إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الأمثال فى القرآن الكريم ما يعقلها الا العالمون

تقليص
هذا الموضوع مغلق.
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    المثل التاسع عشر


    19-
    أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً
    كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء

    (الآية - 24)

    التفســير
    ثبت في الحديث أن أفضل كلمة قالها الناس قول: لا إله إلا الله؛
    تلك الكلمة التي قامت عليها السماوات والأرض،
    وهي الكلمة الفصل بين الحق والباطل،
    وهي فيصل التفرقة بين الكفر والإيمان،
    إنها خير كلمة عرفتها الإنسانية،
    تلك الكلمة التي أخذها الله سبحانه عهداً على بني آدم،
    وهم في بطون أمهاتهم، وأشهدهم عليها،
    قال تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم
    وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا}

    (الأعراف:172).


    ولأهمية كلمة التوحيد ودورها في حياة الأفراد والأمم،
    فقد ضرب الله لها مثلاً في القرآن، فقال سبحانه:
    {ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت
    وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها
    ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون *

    (إبراهيم:24-25)



    ذكر المفسرون أن المراد بـ (الكلمة الطيبة)
    شهادة أن لا إله إلا الله، أو المؤمن نفسه

    وهذا المثل القرآني جاء عقيب مثل ضربه سبحانه لبيان حال
    أعمال الكفار، وهو قوله تعالى:
    {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد
    اشتدت به الريح في يوم عاصف}

    (إبراهيم:18)،
    فذكر تعالى مثل أعمال الكفار، وأنها كرماد اشتدت به الريح
    في يوم عاصف، ثم أعقب ذلك ذكر مثل أقوال المؤمنين.



    ووجه هذا المثل أنه سبحانه شبه الكلمة الطيبة -
    وهي كلمة لا إله إلا الله وما يتبعها من كلام طيب-
    بالشجرة الطيبة، ذات الجذور الثابتة والراسخة في الأرض،
    والأغصان العالية التي تكاد تطال عنان السماء،
    لا تنال منها الرياح العاتية، ولا تعصف بها العواصف الهوجاء،
    فهي تنبت من البذور الصالحة، وتعيش في الأرض الصالحة،
    وتجود بخيرها في كل حين، ثم تعلو من فوقها بالظلال الوارفة،
    وبالثمار الطيبة التي يستطيبها الناس ولا يشبعون منها،
    فكذلك الكلمة الطيبة تملأ النفس بالصدق والإيمان،
    وتدخل إلى القلب من غير استئذان، فتعمل به ما تعمل.


    وقد روى الطبري عن الربيع بن أنس رضي الله عنه
    في قوله تعالى: {كلمة طيبة}، قال: هذا مثل الإيمان،
    فالإيمان الشجرة الطيبة،
    وأصله الثابت الذي لا يزول الإخلاص لله،
    وفرعه في السماء، فرعه خشية الله.



    وهذه الشجرة أيضاً مثلها كالمؤمن، فهو ثابت في إيمانه،
    سامٍ في تطلعاته وتوجهاته، نافع في كل عمل يقوم به،
    مقدام مهما اعترضه من صعاب، لا يعرف الخوف إلى قلبه سبيلاً،
    معطاء على كل حال، لا يهتدي البخل إلى نفسه طريقاً،
    فهو خير كله، وبركة كله، ونفع كله.


    وعلى هذا يكون المقصود بالمثل تشبيه المؤمن، وقوله الطيب،
    وعمله الصالح، بالشجرة المعطاء، لا يزال يُرفع له عمل صالح
    في كل حين ووقت، وفي كل صباح ومساء.





    تعليق


    • #17
      المثل العشرون


      20-
      وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ
      اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ

      (الآية - 26)

      التفســير
      ذكر المفسرون أن المراد بـ ( الكلمة الخبيثة )
      كلمة الشرك، أو الكافر نفسه.

