إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الأديب اللبناني جبران خليل جبران ملف كامل

تقليص
هذا الموضوع مغلق.
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    حضرة الأديبة الفاضلة
    الآنسة ماري زيادة المحترمة

    سلام على روحك الطيبة الجميلة
    وبعد فقد استلمت اليوم أعداد المقتطف التي
    تفضلت بإرسالها إليّ فقرأت مقالاتك الواحدة
    أثر الأخرى وأنا بين السرور العميق والإعجاب الشديد
    ولقد وجدت في مقالاتك سرباً من تلك الميول
    والمنازع التي طالما حامت حول فكرتي وتتبعت
    أحلامي ولكن هناك مبادئ ونظريات أخرى وددت
    لو كان بامكاننا البحث فيها شفاها
    فلو كنت الساعة في القاهرة لاستعطفتك لتسمحي
    لي بزيارتك فنتحدث مليا في " أرواح الأمكنة "
    وفي " العقل والقلب " وفي بعض مظاهر
    " هنري برغسن" ( هنري برغسن فيلسوف
    فرنسي حاز على جائزة نوبل عام 1927
    وهو صاحب نظرية الروحانية ضد هجمات
    المذاهب المادية من مؤلفاته
    " المادية والذاكرة" و " التطور والأخلاق" )
    غير أن القاهرة في مشارق الأرض ونيويورك
    في مغاربها وليس من سبيل إلى الحديث الذي
    أوده وأتمناه
    إن مقالاتك هذه تبين سحر مواهبك وغزارة
    إطلاعك وملاحة ذوقك في الانتقاء والانتخاب
    وعلاوة على ذلك فهي تبين بصورة جلية
    اختباراتك النفسية الخاصة
    – وعندي أن الاختبار أو الاقتناع النفسي
    يفوق كل علم وكل عمل –
    وهذا ما يجعل مباحثك من أفضل ما جاء
    من نوعها في اللغة العربية
    ولكن لي سؤال استأذنك بطرحه لديك
    وهو هذا :ألا يجيء يوم يا ترى تنصر فيه
    مواهبك السامية من البحث في مآتي الأيام
    إلى إظهار أسرار نفسك واختباراتها الخاصة
    ومخبآتها النبيلة ؟
    أفليس الابتداع أبقى من البحث في المبدعين ؟
    ألا ترين أن نظم قصيدة أو نثرها أفضل
    من رسالة في الشعر و الشعراء ؟
    إني كواحد من المعجبين بك أفضل أن اقرأ لك
    قصيدة في ابتسامة أبي الهول مثلا من أن أقرأ لك
    رسالة في تاريخ الفنون المصرية وكيفية تدرجها
    من عهد إلى عهد ومن دولة إلى دولة لأن بنظمك
    قصيدة في ابتسامة أبي الهول تهبيني شيئاً نفسياً
    ذاتياً أما بكتابتك رسالة في تاريخ الفنون المصرية
    فانك تدلينني على شيء عمومي عقلي
    وكلامي هذا لا ينفي كونك تستطيعين اظهار
    اختباراتك النفسية الذاتية في كتابة تاريخ الفنون
    المصرية بيد أني أشعر بأن الفن – والفن اظهار
    ما يطوف ويتمايل ويتجوهر في داخل الروح-
    هو أحرى وأخلق بمواهبك النادرة من البحث –
    والبحث اظهار ما يطوف ويتمايل ويتجوهر في الاجتماع
    ليس ما تقدم سوى شكل من الاستعطاف باسم الفن
    فأنا استعطفك لأني أريد أن استميلك إلى تلك
    الحقول السحرية حيث سافو
    ( شاعرة اغريقية ولدت في مدينة ليزبوس
    في أوائل القرن السادس قبل الميلاد لها تسع
    دواوين من الشعر الغنائي والاناشيد
    لم يصلنا منها سوى بضع قصائد )
    وايليزبيت براوننغ ( شاعرة بريطانية مبدعة
    تمتاز قصائدها بالعمق والرقة والنزعة الصوفية
    وهي زوج الشاعر الانكليزي روبيرت براوننغ
    الذي أحبها من خلال قصائدها قبل أن
    يتعرف إليها ثم زارها في بيتها فأحبته حباً عارماً
    جعلها تتغلب على مرض عضال كان قد أقعدها )
    وأليس شراينر ( كاتبة انكليزية دعت في
    مؤلفاتها إلى تحرير النساء )
    وغيرهن من أخواتك اللواتي بنين سلّما
    من الذهب والعاج بين الأرض والسماء
    أرجوك أن تثقي بإعجابي وأن تتفضلي بقبول
    احترامي الفائق والله يحفظك

    المخلص
    جبران خليل جبران
    نيويورك 24 كانون الثاني 1919

    تعليق


    • #17
      عزيزتي الآنسة مي

      لقد أعادت رسالتك إلى نفسي ذكرى ألف ربيع
      وألف خريف وأوقفتني ثانية أمام تلك الأشباح
      التي كنا نبتدعها ونسيرها موكباً إثر موكب
      تلك الأشباح التي ما ثار البركان
      ( يقصد بذلك الحرب العالمية الأولى )
      في أوربا حتى انزوت محتجبة بالسكوت
      وما أعمق ذلك السكوت وما أطوله
      هل تعلمين يا صديقتي أنني كنت أجد في
      حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة ؟
      وهل تعلمين بأنني كنت أقول لذاتي هناك في
      مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا قد دخلت
      الهيكل قبل ولادتها ووقفت في قدس الأقداس
      فعرفت السر العلوي الذي تخفره جبابرة الصباح
      ثم اتخذت بلادي بلاداً لها وقومي قوماً لها ؟
      هل تعلمين بأنني كنت أهمس هذه الأنشودة
      في إذن خيالي كلما وردت عليّ رسالة منك ؟
      لو علمت لما انقطعت عن الكتابة إليّ
      وربما علمت فانقطعت وهذا لا يخلو من
      أصالة الرأي والحكمة
      أما مقالة أبي الهول فالسماء تعلم بأنني لم أطلبها
      منك إلا بعد إلحاح مستمر
      من صاحب مجلة الفنون – سامحه الله
      فان من طبعي استهجان اقتراح المواضيع
      على الأدباء خصوصاً تلك الفئة القليلة
      التي لا تدون إلا ما توحيه الحياة إليها
      وأنت من تلك الفئة القليلة
      وفوق ذلك فأنا أعلم أن الفن يطلب
      ولا يطلب منه وأن في نفس اقتراح المواضيع
      شيئاً مانعاً عن الإجادة فيها فلو كتبت إلي
      في ذلك الزمن قائلة :
      " لا ميل لي الآن إلى كتابة مقالة في أبي الهول "
      لقلت مترنماً :
      " لتعش ميّ طويلا فهي ذات مزاج فني لا غش فيه "
      الخلاصة أنني سأسبقك في كتابة مقالة
      في ابتسامة أبي الهول ! وبعد ذلك سأنظم قصيدة
      في ابتسامة ميّ ولو كان لدي صورتها مبتسمة
      لفعلت اليوم ولكن عليّ أن أزور مصر
      لأرى ميّ وابتسامتها
      وماذا عسى أن يقول الكاتب في ابتسامة المرأة؟
      أفلم يقل ليونردو دافنشي آخر كلمة في الموضع
      عندما انتهى من صورة " لا جوغندا " ؟
      ولكن أليس في ابتسامة الصبية اللبنانية سر
      لا يستطيع ادراكه واعلانه غير اللبناني
      أم هي المرأة لبنانية كانت أم ايطالية
      تبتسم لتخفي أسرار الأبدية وراء ذلك
      النقاب الرقيق الذي تحوكه الشفاه

