة. كثير منها احترق.
                          مع ذلك لا بدَّ من أن أعيد شخصًا كنت أحبّه.

                          على الأحبَّاء أن يعودوا إذا ناديتهم.

                          عليهم أن يعودوا ولو كانوا ماء.

                          لو كانوا أمواتًا. لو كانوا طحلبًا

                          على الطحلب أن يصير إنسانًا حين تستدعيه.

                          ويأتي لو مبلَّلاً لو مترهّلاً لو عفنًا.

                          عليه أن يعود صديقًا ولو مات منذ ألف عام.
                          يجب أن تكون هناك طريقة ما لجمع

                          الناس عن الضفاف. طريقة لإعادة الأوراق

                          والأغصان الطافية على البحيرات بشرًا.
                          لم أرتجف. الأعضاء ارتجفت.

                          وكان عليَّ أن أسدَّ الفراغ بين مفاصلها

                          كي أوقف ارتجافاتها وتهدأ.

                          ولكن كم طويلةٌ المسافةُ بين مفصلين!

                          وكم أحتاجُ إلى ردم لسدّ الفراغ بينهما!
                          كم هي طويلة المسافة بين ضلع وضلع!

                          أجري بطيئًا مثل آخر نقطة

                          ماء نزلتْ وتأخرتْ عن السيل.
                          أجري بطيئًا زاحفًا للالتحاق بالجريان

                          وأتبخَّر رويدًا رويدًا.
                          لن أصل. بعضي سيصير في الفضاء.

                          وبعضي سيغرق في الأرض.
                          تأخرتُ عن رفاقي ولن أصل.

                          أزحف لكني لن أصل.
                          قطَعٌ مني أفقدها وقطعٌ

                          ترافقني منهَكَة وقطع تصير هباء.
                          حتى إذا وصلتُ أيُّ شيء مني سيصل؟!
                          حولي عشب وحصى وتراب

                          تعليق


                          • #43
                            طيرٌ ينقدُ بعضي. ونملٌ يأكل بعضي.

                            وبعضي للعشب والحصى والتراب.
                            أجري بطيئًا وفوقي يصعد خيطٌ مني

                            وتحتي ينزل خيط مني.

                            أجري بطيئًا بين إبرتين تخيطان عدمي.
                            نزلتُ آخرَ نقطة. كنتُ في غيمة ونزلتُ.

                            هل أنا الباحث عن شخص ذائب أم أنا الذائب؟

                            أم أني من كثرة البحث عن ذوبانه ذبتُ مثله؟
                            وصرتُ عوض أن أبحث عنه أبحث عني!
                            أرى على الطريق أشخاصًا عابرين.

                            بعضُ ما بقي مني يرى أشخاصًا. هؤلاء

                            على الأرجح لم يفقدوا شخصًا أحبُّوه.

                            أم أنهم فقدوه ومع ذلك يكملون الطريق؟!
                            لا أعرف كيف لا تتوقف أرجلنا

                            عن المشي حين نفقد شخصًا نحبُّه.

                            ألم نكن نمشي لا على قدمينا بل على قدميه؟

                            ألم تكن النزهة كلها من أجله؟ ألم يكن هو النزهة؟
                            كيف يمشي واحدٌ إذا فقد شخصًا!

                            أنا حين فقدت شخصًا توقفت.

                            كان هو الماشي وأنا تابعه.

                            كنت الماشي فيه.و حين توقَّف لم تعُدْ لي قدمان.

                            تأخرتُ وزاحفٌ وأتبخَّر.

                            كيف إذن سأُعيد شخصًا ذاب؟

                            أليس عليَّ بالأحرى أن أعيد أولاً نفسي؟

                            أن أعود على الأقل قطرةَ ماء كاملة

                            تنزل على ورقة على عين على ضلعٍ على ضفَّة؟
                            أليس عليَّ لكي أُخرج من الطحلب شخصًا

                            أن أكون على الأقل من ماء البحيرة؟
                            تأخرتُ ولن أصل. كلُّ ما أفعله أني أرى

                            أرى من بعيد. رؤيةٌ مشوَّشة من

                            عين شيء لا هو غيمة ولا هو ماء ولا جماد ولا بخار.
                            إني إذن لا أرى.
                            كلُّ هذا مجرَّد خيال. عتمةٌ تستجدي عتمة.
                            ولن أرى ولن أصل ولن أستعيد شخصًا ولن أعيده…
                            إني فقط أحاول أن أزحف. أحاول أن ألحق برفاقي

                            تعليق


                            • #44
                              لكنهم صاروا بعيدين، بعيدين جدًا.