      أما الكلمة الخبيثة، وهي كلمة الشرك -وما يتبعها من كلام خبيث-
      فهي على النقيض من ذلك، كلمة ضارة غير نافعة،
      فهي تضر صاحبها، وتضر ناقلها، وتضر متلقيها،
      وتضر كل من نطق بها، وتسيء لكل سامع لها،
      إنها كلمة سوء لا خير فيها، وكلمة خُبْثٍ لا طيب فيها،
      وكلمة مسمومة لا نفع فيها؛



      فهي كالشجرة الخبيثة، أصلها غير ثابت، ومذاقها مر،
      وشكلها لا يسر الناظرين، تتشابك فروعها وأغصانها،
      حتى ليُخيَّل للناظر إليها أنها تطغى على ما حولها من الشجر
      والنبات، إلا أنها في حقيقة أمرها هزيلة، لا قدرة لها على
      الوقوف في وجه العواصف والأعاصير، بل تنهار لأدنى ريح،
      وتتهاوى لأقل خطر يهددها؛ إذ ليس من طبعها الصمود والمقاومة،
      وليس من صفاتها الثبات والاستقرار،
      إنها شجرة لا خير يرتجى منها، فطعمها مر،
      وريحها غير زاكية، فهي شر كلها، وخبث كلها، وسوء كلها.


      وهكذا الكافر، لا ثبات له في هذه الحياة ولا قرار،
      فهو متقلب بين مبدأ وآخر، وسائر خلف كل ناعق،
      لا يهتدي إلى الحق سبيلاً، ولا يعرف إلى الخير طريقاً،
      فهو شر كله، اعتقاداً وفكراً، وسلوكاً وأخلاقاً، وتطلعاً وهمة.



      روي عن قتادة في هذه الآية
      (أن رجلاً لقي رجلاً من أهل العلم فقال له:
      ما تقول في الكلمة الخبيثة ؟
      قال: لا أعلم لها في الأرض مستقراً، ولا في السماء مصعداً،
      إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها يوم القيامة).


      وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله سبحانه:
      {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة
      اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار}،
      قال: ضرب الله مثل الشجرة الخبيثة كمثل الكافر.
      يقول: إن الشجرة الخبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار،
      يقول: الكافر لا يقبل عمله، ولا يصعد إلى الله،
      فليس له أصل ثابت في الأرض، ولا فرع في السماء.
      (رواه الطبري).



      على أنه قد ورد في بعض الروايات أن الشجرة الطيبة
      التي ورد ذكرها في الآية هي شجرة النخل،
      وأن الشجرة الخبيثة هي شجرة الحنظل؛
      يرشد لذلك ما رواه أبو يعلى في "مسنده"عن أنس رضي الله عنه،
      أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بطبق عليه ثمر نخل،
      فقال:
      (مثل {كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء *
      تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} هي النخلة،
      {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها
      من قرار} قال: (هي الحنظل).


      وروى الطبري عن أنس رضي الله عنه
      في قوله تعالى: {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة}،
      قال: تلكم الحنظل، ألم تروا إلى الرياح كيف تصفقها يميناً وشمالاً؟



      فإذا كانت الشجرة الطيبة رمز العطاء والبذل،
      فإن كلمة التوحيد رمز العبودية لله، ودليل الإخلاص له،
      وبرهان الاعتماد عليه.
      وإذا كانت الشجرة الطيبة عنوان الخير والجود،
      فإن المؤمن خير كله، وبركة كله، وطيب كله.


      ولا شك أن القرآن حين يضرب مثلاً لكلمة التوحيد أو للمؤمن
      بالشجرة الطيبة الخيرة المعطاء، يكون قد أوصل الفكرة
      التي أراد إيصالها بشكل أكثر وضوحاً، وأشد بياناً من أن
      يأتي بتلك الفكرة مجردة، خالية من أي تمثيل أو تشبيه.






      تعليق


      • #18


        الأمثال الصريحة فى سورة النحل





        21-
        ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ
        وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا
        هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.
        (الآية - 75)

        22-
        وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ
        لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ
        أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن
        يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ .
        (الآية - 76)

        23-
        وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً
        يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ
        فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ.
        (الآية - 112)



        المثل الحادى والعشرون



        21-
        ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ
        وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا
        هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.
        (الآية - 75)

        التفســير
        من الأساليب الفنية التي استعملها الخطاب القرآني
        لتوصيل خطابه وكشف معانيه، وإبراز مقاصده،
        أسلوب ضرب المثل، وهو أسلوب قرآني بارز
        وملحوظ في القرآن الكريم.

        ووقفتنا اليوم مع آية قرآنية سيقت مساق ضرب المثل
        لمن يعمل بطاعة الله، ويلتزم حدوده وشرعه،
        ومن يُعرض عن ذلك فلا يكترث بشرع، ولا يقيم وزنًا لدين.