      تعليق


      • #18
        "المجنون " وماذا يا ترى أقول لك عن المجنون ؟
        -أول مؤلفات جبران باللغة الانجليزية
        -
        أنت تقولين أن فيه ما يدل على " القسوة"
        بل وعلى " الكهوف المظلمة"
        وأنا الآن لم أسمع مثل هذا الانتقاد مع انني
        قرأت الكثير مما نشرته جرائد ومجلات
        اميركا وانكلترا في هذا الكتاب الصغير
        والغريب أن أكثر الأدباء الغربيين
        قد استحسنوا القطعتين :
        My Minds
        و
        The Sleep Walkers
        واستشهدوا بهما أو ذكروهما بصورة خاصة
        أما أنت يا صديقتي فقد وجدت فيهما القسوة
        وماذا ينفع الانسان إذا ربح استحسان العالم
        وخسر استحسان ميّ ؟
        وقد يكون ارتياح هؤلاء الغربيين إلى المجنون
        واخيلته ناتجاً عن مللهم أخيلة نفوسهم وعن ميلهم
        الطبيعي إلى الغريب والغير مألوف خصوصاً
        إذا كان شرقي المظاهر
        أما تلك الأمثال والقصائد المنثورة
        التي نشرت في الفنون فقد ترجمها عن
        الأصل الانكليزي أديب محبته لي أوسع قليلا
        من معرفته بدقائق البيان الانكليزي
        ولقد رسمت بالحبر الأحمر دائرة حول لفظة
        " اشمئزاز" التي جاءت في كلامك عن المجنون
        فعلت ذلك لعلمي بأنك إذا وضعت كلمات
        The Sleep Walkers
        بين شفاه الأمس والغد بدلا من وضعها
        على لسان أم وابنتها لأبدلت لفظة الاشمئزاز
        بلفظة أخرى – أليس كذلك ؟
        وماذا أقول عن كهوف روحي ؟
        تلك الكهوف التي تخيفك – اني التجئ إليها
        عندما أتعب من سبل الناس الواسعة
        وحقولهم المزهرة وغاباتهم المتعرشة
        إني أدخل كهوف روحي عندما
        لا أجد مكاناً آخر أسند إليه رأسي
        ولو كان لبعض من أحبهم الشجاعة لدخول تلك
        الكهوف لما وجدوا فيها سوى رجل راكع
        على ركبتيه وهو يصلي
        أما استحسانك الرسوم الثلاثة في المجنون
        فقد سرني ودلني على وجود عين ثالثة بين عينيك
        وقد طالما عرفت أن وراء أذنيك آذان خفية
        تسمع تلك الأصوات الدقيقة الشبيهة بالسكوت
        تلك الأصوات التي لا تحدثها الشفاه
        والألسنة بل ما وراء الألسنة والشفاه من الوحدة
        العذبة والألم المفرح والشوق إلى ذلك
        العالم البعيد الغير معروف
        وأنت تسألين ما إذا كنت أريد أن
        يفهمني أحد بعد قولي :
        For those who understand
        us enslave something in us
        ( لأن الذين يدركون خبايا نفوسنا يأسرون شيئا منها)
        لا لا أريد أن يفهمني بشري إذا كان فهمه إياي
        ضرياً من العبودية المعنوية
        وما أكثر الذين يتوهمون أنهم يفهموننا لأنهم
        وجدوا في بعض مظاهرنا شيئاً شبيهاً بما اختبروه
        مرة في حياتهم
        وليتهم يكتفون بادعائهم ادراك أسرارنا
        – تلك الأسرار التي نحن ذواتنا لا ندركها –
        ولكنهم يصموننا بعلامات وأرقام ثم يضعوننا
        على رف من رفوف أفكارهم واعتقاداتهم
        مثلما يفعل الصيدلي بقناني الأدوية والمساحيق !
        أوليس ذلك الأديب الذي يقول بأنك تقلدينني في
        بعض كتاباتك من هؤلاء البشر الذين يدعون فهمنا
        ومعرفة خفايانا؟
        وهل تستطيعين اقناعه بأن الاستقلال هو محجة
        الأرواح وإن أشجار السنديان والصفصاف
        لا تنمو في ظلال بعضها البعض ؟
        ها قد بلغت هذا الحد من رسالتي ولم أقل كلمة واحدة مما قصدت أن أقوله عندما ابتدأت
        ولكن من يا ترى يقدر أن يحول الضباب اللطيف إلى تماثيل وانصاب ؟
        ولكن الصبية اللبنانية التي تسمع ما وراء الأصوات سترى في الضباب الصور و الأشباح
        والسلام على روحك الجميلة
        ووجدانك النبيل وقلبك الكبير والله يحرسك

        المخلص
        جبران خليل جبران
        نيويورك في 7 شباط 1919

        تعليق


        • #19
          عزيزتي الآنسة ميّ

          رجعت اليوم من سفره مستطيلة إلى البرية
          فوجدت رسائلك الثلاث والمقال الجميل الذي
          تفضلت بنشره في جريدة المحروسة
          ولقد علمت من خادمي أن هذه الرسائل بل هذه
          الثروة الجليلة قد وصلت معاً منذ أربعة أيام
          الظاهر أن البريد المصري قد توقف عن اصدار
          الرسائل من القطر مثلما حجز الرسائل الواردة إليه
          ولقد انصرفت عن كل ما وجدته بانتظاري في
          هذا المكتب لأصرف نهاري مصغياً إلى حديثك
          الذي يتمايل بين العذوبة والتعنيف – أقول التعنيف
          لأنني وجدت في رسالتك الثانية بعض الملاحظات
          التي لو سمحت لنفسي الفرحة أن تتألم لتألمت منها
          ولكن كيف اسمح لنفسي النظر إلى شبه سحابة في
          سماء صافية مرصعة بالنجوم ؟
          وكيف أحول عيني عن شجرة مزهرة
          إلى ظلّ من أغصانها ؟
          وكيف لا أقبل وخزة صغيرة من يد
          عطرة مفعمة بالجواهر ؟
          إن حديثنا الذي أنقذناه من سكوت خمسة أعوام
          لا ولن يتحول إلى عتاب أو مناظرة فأنا أقبل بكل
          ما تقولينه لاعتقادي بأنه يجمل بنا وسبعة آلاف ميل
          تفصلنا ألا نضيف فتراً واحداً إلى هذه المسافة الشاسعة
          بل أن نحاول تقصيرها بما وضعه الله فينا
          من الميل إلى الجميل والشوق إلى
          المنبع والعطش إلى الخالد
          يكفينا يا صديقتي ما في هذه الأيام وهذه الليالي
          من الأوجاع والتشويش والمتاعب والمصاعب
          وعندي أن فكرة تستطيع الوقوف أمام المجرد
          المطلق لا تزعجها كلمة جاءت في كتاب
          أو ملاحظة أتت في رسالة
          إذا فلنضع خلافاتنا _ وأكثرها لفظية _ في صندوق
          من ذهب ولنرمي بها إلى بحر من الابتسامات
          ما أجمل رسائلك يا ميّ وما أشهاها فهي
          كنهر من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير
          مترنماً في وادي أحلامي بل هي كقيثارة اورفيوس
          ( شاعر وموسيقي تحدثت عنه أساطير اليونان
          سحر بأنغامه وحش الغاب وآلهة الجحيم )
          تقرب البعيد وتبعد القريب وتحول بارتعاشاتها
          السحرية الحجارة إلى شعلات متقدة والأغصان
          اليابسة إلى أجنحة مضطربة
          إن يوماً يجيئني منك برسالة واحدة لهو من الأيام
          بمقام القمة من الجبل فما عسى أن أقول في يوم
          يجيئني بثلاث رسائل ؟
          ذلك يوم انتحى فيه عن سبل الزمن لأصرفه
          متجولا في إرم ذات العماد
          وبما أجيب على سؤالاتك؟
          وكيف أستطيع متابعة الحديث وفي النفس
          مالا يسيل مع الحبر ؟
          ولكن لا بد من متابعة الحديث فما بقي
          صامتاً ليس بالغير مفهوم لديك