                              ربما كنتُ في الماضي شخصًا يبحث عن شخص ذابَ

                              أو ربما كنت أنا الذائب. الآن، حتى ولا قطرة.

                              وفي تماهيَّ المرعب بين الماء والبخار والشخص،

                              أبحثُ عن إسمٍ أعرّفُ به نفسي حين ألتقي

                              النمل والعشب والطير. أنت الزاحف مثلي،

                              ستتوقَّف حتمًا على نتوء. ارسلْ لي من هناك نداء،

                              وبه سأسمّي نفسي.
                              متماه بين ماء وجماد وبخار. مع ذلك لي مفاصل!
                              ومفاصلي بينها فراغات. ترتطم المياهُ بها،

                              ترتطم الرياح بها، ويرتطم الناس.
                              ناسٌ كثيرون يعبرون الآن بين مفاصلي.

                              لا أعرف من أين يأتون ولا إلى أين يذهبون.

                              لكنهم يرتطمون بعظامي.
                              ناسٌ التقيتُهم مرَّة، ناسٌ التقيتُهم مرات،

                              وناس لم ألتقِهم… لكنهم يتدفَّقون الآن، ويدقُّون على عظامي.
                              عليَّ أن أفتح هذه العظام لكي يدخلوا.
                              لو كانت هذه العظام بابًا!
                              من أين جاؤوا؟!
                              أظنُّ أن الذين ننظر إليهم يدخلون في

                              أجسادنا عَبْرَ عيوننا ويصيرون دمًا و لحمًا.
                              وبعضهم يصير من المارة التائهين بين مفاصلنا.
                              … ونستمرُّ، هكذا، نسمع طَرقات على عظامنا.

                              إني أسمع الآن دقَّات ماء
                              وعليَّ أن أفتح.




                              في النفَق… في العظْمة

                              قريبًا ينتهي الوقت.
                              الرياح تقترب من الجدار الهائل.
                              وهناك ستكبو.
                              عبرتْ سريعًا وانتهى السباق.

                              الرياح أخيرًا سترتاح.
                              تفتَّق الوقت. لم يعد معلَّقًا إلا بقطبة.

                              أنتظرُ تدلّيه، سقوطه ارتطامًا على الأرض!

                              تبدأ الحياة في اليوم الأخير.
                              الأيام كثيرة، لكن الحياة قليلة.
                              تتأجَّل من يوم إلى يوم.

                              وحين لا يبقى غيرُ يوم تتدفق كلها
                              إليه علَّها تحيا فيه…

                              وهكذا تبدأ الحياة، فقط حين انتهائها.
                              ولذلك، لن تعاش الحياة أبدًا!
                              لديَّ نهارٌ واحد بعد، ماذا أفعل؟ أبدأ الحياة؟

                              وبأيّ شيء أبدأها هذه الحياة؟
                              مع مَن؟ كيف؟ بأيّ فعل و أيّ كلام؟
                              وإذا صدَفَ أن التقيتُ أحدًا ماذا أقول له؟
                              الآن أبدأ بك حياتي؟

                              وإذا قلتُ و استجاب،

                              كيف أعيش حياةً أودّعها؟

                              كيف أحيا موت الحياة؟!
                              استيقظتُ باكرًا جدًا.

                              على الراحلين أن يستيقظوا

                              باكرًا جدًا ليملأوا نهاراتهم.
                              عليهم، على الأقل،

                              أن يروا الفجر قبل أن يذهبوا.
                              في فضاء هذه الغرفة نثارُ بشرٍ
                              عاشوا قبل آلاف السنين،

                              أودّعهم، وأصير مثلهم نثارًا.
                              أودّع نبضَ الكواكب الذي

                              وصل إليَّ عبْر التيه الفضائي،

                              من مجرَّات بعيدة. الوشوشات الكونيّة،
                              غبارَ النجوم،

                              الهواءَ المولود من ملايين السنين،

                              القاطعَ بصمت فضاءً هائلاً ليصل إليَّ.
                              أودّع شهقات البراكين،
                              رذاذَ المستنقعات البعيدة.

                              الصورَ الكراسي المرايا الساعات،
                              عيونَ أطفالي،

                              أحذيتَهم المرميّة كيفما كان على البلاط.
                              أودّع الأمواج التي تخترق جسدي،

                              الذبذبات الآتية من أقدم مكان،
                              من الارتطام العظيم!
                              هل كان عليَّ أن أرتطم

                              بنفسي كلَّ هذا الوقت،

                              ويرتطمَ كلُّ شيء بي،
                              لكي أصير في النهاية فريسة صامتة؟
                              ألم يكن في وسعي، من زمان،

                              أن أخفّف عن هذا العالم الضاجّ، صوتًا؟
                              الكون، يجب أن يرتاح.