        يقول جلا علاه في محكم تنزيله:
        {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء
        ومن رزقناه منا رزقًا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا
        هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون}

        (النحل:75)

        والآية - كما هو ظاهر - مثَّلت لحالين،
        وإن شئت قل: أبرزت موقفين متباينين متعارضين؛
        الأول:
        حال العبد الذي لا يملك من أمره شيئًا، بل هو في موقف المنفعل،
        والمتأثر، والمتلقي لما يلقى عليه من أوامر ونواهٍ؛
        والثاني:
        حال الحر المالك لأمره، الفاعل وفق هدي ربه،
        والمؤثر فيمن حوله.



        قال أهل التفسير في معنى الآية:
        هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن،
        فالكافر رزقه الله مالاً فلم يقدم فيه خيرًا، ولم يعمل فيه بطاعة الله،
        بل أخذ ينفقه فيما لا يرضي الله سبحانه، ويستخدمه فيما لم يُشرع
        المال لأجله؛
        والمؤمن الذي رزقه الله رزقًا حسنًا، فهو يعمل فيه بطاعة الله،
        ويؤدي به شكره، ويعرف حق الله فيه،
        فشتان بين الموقفين؛
        موقف المعرض عما أمر الله به، والجاحد لما أنعم به عليه،
        وموقف المقبل على أمر ربه، والعارف لما أسبغ عليه من نعمه،
        فشتان ما هما {هل يستويان مثلا} ولكن أكثر الناس لا يعلمون،
        بل هم عن ذلك غافلون.


        ولا بأس أن تعلم، أن بعض المفسرين رأى أن المقصود في المثل
        المضروب في الآية، بيان الفرق بين خالق العباد ومدبر أمرهم،
        وبين الأصنام التي تعبد من دون الله، ولا تملك لنفسها نفعًا
        ولا ضرًا، فضلاً عن أن تملك ذلك لغيرها.

        وحاصل المعنى وفق هذا التفسير: أنه كما لا يستوي
        - عقلاً ولا عادة - عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء،
        ورجل حر قد رزقه الله رزقًا حسنًا فهو ينفق منه،
        كذلك لا يستوي الرب الخالق الرازق، والأصنام التي تعبد من الله،
        وهي لا تبصر ولا تسمع، ولا تضر ولا تنفع، ولا تخفض ولا ترفع.



        المثل الثانى والعشرون


        22-وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ
        لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ
        أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن
        يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ .
        (الآية - 76)

        التفســير
        إن لهذه الآية ارتباط وثيق بالآية التي تسبقها مباشرة،
        وهي قوله تعالى:
        ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ
        وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا
        هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.
        (الآية - 75)



        و( الكَلُّ) في الآية - بفتح الكاف - العالة على الناس،
        وفي الحديث: (من ترك كَلاً فإليَّ) رواه البخاري،
        أي من ترك عيالاً فأنا كفيلهم،
        وأصل (الكَلِّ) الثقل.
        و(الأبكم) هو الكافر،
        شُبِّه بذلك لعجزه عن إدراك الحق، والانقياد له،
        وتعذر الفائدة منه في سائر أحواله.
        و(العدل) الحق والصواب الموافق للواقع؛
        والذي {يأمر بالعدل} هو مثل للمؤمن الذي وُفِّق لإدراك الحق،
        وهُدي إليه، فعمل به، وجاهد لأجله، وعاش صابرًا
        ومصابرًا تحت لوائه.


        على أننا نفهم من هذا المثل الثاني، المضروب للتفريق بين الكافر
        والمؤمن، ما هو أعم من ذلك وأشمل، وهو أن يكون مثالاً لبيان
        الفارق بين المؤمن العامل والمؤمن الخامل،
        والمؤمن الفاعل والمؤمن المنفعل، والمؤمن الإيجابي والمؤمن
        السلبي، والمؤمن المتفائل والمؤمن المتشائم، والمؤمن المؤثر
        والمؤمن المتأثر...إلى غير ذلك من الصفات الفارقة والفاصلة
        بين الموقفين؛



        موقف مقدام غير هيَّاب، كل همه العمل بما يرضي الله،
        والسير على نهج خالقه، لا ينفتل إلى غير ذلك؛
        وموقف متردد خوار لا يدري ما هو فاعل،
        ولا إلى أين هو يتجه؛
        وشتان بين أن يكون المؤمن كَلاًّ، وبين أن يكون عدلاً،
        فالأول قاعد ينتظر من السماء أن تمطر عليه ذهبًا أو فضة،
        والثاني ساع في الأرض في مناكبها، آخذ بأسباب الرزق والعمل،
        متوكل على الله في أمره كله.