          تعليق


          • #20
            تقولين في رسالتك الأولى
            " لو كنت أنا في نيويورك لكنت زرت
            مكتبك الفني في هذه الأيام "
            أفلم تزوري مكتبي قط ؟
            أليس رواء أثواب الذكرى الظاهرة جسد خفي للذكرى ؟
            انما مكتبي هيكلي وصديقي ومتحفي وجنتي وجحيمي
            هو غاب تنادي فيه الحياة الحياة وهو صحراء خالية
            أقف في وسطها فلا أرى سوى بحر من رمال وبحر من أثير
            إن مكتبي يا صديتقي هو منزل بدون جدران وبدون سقف
            ولكن في مكتبي هذا أشياء كثيرة أحبها وأحافظ عليها
            أنا مولع بالآثار القديمة وفي زوايا هذا المكتب
            مجموعة صغيرة من طرائف الأجيال وبعض
            نفائسها كتماثيل وألواح مصرية ويونانية
            ورومانية وزجاج فينيقي وخزف فارسي
            وكتب قديمة العهد ورسوم ايطالية وفرنسية
            وآلات موسيقية تتكلم وهي صامتة
            ولا بد من الحصول يوما ما على تمثال
            كلداني من الحجر الأسود
            إني أميل بكليتي إلى كل شيء كلداني
            فأساطير هذا الشعب وشعره وصلواته
            وهندسته بل وأصغر أثر أبقاه الدهر من فنونه
            وصنائعه ينبّه في داخلي تذكارات غامضة بعيدة
            ويعود بي إلى الماضي الغابر ويجعلني
            أرى الحاضر من نافذة المستقبل
            أحب الآثار القديمة وأشغف بها لأنها من أثمار
            الفكرة البشرية السائرة بألف قدم من الظلام نحو
            النور – تلك الفكرة الخالدة التي تغوص بالفن
            إلى أعماق البحار وتصعد به إلى المجرة
            أما قولك " ما أسعدك أنت القانع بفنك "
            فقد جعلني أفتكر طويلاً لا يا ميّ
            لست بقانع ولا أنا بسعيد
            في نفسي شيء لا يعرف القناعة
            ولكنه ليس كالطمع ولا يدري ما السعادة
            غير أنه لا يشابه التعاسة
            في أعماقي خفقان دائم وألم مستمر
            ولكنني لا أريد ابدال هذا ولا تغيير ذاك
            ومن كان هذا شأنه فهو لا يعرف السعادة
            ولا يدري ما هي القناعة ولكنه لا يشكو
            لأن في الشكوى ضرباً من الراحة
            وشكلاً من التفوق
            وهل أنت سعيدة وقانعة بمواهبك العظيمة ؟
            أخبريني يا ميّ هل أنت قانعة وسعيدة ؟
            أكاد أسمعك هامسة :
            " لا لست بقانعة ولا أنا بسعيد ة"
            إن القناعة هي الاكتفاء والاكتفاء محدود
            وأنت غير محدودة
            أما السعادة فهي أن يملأ المرء نفسه من خمرة
            الحياة ولكن من كان كأسه سبعة آلاف فرسخ
            بالطول و سبعة آلاف فرسخ بالعرض لا
            ولن يعرف السعادة
            حتى تنسكب الحياة بكاملها في كأسه
            أفليس كأسك يا ميّ سبعة آلاف فرسخ وفرسخ ؟

            وماذا أقول عن " جوي المعنوي" لقد كانت حياتي
            منذ عام أو عامين لا تخلو من الهدوء والسلامة
            أما اليوم فقد تبدل الهدوء بالضجيج والسلامة بالنزاع
            إن البشر يلتهمون أيامي ولياليّ ويغمرون أحلامي
            بمنازعهم ومراميهم فكم مرة هربت
            من هذه المدينة الهائمة إلى مكان قصيّ
            لأتخلص من الناس ومن أشباح نفسي أيضاً
            إنما الشعب الأماركي جبار لا يكل ولا يمل
            ولا يتعب ولا ينام ولا يحلم
            فإذا بغض هذا الشعب رجلا قتله بالإهمال
            وإذا أحبه قتله بالانعطاف
            فمن شاء أن يحيى في نيويورك
            عليه أن يكون سيفاً سنيناً
            ولكن في غمد من العسل
            السيف لروع الراغبين في قتل الوقت
            والعسل لارضاء الجائعين !

            تعليق


            • #21
              وسوف يجيء يوم أهرب فيه إلى الشرق
              إن شوقي إلى وطني يكاد يذيبني ولولا هذا القفص
              الذي حبكت قضبانه بيدي
              لاعتليت متن أول سفينة سائرة شرقاً
              ولكن أي رجل يستطيع أن يترك بناءً
              صرف عمره بنحت حجارته وصفّها ؟
              حتى وإن كان ذلك البناء سجناً له فهو لا يقدر
              أو لا يريد أن يتخلص منه في يوم واحد
              سامحيني أيتها الصديقة العزيزة فقد أزعجتك
              بالكلام عن نفسي وبشكواي من أمور أدعى إلى
              الجهاد منها إلى التذمر
              إن استحسانك " المواكب" قد جعلها عزيزة لديّ
              أما قولك بأنك ستستظهرين أبياتها فمنّة أحني
              أمامها رأسي غير أنني أشعر بأن حافظتك
              خليقة بقصائد أسمى وأبلغ وأنبل من كل
              ما جاء في المواكب بل ومن كل ما كتبته وأكتبه
              وأما قولك في رسوم الكتاب " أنتم أهل الفن
              تبرزون هذه البدائع بقوى أثيرية احتفظتكم عليها
              ملوك الجوزاء فنأتي بغباوتنا أشقياء مظلومون
              ونحن بها أشقياء خاسرون
              " فكلام لا أقبله بل إني استميحك بالتمرد عليه
              و ما أكثر تمردي أنت يا ميّ منا وفينا بل وأنت
              بين الفن وأبنائه كالوردة بين أوراقها
              إن ما جاء في مقالتك التي نشرت في
              " المحروسة" عن رسوم المجنون لأكبر دليل
              على شعور فني عميق وفكرة خاصة دقيقة
              وبصيرة نفاذة ترى ما لا يراه غير القليل من الناس
              ولست بمبالغ إذا قلت بأنك أول صبية شرقية
              مشت في غابة الأخوات التسع
              ( إشارة إلى الآلهات التسع في الميثولوجيا الاغريقية
              المشرفات على الآداب والفنون وقد عرفن
              بأسماء عديدة في عصور التاريخ القديم )
              بقدم ثانية ورأس مرفوع وملامح منفرجة
              كأنها في بيت أبيها
              ألا فأخبريني كيف عرفت كل ما تعرفين
              وفي أي عالم جمعت خزائن نفسك وفي أي
              عصر عاشت روحك قبل مجيئها إلى لبنان ؟
              إن في النبوغ سراً أعمق من سر الحياة
              وأنت تريدين أن تسمعي ما يقوله الغربيون
              عني فألف شكر لك على هذه الغيرة
              وهذا الاهتمام القومي
              لقد قالوا الشيء الكثير وكانوا مبالغين
              في أقوالهم متطرفين في ظنونهم متوهمين
              وجود الجمل في وكر الأرنب
              ويعلم الله يا صديقتي بأنني ما قرأت شيئاً
              حسناً عني إلا ونحت في قلبي
              إن الاستحسان نوع من المسؤولية يضعها
              الناس على عواتقنا فتجعلنا نشعر بضعفنا
              ولكن لا بد من المسير حتى ولو قوّص الحمل
              الثقيل ظهورنا ولا بد من استنباط القوة من الضعف
              أنا باعث إليك في غلاف آخر بشيء من أقوال
              الجرائد والمجلات وستعلمين منها أن الغربيين
              قد ملوا أشباح أرواحهم وضجروا من ذواتهم
              فأصبحوا يتمسكون بالغريب الغير مألوف
              خصوصاً إذا كان شرقياً
              هكذا كان الشعب الأثيني بعد انقضاء عصره الذهبي
              لقد بعثت منذ شهر أو أكثر بمجموعة من
              أقوال الصحف في المجنون إلى اميل زيدان
              ( تولى رئاسة تحرير مجلة الهلال سنة 1914
              التي أسسها والده الأديب العلامة جرجي زيدان )
              وهو بالطبع من أصدقائك
              أحمد الله وأشكره على انقضاء الأزمة عندكم
              ولقد كنت أقرأ أخبار تلك المظاهرات
              فأتخيلك هائبة فأهاب مضطربة فاضطرب
              ولكنني كنت أردد في الحالين قول شكسبير :
              Do not fear our person
              There’s such divinity
              doth hedge a king
              That treason can but
              peep to what it would
              Acts little of his will

