
أيا كاتمة الأسرار ..
ما لهذا السحر ينثال من ملامحك ..
يا سمراء ..سمرة طين الأرض ..
يا رصينة ..رصانة الحكمة ..
ترى ما الذى أودعه بين ثناياك
إبن مصر ..حفيد الفراعنة
محمود مختار ..
من حكايا الماضى ..
على أرض مصر.. و الحاضر ..
و من أين أدركك هذا الإيمان
بقيمة أسرارك ..تاريخك ..
لتتمسكى بتراثك العريق ..الثمين
بكل هذا الإصرار بكل هذه الإرادة ؟
و كأن صوت
أول بيجورسون
يتردد عبر الزمن البعيد
و قد كان من الشخصيات
الفنية البارزة فى ستوكهولم
إذ إستوقفته روعة التصوير و المعانى
فسجل رأيه مبهوتا
هذه حالة روحانية فذة !
هى فعلا حالة لا يوجدها
بأزميله الضارب فى الصخر
إلا
محمود مختار
ليتشكل الحجر الصلد
إلى مرآة تعكس روح مصر
تشاهدها الأجيال المتعاقبة ..

فتشاهد مصر !
ولد محمود مختار عام 1891
فى قرية طنبارة بالقرب من المحلة الكبرى .
و كان والده الشيخ ابراهيم العيسوى
عمدة تلك القرية
ثم إنتقل إلى قرية نشا
بالقرب من مدينة المنصورة
و هناك
ألهبت خياله الطفولى ..
قصصا شعبية كانت تروى عن جده لأمه
الذى نفى للسودان فى عهد الخديوى اسماعيل
جراء دفاعه عن الفلاحين
بسبب جباية الضرائب و رفعته لمصاف الأبطال .
و كيف علم فى منفاه أهل السودان الزراعة
وصناعة الشواديف لرفع المياه
فى حكايات متداخلة
مع أوزورريس فى عهد الفراعنة
بجوار الترعة
و بهذا الخيال المشبوب..
و إحساسه الفطرى بالتشكيل الفنى
كم صنع مختار من تماثيل طينية ..
إستلهمها من مشاهد ريفية تترى أمامه
فلاحات حاملات للجرار .
حيوانات تجر المحراث ..حارس الحقول
يهرول بها لفرن الدار يسويها لتجف
و تكون أولى إرهاصات موهبته
التى تأكدت فيما بعد
و شغلت الدنيا بأعماله العبقرية .
ثم ..حدث أن إنتقل مختار
للإقامة فى القاهرة
عام 1902 مع والدته
فى حى الحنفى بجوار حى عابدين
و فى العام 1908
أسس
الأمير يوسف كمال
أول مدرسة للفنون الجميلة
بحى درب الجماميز
و عرف مختار و كان عمره
يناهز السبعة عشر عاما
بالأمر مصادفة
فما كان منه إلا تلبية إتجاهه الداخلى
كأول طالب يسجل بها
وتكون أولى خطواته لمستقبله اللامع
ثم إنضم اليه
يوسف كامل 1891 - 1971
و محمد حسن 1892 - 1961
و راغب عياد 1892 - 1983
و أحمد صبرى 1889 - 1955
لاحظ أساتذته الأجانب نبوغه الواضح ..
فأحاطوه بإهتمامهم
صورة نادرة
باولو فورشيلا

إيطالى
أستاذ التصوير
فى مدرسة الفنون الجميلة
و من الأساتذة أيضا أسماء
ساهمت فى رفع شأن المدرسة
كولون ..أستاذ الزخرفة
بيرون ..أستاذ العمارة ..
و غيرهم.
وفى هذه الفترة
نحت مختار تمثال كاريكاتورى
إبن البلد