                              على الأصوات كلّها أن تصمت.
                              آه، الهدوء!
                              لن أستطيع وصف نهار،
                              لن أستطيع وصف شيء. الكلام خيانة.
                              في النهار الأخير لا يتكلّمون.
                              فقط يصمتون و يغادرون.
                              تلك السهوب كانت صامتة أيضًا. وكنا،

                              مع تململ ترابها تحت

                              الشمس و الرياح، الصوتَ الوحيد.
                              غير أننا، بتلك الحركة الرتيبة

                              في هدأة الموت،

                              اقتنصنا أسرارًا من العظام.
                              كيف كان لنا، نحن البسطاء المرميين

                              في أشداق المتاهات،

                              أن نخترع أماكن تحمينا؟

                              كيف كان لنا أن نستمرَّ إلى اليوم!
                              لم نكن من جنس الخلود

                              تعليق


                              • #45
                                []
                                لكنَّ عظامَ ماشية وأعوادًا يابسة أنقذتنا.

                                ليست الحياة من كان يحمينا،

                                بل الموت مزجنا ولاداتنا بالعشب.

                                []وتحت تلك السنابل النحيلة تفيأت أرضنا.
                                لم نرتد ملابس وحلى وقلاَّدات.


                                لكنَّ أنفاسنا كانت ثيابنا وزينتنا. كنا عراة

                                . والحطب المنبثق من لهاثنا أدفأنا…

                                كان لهاثًا يابسًا، لذلك كان قابلاً للاشتعال.
                                وتحت النار كانت لنا احتفالات. نفرد لها،


                                في مسامنا، مقاعدَ للضيوف.
                                الحياة كانت تحت جلودنا، لا في الخارج.


                                وهكذا عشنا الحياة في مكمنها السرّي،

                                في العتمة، في الرحم قبل أن تولد.
                                احتفالاتنا كانت تقام في العروق لا في الساحات.


                                بيوتنا في خيال المكان. قوافلنا في الرأس لا على الدروب…
                                عشنا عدم الولادة: طفولتنا كانت هناك،


                                وشبابنا وشيخوختنا. وتقابلنا مع الحياة مرةً واحدة، أمام باب الموت.

                                كان أبي في الحرب يبحث في البراري عن عظْمة،


                                ليطحنها بحجر ويسدَّ جوعه.

                                من نسل تلك العظام المطحونة خرج أطفال،

                                كنتُ واحدًا منهم. كنتُ ابن عظْمة مطحونة.
                                في العظْمة، ينفتح الآن نَفَق، فيه برارٍ وحيوانات،


                                وفيه أبي يمشي من جديد، في البراري.
                                يمشي، وأنا معه يدًا بيد، نبحث عن عظْمة.
                                نمشي في قلب عظْمة، ونبحث عن عظْمة.


                                وحين رأيناها أخيرًا، كنا صرنا بعيدَين.
                                … كنا صرنا عظْمتين، فيهما نَفَق، وناسٌ يبحثون عن عظام.
                                مشيتُ في نفق العظْمة.


                                وضعني أبي في النقطة التي لا تُرى في التلافيف،

                                في غبرة الفراغ، الأمِّ الأولى لحياة العظام.
                                أدير رأسي الآن وأنظر: إلى الضائعين في نخاع العظام،


                                إلى الواقفين على أرصفتها، إلى المادّين أيديهم لاستعطاء مخرج،

                                إلى الموتى بكهرباء الروح، إلى الباحثين

                                عن حجر ليطحنوا عظْمتهم ويأكلوها،

                                إلى الداخلين لتوّهم… ولا يعرفون ماذا يفعلون.
                                أدير رأسي و أنظر: حين رميتُ نخاعَ العظام فتحتُ معبري.


                                كان الفراغ هو الطريق. كان الفراغ هو الحجر.
                                [/]
                                [/]

                                تعليق

                                مواضيع تهمك

                                تقليص

                                المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: Reem2Rabeh الوقت: 04-23-2025 الساعة 04:27 PM
                                المنتدى: ضبط وتوكيد الجودة نشرت بواسطة: HeaD Master الوقت: 04-15-2025 الساعة 09:30 AM
                                المنتدى: التصنيع والانتاج نشرت بواسطة: HeaD Master الوقت: 04-11-2025 الساعة 01:08 PM
                                المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: نوال الخطيب الوقت: 03-19-2025 الساعة 03:07 AM
                                المنتدى: الكمبيوتر والإنترنت نشرت بواسطة: عوض السوداني الوقت: 03-18-2025 الساعة 07:22 AM
                                يعمل...
                                X