              لا تخافي منا
              فالملك تحيط به هالة من القداسة
              وليس في مقدور الخيانة
              أن تبلغ ما ترمي إليه
              أو تحد من عزيمته
              وأنت يا ميّ من المحروسين وفي نفسك
              مَلَكٌ يحميه الله من كل مكروه
              وتسألين ما اذا كان لكم من صديق في ربوعنا ؟
              أي والحياة وما في الحياة من حلاوة جارحة
              ومرارة مقدسة إن لكم في ربوعنا صديقاً إرادته
              تدافع عنكم ونفسه ترغب في الخير لكم وابعاد
              السوء عنكم وتحميكم من كل أذى
              وقد يكون الصديق الغائب أدنى
              وأقرب من الصديق الحاضر
              أفليس الجبل أكثر هيبة وأشد وضوحاً وظهوراً
              لسائرٍ في السهل منه لساكنيه ؟
              ها قد غمر المساء هذا المكتب بوشاحه فلم أعد
              أرى ما تخطه يدي
              وألف تحية لك وألف سلام عليك والله يحفظك ويحرسك دائماً

              صديقك المخلص
              جبران خليل جبران
              نيويورك 11 حزيران – 1919


              يتبع

              تعليق


              • #22
                عزيزتي الآنسة ميّ

                منذ كتبت إليك حتى الآن وأنتِ في خاطري
                ولقد صرفت الساعات الطوال مفكراً بكِ مخاطباً
                إياكِ مستجوباً خفاياك مستقصياً أسراركِ
                والعجيب أنني شعرت مرات عديدة بوجود ذاتك
                الأثيرية في هذا المكتب ترقب حركاتي وتكلمني
                وتحاورني وتبدي رأيها في مآتيَّ وأعمالي
                أنت بالطبع تستغربين هذا الكلام وأنا أستغرب
                حاجتي واضطراري إلى كتابته إليك
                وحبذا لو كان بامكاني معرفة ذلك السر الخفي
                الكائن وراء هذا الاضطراب وهذه الحاجة الماسة
                قد قلت لي مرةً " ألا إن بين العقول مساجلةً
                وبين الأفكار تبادلاً قد لا يتناوله الإدراك الحسي
                ولكن من ذا الذي يستطيع نفيه بتاتاً
                من بين أبناء الوطن الواحد ؟"
                إن في هذه الفقرة الجميلة حقيقة أولية كنت فيما
                مضى أعرفها بالقياس العقلي أما الآن فإني
                أعرفها بالاختيار النفسي
                ففي الآونة الأخيرة قد تحقق لي وجود رابطة
                معنوية دقيقة قوية غريبة تختلف بطبيعتها
                ومزاياها وتأثيرها عن كل رابطة أخرى فهي أشد
                وأصلب وأبقى بما لا يقاس من الروابط الدموية
                والجينية حتى والأخلاقية
                وليس بين خيوط هذه الرابطة خيط واحد
                من غزل الأيام والليالي التي تمر بين المهد واللحد
                وليس بين خيوطها خيط غزلته مقاصد الماضي
                أو رغائب الحاضر أو أماني المستقبل فقد تكون
                موجودة بين اثنين لم يجمعهما الماضي
                ولا يجمعهما الحاضروقد لا يجمعهما المستقبل
                وفي هذه الرابطة يا ميّ في هذه العاطفة النفسية ،
                في هذا التفاهم الخفي ، أحلام أغرب
                وأعجب من كل ما يتمايل في القلب البشري
                أحلام طيّ أحلام طيّ أحلام
                وفي هذا التفاهم يا ميّ أغنية عميقة هادئة
                نسمعها في سكينة الليل فتنتقل بنا إلى ما وراء الليل
                ، إلى ما وراء النهار ، إلى ما وراء الزمن ،
                إلى ما وراء الأبدية
                وفي هذه العاطفة يا ميّ غصّات أليمة لا تزول
                ولكنها عزيزة لدينا ولو استطعنا لما أبدلناها
                بكل ما نعرفه ونتخيله من الملذات والأمجاد
                لقد حاولت في ما تقدم ابلاغك ما لا
                ولن يبلغك إياه إلا ما يشابهه في نفسك
                فإن كنت قد أبنت سراً معروفاً لديك كنت من
                أولئك الذين قد حبتهم الحياة
                وأوقفتهم أمام العرش الأبيض
                وإن كنت قد أبنت أمراً خاصاً بي
                وحدي فلكِ أن تطعمي النار هذه الرسالة
                استعطفك يا صديقتي أن تكتبي إليَّ
                واستعطفك أن تكتبي إليَّ بالروح المطلقة المجردة
                المجنحة التي تعلو فوق سبل البشر
                أنت وأنا نعلم الشيء الكثير عن البشر
                وعن تلك الميول التي تقربهم إلى بعضهم البعض
                وتلك العوامل التي تبعد بعضهم عن البعض
                فهلا تنحينا ولو ساعة واحدة عن تلك السبل
                المطروقة ووقفنا محدقين ولو مرة واحدة
                بما وراء الليل ، بما وراء النهار ،
                بما وراء الزمن ، بما وراء الأبدية ؟

                والله يحفظك يا ميّ ويحرسك دائماً

                صديقك المخلص
                جبران خليل جبران
                نيويورك 25 تموز 1919

                تعليق


                • #23
                  عزيزتي الآنسة مي

                  أنتِ حاقدة عليّ ، ناقمة عليّ ولك الحق ،
                  ومعك الحق وما عليّ سوى الامتثال فهلا نسيت
                  إثماً اقترفته وأنا بعيد عن عالم المقاييس والموازين ؟
                  هلا وضعت في " صندوق الذهب" ما لا يستحق
                  الحفظ في الصندوق الأثيري ؟
                  إن ما يعرفه الحاضر يجهله الغائب وليس من
                  العدالة أن تحسب جهل الغائب جريمة فالجرائم
                  لا تكون الا في موضع الإدراك والمعرفة
                  وأنا لا أريد أن أسكب سهواً قليلاً من الرصاص
                  المذوب أو الماء الغالي على أصابع العارفين
                  المدركين لعلمي أن الجريمة نفسها عقاب المجرمين
                  وأن مصائب أكثر الناس في ما أسند إليهم من الأعمال
                  لقد استأنست بذلك العنصر الشفاف الذي تتلاشى
                  أمامه المسافة والحدود والحواجز
                  والنفس المستوحشة لا تستأنس إلا بذلك العنصر
                  ولا تستصرخ سواه ولا تستنجد غيره
                  وأنتِ – أنتِ التي تعيشين كثيراً في عالم المعنى
                  تعلمين أن العنصر الشفاف فينا يتنحى عن جميع
                  أعمالنا ويبتعد حتى وعن أجمل ميولنا البيانية
                  وأنبل رغائبنا الفنية فهو وإن جاور الشاعرية فينا
                  لا ينظم ذاته نشيداً غنائياً ولا يضع خفاياه
                  في الخطوط والألوان
                  كل بشري يستطيع التكلف بمنازعه واللعب بمطامعه
                  والمتاجرة بأفكاره ولكن ليس بين البشر
                  من يستطيع التكلف بوحشته أو اللعب بألمه
                  أو المتاجرة بجوعه وعطشه
                  ليس بين الناس من يقدر أن يحول أحلامه من
                  صورة إلى صورة
                  أو ينقل أسرار نفسه من مكان إلى مكان
                  وهل بإمكان الضعيف والصغير
                  فينا أن يؤثر على القوي والعظيم فينا ؟
                  هل بإمكان الذات المقتبسة وهي من الأرض
                  أن تحور وتغير الذات الوضعية وهي من السماء ؟
                  إن تلك الشعلة الزرقاء تنير ولا تتغير وتحول
                  ولا تتحول وتأمر ولا تأتمر
                  وهل تظنين حقيقةً وأنت أبعد الناس فكراً أن
                  " التهكم الدقيق " ينبت في حقل يفلحه الألم
                  وتزرعه الوحشة ويحصده الجوع والعطش ؟
                  هل تظنين أن "النكتة الفلسفية "
                  تسير بجانب الميل إلى الحقيقة والرغبة
                  في المجرد المطلق ؟
                  لا يا صديقتي أنت أرفع من الشك والارتياب
                  الشك يلازم الخائفين السلبيين
                  والارتياب يلاحق من ليس لهم الثقة بنفوسهم
                  أما أنت فقوية إيجابية ولكِ الثقة التامة بنفسك
                  فهلا كنتِ مؤمنة بكل ما تضعه الأيام في راحتيك ؟
                  هلا حولتِ عينيكِ عن المظاهر الجميلة
                  إلى الحقيقة الجميلة