فى معرض الطلبة الأول
و باع منه ثمانية نسخ بخامة الجبس
بسعر جنيهين للنسخة
و على إثر تقرير ناظر المدرسة
جيوم لابلانى
و هو فى الأصل
كان مديرا لأحد متاحف باريس
و فنانا ذائع الصيت
و جاء مصر تلبية لدعوة الأمير يوسف كمال
كتب
يشيد بنبوغ مختار و موهبته البادية
التى تمكنه من تشكيل آية فكرة تخطر بباله
و هنا إجتمعت الموهبة مع راعيها
فوافق الأمير
على إرسال مختار عام 1911 إلى باريس
لإتمام دراسته
و التكفل بمصروفاته حيث قضى ثمانى سنوات
حتى عودته إلى القاهرة عام 1920
و فى باريس ..كان أول الفائزين
فى مسابقة القبول
بمدرسة الفنون الجميلة
ecole des beaux-arts
البوزار
على أكثر من مائة طالب تقدموا إليها .
و إختار بالطبع أن يدرس فن النحت
و بذلك أصبح أول فنان معاصر
يلتقط أزميل آخر فنان فرعونى
و فى هذا الشأن
كتب الناقد الكبير وزير الثقافة الأسبق
و إبن أخت الفنان
المرحوم
بدر الدين أبو غازى
فى كتابه الشهيرالرائع ..
المثاّل مختار
و الذى يعد أوفى و أمتع موسوعة مصورة
تناولت كل ما يخص حياة الفنان و أعماله :
مختار هو بدء عودة الحياة إلى الأزميل
الذي هوى من يد آخر فنان فرعوني
وقد جاءتعبيرا عن فكرة قومية
ومعنى هز مشاعر الجموع
و به بدأ الإحساس بالفن
كضرورة قومية
ردت للناس الثقة
وجعلته نشيدا من أناشيد الأمل
في عصر النهضة ..
فكان تمثال نهضةمصر هو أول تمثال
أقيم بيد مصري في العصر الحديث
"بدر الدين أبو غازي"
و إذا تحدثنا عن محمود مختار
فلابد من إقترانه بالحقبة التى عاش فيها ..
و قد يكون من الأوفق تسميتها إجمالا
عصر مختار .
عصر ..هو بشارة أمل ..و بعث جديد ..
لجيل من معدن أصيل ..
نهل من التيار الأوروبى
فتاقت نفسه للتحرر من قيود طالما
حجبت الإبداع و الجمال .
و من دون أن تهتز أرض التراث
و التقاليد المصرية الراسخة من تحت أقدامهم
إنبرت طلائع التنوبير ..للبعث الجديد .
فكما ذكرنا سابقا ..
إفتتح الأمير يوسف كمال
عام 1908
مدرسة الفنون الجميلة
أصبحت فيما بعد كلية
كما
أنشئت
الجامعة المصرية القديمة .
وعاشت مصر أجواء نهضة شاملة
تنفض عنها غبار الإحتلال و الإنكسار
إثر إكتشاف آثار توت غنخ آمون
نهضة ..
طالت كل مناحى الحياة المصرية
و لمعت أسماء
محمد عبده ..فى الإصلاح الإجتماعى
سعد زغلول.. فى الزعامة السياسية
مصطفى كامل و محمد فريد
طلعت حرب.. فى المجال الإقتصادى و المالى
طلعت حرب.. فى المجال الإقتصادى و المالى
أحمد شوقى و حافظ إبراهيم و إسماعيل صبرى
و خليل مطران..فى الشعر
و لا نغفل مقالات لطفى السيد عن الفنون الجميلة
وكتابات فرح أنطون فى مجلة الجامعة يكتب
عن فلسفة الجمال
عند رسكن
كما
بدأ الأدب يتحرر من السجع و التكلف
على يد شيخ أدباء العصر
حسين المرصفى
وبرزت إتجاهات
قاسم أمين لتحرير المرأة
و فى
الغناء و التمثيل
كان عصر
سيد درويش
و سلامة حجازى
وبدايات
ام كلثوم
و إزدهر العصر بنجوم لامعة
فى الفنون التشكيلية
راغب عياد
محمد حسن
يوسف كامل
احمد صبرى..البورتريه
محمود سعيد
محمد ناجى
إلى جانب مجموعة من المثقفين
تخصصوا فى الطب و الهندسة
و القانون و العلوم
آخذين على عاتقهم العطاء ..و التقدم .
تمهيد و لا أروع ..
و تعبيد لطريق جديد .
توّجه الأمير يوسف كمال
برعايته للفنون الجميل
و من ثم ظهور
محمد مختار !
الذى عرف طريقه مبكرا للمظاهرات
و الإشتباك مع قومندام و عساكر الإنجليز
و تميز بحس وطنى جارف
إضافة لشاعرية وذكاء و ذوق رفيع
لتكون باكورة أعماله فى مصر
طارق إبن زياد
و عمرو ابن العاص
و خولة بنت الأزور
صورة نادرة
و فى الخلفيةيبدو التمثال المفقود
لخولة بنت الأزور .

بطلة عربية
حررت نساء قبيلتى تبع و حمير
من أسر الروم .
فى طريقه إلى فرنسا ..
كتب مختار هذه الأبيات ..و كأنها نبؤته
التى صدق فيها حدسه إلى آخر مدى
أعلل نفسى بالمعانى تخيلا
فياليت آمال الخيال تكون
سأرفع يوما للفنون لواءها
و يبقى لذكراها بمصر رنين
فى باريس ..تجمعت نخبة من مفكرى مصر
يتعلمون مناهجها و تياراتها الحديثة
التقاهم مختار
فى الحى اللاتينى ..
إنما
بقلوب مصرية ..و هوية مصرية ..
و منابع ريفية أصيلة
طه حسين ..
يعد فى السوربون رسالتةعن ابن خلدون
مصطفى عبد الرازق..
عن الإمام الشافعى ..
و محاضر فى جامعة ليون فى الفلسفة الإسلامية
محمد حسين هيكل يكتب ..زينب
محمد صبرى السوربونى..
تاريخ مصر الحديثة
أحمد ضيف ..قصة منصور
هؤلاء
كانوا فخرا لمصر
كماكانوا طريق ثورة 1919الشعبية
مختار ما بين باريس و مصر
برعاية أساتذته الجدد
كوتان
و كان فنانا مرموقا آنذاك
مرسييه
و إنجلبرت
تقدم مختار فى عام 1913
إلى المعرض السنوى للفنانين الفرنسيين
صالون باريس
بتمثاله
عايدة
بطلة أوبرا فيردى الشهيرة
فنال كل الإستحسان
و كان مجرد قبول التمثال
فى الصالون الشهير
بمثابة شهادة بإمتياز مثاّل مصر
ثم إختار أن يقيم تمثالا شمعيا
لأم كلثوم
فى بداية مشوارها عام 1025
و تبدوعلى يسار الصورة أدناه
بينما يظهر أيضا يمين الصورة تمثال
آنا بافلوفا أشهر رقصة باليه