                  تعليق


                  • #24
                    قد صرفت شهور الصيف في منزل منفرد منتصب
                    كالحلم بين البحر والغاب فكنت كلما أضعت نفسي
                    في الغاب أذهب إلى البحر فأجدها وكلما فقدتها
                    بين الأمواج أعود إلى ظل الأشجار فألتقي بها
                    إن غابات هذه البلاد تختلف عن غابات الأرض
                    كافةً فهي غضة كثيفة متعرشة تعود بالذكرى
                    إلى الأزمنة الغابرة إلى البدء أما بحرنا فبحركم
                    وذلك الصوت المجنح الذي تسمعونه على شواطئ
                    مصر نسمعه نحن على هذه الشواطئ وذلك القرار
                    الرهاوي الذي يملأ صدوركم بهيبة الحياة
                    وهولها يملأ صدرنا بهول الحياة وهيبتها
                    لقد أصغيت إلى نغمة البحر في مشارق الأرض
                    ومغاربها فكانت ولم تزل هي هي الأغنية الأزلية
                    الأبدية التي تعلو وتهبط بالروح فتكسبها تارةً
                    الحزن وطوراً الطمأنينة
                    لقد أصغيت إلى تلك النغمة حتى وعلى رمال الإسكندرية
                    نعم على رمال الإسكندرية
                    وكان ذلك في صيف
                    1903
                    فسمعت اذ ذاك حديث الدهور من بحر المدنية القديمة
                    مثلما سمعته بالأمس من بحر المدنية الحديثة
                    ذلك الحديث الذي سمعته للمرة الأولى
                    وأنا في الثامنة فاحترت بأمري وألبست عليّ
                    حياتي فأخذت أحارب بسؤالاتي الكثيرة صبر
                    المرحومة أمي وجلدها
                    ذلك الحديث الذي أسمعه اليوم فأطرح
                    السؤالات ذاتها ولكن على الأم الكلية
                    فتجيبني بغير الكلام وتفهمني أموراً كلما حاولت
                    اظهارها للآخرين تحولت الألفاظ في فمي
                    إلى سكوت عميق
                    أنا اليوم وقد صرت في (الثمانين؟؟؟؟)
                    مثلما كنت وأنا في الثامنة أجلس على شط البحر
                    وأنظر إلى أبعد نقطة من الأفق الأزرق
                    وأسأل ألف سؤال وسؤال :
                    " ترى هل لنا من مجيب في ربوعكم ؟"
                    ترى هل تتفتح الأبواب الدهرية ولو لدقيقة واحدة
                    لنرى ما ورائها من الأسرار والخفايا ؟
                    أليس بامكانكم أن تقولوا لنا كلمة واحدة عن تلك
                    الأنظمة السرية النافذة حولنا في الحياة قبل أن
                    يضع الموت نقابه الأبيض على وجوهنا ؟
                    وأنت تسألين ما اذا كنت لا أستطيب الفائدة
                    في التفكهة بلا اجهاد
                    إني أستطيب الفائدة ، أستطيبها إلى درجة قصوى
                    ولكن بعد أن أترجم لفظها إلى لغتي الخاصة !!!
                    أما الاجهاد فسلّم نصعد عليه لنبلغ العليّة
                    أنا بالطبع أفضل الصعود إلى عليتي طائراً
                    ولكن الحياة لم تعلّم جانحيّ الرفرفة والطيران
                    فماذا أفعل ؟
                    وأنا أفضل الحقيقة الخفية على الحقيقة الظاهرة
                    وأفضل الحاسة الصامتة اكتفاءً واقتناعاً
                    على الحاسة التي تحتاج إلى التفسير والتعليل
                    غيرأنني وجدت أن السكوت العلوي
                    يبتدئ دائما بكلمة علوية

                    تعليق


                    • #25

                      إني أستطيب الفائدة بل وأستطيب كل شيء في
                      الحياة إلا الحيرة فإذا جاءت الفائدة وعلى منكبيها
                      غمر من الحيرة أغمضت عينيَّ وقلت في سري
                      " هذا صليب آخر علي أن أحمله
                      مع المئة صليب التي أحملها "
                      وليست الحيرة بذاتها من الأمور المكروهة
                      ولكنني قد رافقتها حتى مللتها قد أكلتها خبزاً
                      وشربتها ماءً وتوسدتها فراشاً ولبستها رداءً
                      حتى صرت أتبرم من لفظ اسمها
                      وأهرب من ظل ظلها
                      أظن أن مقالتك في " المواكب"
                      هي الأولى من نوعها باللغة العربية
                      هي أول بحث في ما يرمي إليه
                      الكاتب بوضع كتاب
                      حبذا لو كان بإمكان أدباء مصر وسوريا
                      أن يتعلموا منكِ استجواب أرواح الكتب دون
                      أجسادها واستفسار ميول الشعراء النفسية
                      قبل استقصاء مظاهر الشعر الخارجية
                      يجب عليّ أن لا أحاول اظهار امتناني الشخصي
                      على تلك المقالة النفيسة لأنني أعلم أنها كتبت
                      وأنت منصرفة عن كل شيء شخصي
                      وإذا ما حاولت اظهار امتناني القومي بصورة
                      عمومية أوجب عليّ ذلك كتابة مقالة
                      في تلك المقالة وهذا أمر يحسبه الشرقيون
                      في الوقت الحاضر من الأمور التي لا تجاور
                      الذوق السليم ! ولكن سيجيء يوم أقول فيه
                      كلمتي في " مي " ومواهبها
                      وستكون كلمتي هائلة ! وستكون طويلة عريضة !
                      وستكون صادقة لأنها ستكون جميلة
                      إن الكتاب الذي سيصدر في هذا الخريف
                      هو كتاب رسوم خالٍ من
                      " ضجيج التمرد والعصيان"
                      ولولا اضراب العمال في المطابع
                      لظهر منذ ثلاثة أسابيع
                      وفي السنة القادمة سيصدر كتابان الأول
                      " المستوحد " وربما دعوته باسم آخر
                      وهو مؤلف من قصائد وأمثال
                      والثاني كتاب رسوم رمزية باسم " نحو الله "
                      وبهذا الأخير انتهي من عهد وابتدئ بعهد آخر
                      وأما " النبي " فكتاب فكرت به منذ ألف سنة
                      ولكنني لم أكتب فصلاً من فصوله حتى أواخر
                      السنة الغابرة
                      وماذا عسى أقول لك عن هذا النبي ؟
                      هو ولادتي الثانية ومعموديتي الأولى
                      هو الفكرة الوحيدة التي تجعلني حرياً
                      بالوقوف أمام وجه الشمس
                      ولقد وضعني هذا النبي قبل أن أحاول وضعه
                      وألفني قبل أن أفكر بتألفيه وسيرني صامتاً وراءه
                      سبعة آلاف فرسخ قبل أن يقف
                      ليملي عليّ ميوله ومنازعه
                      أرجوك أن تسألي رفيقي ومعاوني العنصر الشفاف
                      عن هذا النبي وهو يقص عليك حكايته
                      اسألي العنصر الشفاف ،اسأليه في سكينة الليل
                      عندما تنعتق النفس من قيودها وتتملص من أثوابها
                      وهو يبوح لكِ بأسرار هذا النبي وبخفايا من تقدمه
                      من الأنبياء أجمعين
                      أنا أعتقد يا صديقي أن في العنصر الشفاف
                      من العزم ما لو وضعنا ذرةً منه تحت جبل
                      لانتقل من مكان إلى مكان آخر واعتقد بل واعلم
                      أننا نستطيع أن نمد ذلك العنصر سلكاً بين بلاد
                      وبلاد فنعلم بواسطته كل ما نريد أن نعلمه
                      ونحصل على كل ما نشوق إليه ونبتغيه
                      ولدّي أمور كثيرة أريد أن أقولها عن العنصر
                      الشفاف وغيره من العناصر ولكن عليّ أن أبقى
                      صامتاً عنها
                      وسوف أبقى صامتاً حتى يضمحل الضباب
                      وتنفتح الأبواب الدهرية ويقول لي ملاك الرب
                      " تكلم , فقد ذهب زمن الصمت وسر فقد طال
                      وقوفك في ظلال الحيرة "
                      أي متى يا ترى تنفتح الأبواب الدهرية ؟
                      هل تعلمين ؟
                      هل تعلمين أي متى تتفتح الأبواب الدهرية
                      ويضمحل الضباب ؟

                      والله يحفظك يا " مي" ويحرسك دائماً

                      المخلص
                      جبران خليل جبران
                      نيويورك 9 تشرين الثاني 1919

                      تعليق


                      • #26
                        يا ميّ

                        ها قد بلغنا قمة عالية فظهرت أمامنا سهول
                        وغابات وأودية فلنجلس ساعة ولنتحدث قليلاً
                        نحن لا نستطيع البقاء هنا طويلاً لأني أرى
                        عن بعد قمة أعلى من هذه وعلينا أن نصل إليها
                        قبل الغروب ولكننا لن نترك هذا المكان إلا وأنتِ
                        فرحة ولن نخطو خطوة إلا وأنتِ مطمئنة
                        قد قطعنا عقبة صعبة المسالك
                        _ قطعناها بشيءٍ من التلبك _
                        وإني أعترف لكِ بأنني كنت ملحّاً لجوجاً
                        غير أن إلحاحي كان نتيجة مقررة
                        لشيءٍ أقوى مما ندعوه إرادة
                        وأعترف لكِ بأنني لم أكن حكيماً في بعض الأمور
                        ولكن أليس في الحياة مالا تبلغه أصابع الحكمة ؟
                        أليس فينا ما تتحجر الحكمة أمامه ؟
                        ولو كانت اختباراتي يا ميّ تماثل بوجه من الوجوه
                        ما اختبرته في ماضيّ لما أعلنتها ,
                        ولكنها جاءت جديدة غريبة وعلى حين غفلة
                        ولو كنت إذ ذاك في القاهرة وأظهرتها لكِ شفاهاً
                        وبصورة بسيطة مجردة خالية مما في الشخصيات
                        من المرامي الذاتية لما حدث بيننا سوء تفاهم
                        ولكن لم أكن إذ ذاك في القاهرة , ولم يكن لدي من
                        وسيلة إلا المراسلة والمراسلة في هذه
                        "المواضيع" تلبس أبسط الأمور ثوباً
                        من المركبات وتسدل على وجه المجردات
                        نقاباً كثيفاً من الكلفة
                        فكم مرة نريد أن نبدي فكرة بسيطة فنضعها في ما
                        يتيسر لنا من الألفاظ , تلك الألفاظ التي تعودت
                        أقلامنا سكبها على الورق , فينتج عن كل ذلك
                        " قصيدة منثورة" أو " مقالة خيالية"
                        أما السبب فهو أننا نشعر ونفكر بلغة أصدق
                        وأصح من اللغة التي نكتب بها
                        نحن بالطبع نحب القصائد المنثورة والمنظومة
                        ونحب المقالات الخيالية وغير الخيالية
                        بيد أن العاطفة الحية الحرة شيء والبيان في
                        المراسلات شيء آخر
                        مذ كنت صبياً في المدرسة وأنا ابتعد بقدر
                        استطاعتي عن التعابير القديمة المتداولة
                        لأنني كنت ولم أزل أشعر بأنها تخفي الفكر
                        والعاطفة أكثر مما تظهرهما , ولكن يبدو لي الآن
                        أنني لم أتملص مما أتبرم منه
                        يبدو لي أنني كنت منذ سنة ونصف سنة
                        حيث كنت وأنا في الخامسة عشر ,
                        ودليلنا على ذلك ما أثمرته رسائلي من سوءالتفاهم
                        أقول ثانية أنني لو كنت في القاهرة لوقفنا أمام
                        اختباراتنا النفسية وقوفنا أمام البحر
                        أو أمام النجوم أو أمام شجرة تفاح مزهرة
                        ومع كل ما في اختباراتنا من الغرابة فهي ليست
                        بأغرب من البحر أو من النجوم أو من الشجرة
                        المزهرة , ولكن من العجائب أننا نمتثل ونستسلم
                        إلى معجزات الأرض والفضاء وفي الوقت نفسه
                        نستصعب تصديق ما يظهر في أرواحنا من المعجزات

                        تعليق


                        • #27
                          كنت أعتقد يا ميّ , وما برحت أعتقد , أن بعض
                          الاختبارات لا تحدث إلا إذا اشترك بها اثنان
                          في وقت واحد
                          وربما كان هذا الاعتقاد سبباً أولياً لتلك الرسائل
                          التي جعلتك أن تقولي لنفسكِ "يجب أن نقف هنا"
                          الحمد لله لأننا لم "نقف هناك"
                          الحياة يا مي لا تقف في مكان من الأمكنة
                          وهذا الموكب الهائل بجماله لا يستطيع سوى
                          المسير من لا نهاية إلى لا نهاية
                          ونحن , ونحن الذين نقدس الحياة ونميل بكل قوانا
                          إلى الصالح والمبارك والعذب والنبيل في الحياة
                          نحن الذين نجوع ونعطش إلى الثابت الباقي في
                          الحياة لا نريد أن نقول أو نفعل ما يوعز الخوف
                          أو ما "يملأ الروح شوكاً وعلقماً"
                          نحن لا نريد ولا نقدر أن نلمس جوانب المذبح
                          إلا بأصابع طهرت بالنار
                          ونحن إذا احببنا شيئاً يا ميّ نحسب المحبة نفسها
                          محجة لا واسطة للحصول على شيء آخر
                          وإذا خضعنا خاشعين أمام شيء علوي نحسب
                          الخضوع رفعة والخشوع ثواباً وإذا تشوقنا إلى
                          شيء نحسب الشوق بحد ذاته موهبة ونعمة
                          ونحن نعلم أن أبعد الأمور هو أخلقها وأحقها بميلنا
                          وحنيننا , ونحن – أنت وأنا- لا نستطيع حقيقةً أن
                          نقف في نور الشمس قائلين " يجب أن نوفر على
                          نفوسنا عذاباً نحن بغنى عنه "
                          لا يا ميّ , نحن لسنا بغنى عما يضع في النفس
                          خميرة قدسية , ولسنا بغنى عن القافلة التي تسير
                          بنا إلى مدينة الله , ولسنا بغنى عما يقربنا من ذاتنا
                          الكبرى , ويرينا بعض مافي أرواحنا من القوى
                          والأسرار والعجائب
                          وفوق كل ذلك فنحن نستطيع أن نجد السعادة
                          الفكرية في أصغر مظهر من مظاهر الروح ,
                          ففي الزهرة الواحدة نشاهد كل ما في الربيع
                          من الجمال والبهاء , وفي عيني الطفل الرضيع
                          نجد كل ما في البشرية من الآمال والأماني
                          لذلك لا نريد أن نتخذ أقرب الأشياء وسيلة
                          أو مقدمة للوصول إلى أبعدها , كما أننا لا نريد
                          ولا نقدر أن نقف أمام الحياة ونقول مشترطين
                          "أعطنا ما نريد أو لا تعطينا شيئاً – إما ذاك
                          وإما لا شيء"
                          لا يامي , نحن لا نفعل ذلك لأننا نعلم أن الصالح
                          والمبارك والثابت في الحياة لا يسير كما نشاء
                          بل يسيرنا كما يشاء
                          وأيّ مطمع لنا وسبعة آلاف ميل تفصلنا
                          في إعلان سر من أسرار أرواحنا سوى التمتع
                          بإعلان ذلك السر ؟
                          وما هي غايتنا من الوقوف بباب الهيكل
                          سوى مجد الوقوف ؟
                          ماذا يا ترى يبغي الطائر إذا ترنم والبخور إذا احترق ؟
                          أو ليس في هذه النفوس المستوحدة سوى المنازع المحدودة ؟