و للأسف دمرا ..فى الحرب العالمية الثانية .
"أننى أومن أن اعظم شعبين فى العالم
فى فن النحت هما مصر أولاً وبعدها فرنسا.
لقد أوجد الأغريق نحتاً فيه
رشاقة عن النحت المصرى القديم
، ولكنى لا أحس فيه صفاء نحت مصر القديمة
وما يحمله من طاقات القوة والحياة".
"مختار"
كانت دراسة محمود مختارإلى
ما قبيل سفره إلى فرنسا قد
تركزت حول النموذج الإغريقى
و الرومانى فى فن النحت
لكن ما لمسه فى باريس
من تقدير كبير للتراث النحتى الفرعونى
أوصله
الى معادلة خاصة به و برؤية تجمع ما بين
مقاييس الجمال الفرنسية فى الفن المحافظ
المستمد من من التراث الإغريقى
و بين الطابع المصرى و النكهة المغرقة فى المحلية
و النابعة من التراث الفرعونى القديم .
كما أنه
و برغم إنفتاحه على كل التيارات الفنية الحديثة
حيث ظهرت التكعيبية و السيريالية و التجريدية
لم يتخد منها موقف التابع المقلد
و إحتفظ بشخصيته و ثقته فى أعماله
لينبع الفن حقيقيا و من الداخل
قائلا :
"إن تصوير الخيال
قد يكون غالباً المقصود منه
ستر
قلة المهارة وقلة الكفاءة
تحت اسم شهى جذاب،
اذ ان غايته فى السهولة
تطبيق قواعد موضوعة
بدلا من تصوير أشكال شيقة".
و أضاف أن إضافة الخيال
لتطعيم الأعمال الفنية
لابد أن تكون فى حدود
و بدرجة لا تخل بالواقع الملموس
و بناء على نصيحة أساتذته
جاء إلى مصر خصيصا
و كجزء من دراسته لمشاهدة
الآثار الفرعونية عن قرب
فى الأنتكخانة "دار الآثار" .
وجه فتاة مصرية

رغم إنتماء هذا التمثال لمرحلة ما قبل باريس
تتجلى هنا مميزات النحت الفرعونى
الذى إنحاز اليه مختار
من حيث الصفاء و التماسك و الوضوح
هاربا من جمود قواعد النحت الإغريقة
بالنسبة للإنفعالات
بأن أضفى من موهبته
و روحه المرحة على الفتاة التى كشفت عن
قوة شخصيتها ..بإبتسامتها الخفيفة !
و بالمناسبة فإن مختار
ضنين بالإبتسامة الواضحة
و بالكاد تبدو على الوجوه الكادحة .
و تتميزأعمال مختار
بالإعتناء البالغ بالتفاصيل
و تخطى سطحية التمثال
إلى إبراز المشاعر ..نافذا إلى الأعماق
فكأنك تتعايش مع أحوال شخوصه المعبرة
كما فى تمثال
الحزن

الحزن ..فى النظرة المنكسرة
فى الجلسة
فى الذراع المستسلم على صدرها
شيخ البلد

تلاحظ سمات شيخ البلد ..
و عادة كان من الأثرياء
ذوى السلطة ..
فيه بعض التعالى و الغطرسة .
زوجة شيخ البلد

يبدو واضحا بحكم مسؤليتها
كزوجة شيخ البلد
تهيؤها لإستقبال ضيوف ..
ضبط الطرحة على عجل ..
و اليد الممدودة للسلام ...
دعا مختار إلى ضرورة إقامة المدارس الفنية
و إنشاء المتاحف و العناية بالبعثات الفنية
و إقامة المعارض الدورية ..
مرتفعا بقيمة الجمال ..فبثه
فى شتى معالم الحياة فى مصر
بقدرة فذة على التعبير عن تفاصيل الحياة اليومية
بأفراحها و أتراحها
و أتراحها
جاعلا من الفلاح و الفلاحة ..
قلب مصر النابض ...
و لعله من المناسب قبل الإسترسال فى عرضنا لأعمال مختار
إدراج هذا الرأي الذى جاء فى مجلة فرنسية
عام 1930
"تلوح فلاحات مختار
فى طريقهن للنهر و فى عودتهن
نابضات بالحياة و الشباب
و الحركة تحت الأردية التى تلف أجسامهن "
إسترفان لو .
-1-
يتبع
تعليق