                          تعليق


                          • #28
                            ما أعذب تمنياتك لي في يوم مولدي
                            وما أطيب أريجها
                            ولكن اسمعي يا مي هذه الحكاية الصغيرة
                            واضحكي قليلاً على حسابي!
                            شاء نسيب عريضة أن يجمع " دمعة وابتسامة"
                            في كتاب , وذلك قبل زمن الحرب , وشاء أن
                            يحشر مقالة " يوم مولدي" بين تلك القطع الضئيلة
                            , ورأى أن يضع التاريخ مع العنوان ولم أكن حينئذ
                            في نيويورك , فأخذ يبحث – وهو بحّاثة لا يكل
                            ولا يمل – حتى وجد تاريخ ذلك اليوم البعيد
                            باللغة الانكليزية فترجم " JANUARY 6 th "
                            إلى " 6 كانون الاول"! وهكذا خصم من سني
                            حياتي سنة وأخر يوم مولدي الحقيقي شهراً !
                            ومنذ ظهور كتاب دمعة وابتسامة حتى اليوم وأنا
                            أتمتع في كل سنة بيوميّ مولدي , الأول أوجدته
                            غلطة في الترجمة أما الثاني فلا أدري أي غلطة
                            في الأثير أوجدته ! وتلك السنة التي سُرقت مني
                            يعلم الله وأنتِ تعلمين أنني اشتريتها غاليةً
                            اشتريتها بنبضات قلبي , اشتريتها بسبعين وزنة
                            من الألم الصامت والحنين إلى ما لا أعرفه
                            فكيف أسمح لغلطة في كتاب أن تسلبني إياها ؟
                            أنا بعيد عن "الوادي" يا مي
                            جئت هذه المدينة – بوسطن – منذ عشرة أيام
                            لعمل تصويري , ولو لم يبعثوا إليّ ببقجة من
                            الرسائل الواردة إلى عنواني في نيويورك لعشت
                            عشرة أيام أخرى بدون رسائلك , هذه الرسالة
                            التي حلت ألف عقدة في حبل روحي ,
                            وحولت الانتظار وهو صحراء إلى حدائق وبساتين
                            الانتظار حوافر الزمن يا ميّ ,
                            وأنا دائما في حالة الانتظار
                            يخال لي في بعض الأحايين أنني أصرف حياتي
                            مترقبا حدوث ما لم يحدث بعد , وما أشبهني
                            بأولئك العمي والمقعدين الذين كانوا يضطجعون
                            بقرب بركة " بيت حسدا" في أورشليم "
                            لأن ملاكاً كان ينزل أحيانا في البركة
                            ويحرك الماء فمن نزل أولا بعد تحريك الماء
                            كان يبرأ من أي مرض اعتراه
                            ( بيت حسدا : إشارة إلى اليعازر
                            وقيامته من الموت في انجيل متى )
                            أما اليوم , وقد حرك ملاكي بركتي ووجدت من
                            يلقيني في الماء , فإني أسير في ذلك المكان
                            المهيب المسحور وفي عيني نور وفي قدمي عزم
                            أسير بجانب خيال أجمل وأطهر لبصيرتي
                            من حقيقة الناس كافة , أسير وفي يدي يد حريرية
                            الملامس ولكنها قوية وذات إرادة خاصة , ولينة
                            الأصابع ولكنها تستطيع رفع الأثقال وتكسير القيود
                            وبين الآونة والأخرى ألتفت فأرى عينين
                            مشعشعتين وشفتين تداعبهما ابتسامة جارحة بحلاوتها
                            قلت لكِ مرة إن حياتي مقسومة إلى حياتين وإني
                            أصرف الواحدة منهما بين العمل والناس
                            والثانية في الضباب
                            قد كان ذلك بالأمس , أما اليوم فقد توحدت حياتي
                            وصرت اشتغل في الضباب وأجتمع بالناس
                            في الضباب , وأنام وأحلم ثم استيقظ
                            وأنا في الضباب
                            هي نشوة محاطة بحفيف الأجنحة , فالوحدة فيها
                            ليست بالوحدة , وألم الحنين إلى غير المعروف
                            أطيب من كل شيء عرفته
                            هي غيبوبة ربانية يا ميّ , هي غيبوبة ربانية
                            تدني البعيد وتبين الخفي وتغمر كل شيء بالنور
                            أنا أعلم الآن أن الحياة بدون هذا الانجذاب النفسي
                            ليست سوى قشور بغير لباب
                            وأحقق أن كل ما نقوله ونفعله ونفكر به
                            لا يساوي دقيقة واحدة نصرفها في ضبابنا
                            وأنت تريدين كلمة " نشيد غنائي"
                            أن تحفر في قلبي ! تريدينها أن تنتقم لك من هذا
                            الكيان الخافت الذي يحملني وأحمله
                            لندعها تحفر وتحفر وتحفر , بل لننادي جميع
                            الأناشيد الغنائية الهاجعة في الأثير ,
                            ولنأمرها أن تنتشر في هذه البلاد الواسعة لتحفر
                            الترعات , وتمد السبل وتبني القصور والأبراج
                            والهياكل , وتحول الوعر إلى حدائق وكروم
                            وفي الوقت نفسه أنت ابنة صغيرة في السابعة
                            تضحك في نور الشمس و تركض وراء الفراشة
                            وتجني الأزهار وتقمز فوق السواقي
                            وليس في الحياة شيء ألذ وأطيب لديّ من الركض
                            خلف هذه الصغيرة الحلوة والقبض عليها ثم حملها
                            على منكبي ثم الرجوع بها إلى البيت لأقص عليها
                            الحكايات العجيبة الغريبة حتى تكتحل أجفانها
                            بالنعاس وتنام نوماً هادئاً سماوياً

                            جبران

                            بوسطن 11 كانون الثاني 1921

                            يتبع

                            تعليق


                            • #29
                              يا مي يا صديقتي

                              " كثيراً وبحنو – كثيراً وبحنو"
                              هذه حقيقة بسيطة ظهرت لي منذ حين فانفتحت
                              في روحي نوافذ وأبواب جديدة , ولما قررتها
                              رأيتني واقفاً أمام مشاهد ما كنت أحلم بوجودها
                              في هذا العالم.
                              " كثيراً وبحنو – كثيراً وبحنو"
                              ومن هذا الكثير وهذا الحنو قد تعلمت الصلاة
                              بفرح والحنين بطمأنينة والامتثال بدون انكسار.
                              لقد عرفت أن الرجل المستوحد يستطيع أن يغمر
                              وحدته بنور " الكثير" ويزيل الاجهاد في عمله
                              بحلاوة " الحنو" .
                              وعرفت أن الغريب المستوحش يستطيع أن يكون
                              أباً وأخاً ورفيقاً وصديقاً- وفوق كل ذلك أن يكون
                              طفلاً فرحاً بالحياة.
                              " كثيراً وبحنو" إن في هذا الكثير وهذا الحنو
                              أجنحة تخيم وأيادٍ تبارك.
                              صحتي اليوم أحسن مما كانت عليه منذ شهر
                              لكنني لم أزل مريضاً, وهذا الجسم الضعيف
                              ما برح بدون نظام وبدون وزن وبدون قافية.
                              وأنت تريدين أن أقول لك مم أشكو
                              فإليك خلاصة ما قاله الأطباء :
                              " اضطراب عصبي سببه الاجهاد ونقص في
                              التغذية أدى إلى اضطراب في الجهاز العام للقلب
                              فكان تسرع النبض نتيجة حتمية له, وقد بلغت
                              نبضاته 115 في الدقيقة في حين أن
                              النبض الطبيعي هو في حدود (80)."
                              أي يا ميّ, ففي العامين الغابرين قد حمّلت جسمي
                              فوق طاقته, فكنت أصور ما دام النور
                              وأكتب حتى الصباح وألقي المحاضرات
                              وأختلط بجميع أنواع البشر وهذا العمل الأخير
                              هو أصعب شيء أمام وجه الشمس
                              وكنت اذا جلست إلى مائدة الطعام أشغل نفسي
                              بالكلام والمتكلمين حتى تحضر القهوة
                              فأتناول منها الشيء الكثير وأكتفي بها طعاماً وشراباً.
                              وكم مرة عدت إلى منزلي بعد منتصف الليل
                              وبدلاً من الخضوع إلى سنة الله في أجسامنا
                              كنت أنبّه ذاتي بالحمامات الباردة وبالقهوة القوية
                              وأصرف ما بقي من الليل كاتباً أو مصوراً
                              ولو كنت شبيهاً بقومي سكان شمال لبنان
                              لما قبضت عليّ العلة بهذه السرعة.
                              هم كبار الأجسام أقوياء البنية أما أنا فبعكس ذلك
                              ولم أرث عن أولئك الأشداء حسنة واحدة
                              من حسناتهم الجسدية.
                              ها قد أشغلت فسحةً كبيرة بالكلام عن مرضي
                              وكان الأحرى بي أن لا أفعل ولكن ما العمل
                              وأنا لا أستطيع إلا الجواب على كل سؤال من
                              سؤالاتك الممنطقة بحلاوة الاهتمام
                              " والرغبة والتمني".
                              أين الرسالة الطويلة المقطعة المكتوبة بقلم رصاص
                              وعلى ورق بلدي مربع التسطير في حديقة جميلة
                              أمام صف من الذهبيات؟
                              أين رسالتي يا مي؟
                              لماذا لم تبعثي بها إلي؟
                              أريد الحصول عليها, أريدها بكلياتها وجزئياتها.
                              أتعلمين مقدار رغبتي في الحصول على تلك
                              الرسالة بعد أن قرأت نتفة منها تلك النتفة القدسية
                              التي جاءت فجراً ليوم جديد.
                              أتعلمين أنه لولا خوفي من كلمة " وبجنون"
                              لكنت بعثت إليك ليلة أمس برقية أرجوك فيها
                              تسليم الرسالة إلى البريد؟

                              أترين فيَّ الطيبة يا ميّ؟
                              وهل أنت بحاجة إلى الطيبة؟
                              هذا كلام جارح بعذوبته فبما أجيب عليه؟
                              إذا كان في كياني يا صديقتي
                              ما أنت في حاجة إليه فهو لك بكليته .
                              ليست الطيبة فضيلة بحد ذاتها أما عكسها فجهالة
                              وهل تقطن الجهالة حيث " كثيراً وبحنو"؟
                              إذا كانت الطيبة في محنة الجميل وفي التهيب
                              أمام النبيل وفي الشوق إلى البعيد والخفي
                              إذا كانت الطيبة في هذه الأشياء فأنا إذن من الطيبين,
                              أما إذا كانت في غير هذه الأشياء
                              فأنا لا أدري ما ومن أنا.
                              وإني أشعر يا مي أن المرأة السامية
                              تستلزم وجود الطيبة في روح الرجل
                              حتى ولو كان جاهلاً.

                              تعليق


                              • #30
                                حبذا لو كنت الساعة في مصر.
                                حبذا لو كنت في بلادي قريباً ممن تحبهم نفسي.
                                أتعلمين يا مي أنني في كل يوم أتخيل ذاتي في
                                منزل في ضواحي مدينة شرقية وأرى صديقتي
                                جالسة قبالتي تقرأ في آخر مقالة من مقالاتها التي
                                لم تنشر بعد, فنتحدث طويلاً في موضوعها
                                ثم نتفق على إنها أحسن ما كتبته حتى الآن.
                                وبعد ذلك أنتشل من بين مساند فراشي بعض
                                الأوراق وأقرأ قطعة كتبتها أثناء الليلة الغابرة
                                فتستحسنها صديقتي قليلاً ثم تقول في سرها
                                يجب ألا يكتب وهو في هذه الحالة.
                                إن تراكيب هذه القطعة تدل على الضعف والوهن
                                والتشويش- عليه ألا يأتي بعمل فكري حتى يتعافى
                                تماماً"- تقول صديقتي هذا في سرها وأنا أسمعه
                                في سري فأقتنع بعض الاقتناع ثم لا ألبث أن أقول
                                بصوت عالٍ " أمهليني قليلاً, أمهليني أسبوعاً
                                أو أسبوعين فأتلو عليك قطعة جميلةً , جميلة للغاية".
                                فتجيبينني بصراحة " يجب أن تمتنع عن الكتابة
                                والتصوير وكل عمل آخر عاماً أو عامين,
                                وإن لم تمتنع فأنا عليك من الساخطين!"
                                تلفظ صديقتي كلمة " الساخطين" بلهجة ملؤها
                                " الاستبداد المطلق" ثم تبتسم كالملاكة فأحتار
                                دقيقة بين سخطها وابتسامها, ثم أجدني فرحاً
                                بسخطها وابتسامها- وفرحاً بحيرتي.
                                وعلى ذكر الكتابة – أتدركين مقدار سروري
                                وابتهاجي وافتخاري بما ظهر لك من المقالات
                                والحكايات في الشهور الأخيرة؟
                                ما قرأت لك قطعة إلى وشعرت بنمو وتمدد في
                                قلبي, وما قرأتها ثانية إلا وتحولت عمومياتها إلى
                                شيء شخصي فأرى في الأفكار والقوالب ما لم يره
                                سواي وأقرأ بين السطور سطوراً لم تكتب إلا لي.
                                أنت يا مي كنز من كنوز الحياة, بل وأكثر من
                                ذلك- أنتِ أنتِ, وإني أحمد الله لأنك من أمة أنا
                                من أبناها ولأنك عائشة في زمن أعيش فيه.
                                كلما تخيلتك عائشة في القرن الماضي
                                أو في القرن الآتي رفعت يدي وخفقت بها الهوا
                                كمن يريد أن يزيل غيمة من الدخان من أمام وجهه.
                                بعد أسبوعين أو ثلاثة أسابيع أذهب إلى البرية
                                فأسكن بيتاً صغيراً منتصباً كالحلم بين البحر
                                والغابة – وما أجمل تلك الغابة , وما أكثر
                                أطيارها وأزهارها وينابيعها.
                                كنت في الأعوام الغابرة أسير وحيداً منفرداً
                                في تلك الغابة.
                                وكنت أذهب عشية إلى البحر وأجلس كئيباً على
                                الصخور أو أرمي بنفسي إلى الأمواج كمن
                                يريد أن يتملص من الأرض وأشباحها.
                                أما في هذا الصيف فسأسير في الغابة
                                وأجلس أمام البحر وفي روحي ما ينسيني
                                الوحدة وفي قلبي ما يشغلني عن الكآبة.
                                أخبريني يا ميّ ما أنت فاعلة في هذا الصيف؟
                                أذاهبة إلى رمل الاسكندرية أم إلى لبنان؟
                                أذاهبة وحدك إلى لبناننا؟
                                أي متى يا ترى أعود إلى لبنان؟
                                أتستطيعين أن تقولي لي أي متى أتخلص
                                من هذه البلاد ومن القيود الذهبية
                                التي حبكتها منازعي حول عنقي؟
                                أتذكرين يا مي قولك لي مرة أن صحفياً
                                في بيونيس آيريس قد بعث إليك برسالة
                                يطلب فيها رسمك ومقالة من مقالاتك؟
                                لقد فكرت مرات عديدة في طلب هذا الصحفي
                                وفي ما يطلبه جميع الصحفيين وكنت في كل مرة
                                أقول متحسراً لست بصحفي! لست بصحفي!
                                لذلك يتعذر عليّ أن أطلب ما يطلبه الصحفيون
                                لو كنت صاحب مجلة أو محرر جريدة لطلبت
                                رسمها بكل حرية, وبدون خجل, وبدون وجل
                                وبدون توطئة منسوجة من الألفاظ المرتعشة
                                كنت ولم أزل أقول هذا في قلبي, فهل سمع الذين
                                اتخذوا قلبي وطناً لهم؟
                                ها قد انتصف الليل وللآن لم أخط الكلمة التي
                                تلفظها شفتي وتلفظها تارة همساً
                                وطوراً بصوت عالِ.
                                إني أضع كلمتي في قلب السكينة
                                فالسكينة تحتفظ على كل ما نقوله
                                بحنو وحرقة وإيمان.
                                والسكينة يا ميّ تحمل صلاتنا
                                إلى حيث نريد أو ترفعها إلى الله.

                                أنا أذهب إلى فراشي.
                                وسوف أنام الليلة طويلاً .
                                وسوف أقول لكِ في الحلم
                                ما لم أخطه على هذه الورقة.

                                مساء الخير يا مي.
                                الله يحرسكِ

                                جبران
                                نيويورك مساء السبت 21 أيار 1921

                                تعليق

                                مواضيع تهمك

                                تقليص

                                المنتدى: المكتبة الالكترونية نشرت بواسطة: HaMooooDi الوقت: 07-30-2025 الساعة 04:01 PM
                                المنتدى: التصنيع والانتاج نشرت بواسطة: HaMooooDi الوقت: 07-30-2025 الساعة 03:44 PM
                                المنتدى: التعريف بالهندسة الصناعية نشرت بواسطة: HaMooooDi الوقت: 07-30-2025 الساعة 03:38 PM
                                المنتدى: الجوال والإتصالات نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 07-10-2025 الساعة 01:22 AM
                                المنتدى: الجوال والإتصالات نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 07-04-2025 الساعة 12:04 AM
                                يعمل...
                                X