        فالعمل العمل عباد الله، والجد الجد أخي المؤمن،
        فاعرف دورك في هذه الحياة، وحدد وجهتك التي هي مقصدك،
        وتوكل على الله فهو حسبك، واستعن بالله ولا تعجز،
        إنه نعم المولى ونعم النصير.




        تعليق


        • #19
          المثل الثالث والعشرون


          23-
          وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً
          يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ
          فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ.
          (الآية - 112)

          التفســير
          أقام سبحانه هذا الكون وفق سنن محكمة، وقوانين مطردة،
          من أخذ بها نجا وسلم وأفلح، ومن غفل أو أعرض عنها،
          فقد خسر خسراناً مبيناً.
          ومن سنن الاجتماع التي أقام عليها سبحانه نظام هذا الكون
          سُنة قيام المجتمعات والدول وزوالها، تلك السُّنَّة التي تقرر أن
          أمر المجتمعات إنما يدوم ويستقر إذا أقامت شرع الله فيها،
          وأن أمرها يؤول إلى زوال واضمحلال، إذا أعرضت
          عن ذكر الله، وتنكبت سنن الهداية والرشاد.



          وقد ضرب سبحانه مثلاً واقعياً يُجلِّي هذه السُّنَّة الاجتماعية،
          ويظهرها أظهر بيان، ذلك ما نقرأه في قوله تعالى:
          {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة
          يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله
          فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}
          (النحل:112)،

          فقد جعل سبحانه (القرية) -والمراد أهلها- التي هذه حالها
          مثلاً لكل قوم أنعم الله عليهم، فأبطرتهم النعم، فكفروا بها،
          وتولوا عن أمر ربهم، فأنزل الله بهم عقوبته،
          وأبدلهم نقمة بعد ما كانوا فيه من نعمة.



          ويذكر المفسرون أن هذا المثل، ضربه سبحانه لبيان
          ما كان عليه حال أهل مكة؛ لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة
          والخصب، ثم أنعم الله عليهم بالنعم العظيمة، وهو محمد صلى الله
          عليه وسلم، فكفروا به، وبالغوا في إيذائه،
          فسلط الله عليهم البلاء والوباء.
          وقد قالوا هنا: عذبهم الله بـ (الجوع) سبع سنين،
          حتى أكلوا الجيف، والعظام،
          أما (الخوف) فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم
          كان يبعث إليهم السرايا، فيغيرون عليهم.



          وهذا الذي نزل بهم إنما كان بسبب موقفهم من دعوة رسول
          الله صلى الله عليه وسلم، وإعراضهم عن الهدي الذي
          جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، فكان عاقبتهم أن
          أذاقهم {الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}.


          ولا يهمنا في هذا السياق تحديد (القرية) المرادة في هذا المثل،
          هل هي مكة -كما ذهب لذلك أكثر المفسرين،
          أو أن يُراد قرية من قرى الأولين-،
          بل المهم بيان أمر هذه (القرية)، وكيف كان حالها من الرخاء،
          والسعة في الرزق، والبسط في العيش،
          ثم إنها تنكبت عن شرع الله، فضربها الله مثلاً لعباده؛
          إنذاراً من مثل عاقبتها.



          والغرض الرئيس من هذا المثل بيان أن التزام شرع الله
          هو الأساس الذي تُحفظ به الدول، وتستقر به المجتمعات،
          وأن الإعراض عنه يؤدي بها إلى الهلاك والزوال،
          مصداق ذلك غير الآية التي معنا قوله عز وجل:
          {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات
          من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}

          (الأعراف:96)،
          وقوله سبحانه أيضاً:
          {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}
          (هود:102).


          ولا يُغرنك في هذا الصدد ما تراه من استقرار الأمم،
          وازدهار الدول التي لا تطبق شرع الله، ولا تقيم له وزناً،
          فإنها في حقيقة أمرها إنما هي تمر بالمرحلة الأولى
          التي ذكرها هذا المثل، وهي مرحلة الأمن والطمأنينة؛
          لينظر الله ماذا عساها تعمل، وماذا عساها تصنع،
          والعبرة بالخواتيم والنهايات،
          وقد يُستأنس في هذا الشأن بقوله تعالى:
          {بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر}
          (الأنبياء:44).


          ومن المهم أن نلفت الانتباه إلى أن هذه السُّنَّة في الاجتماع،
          وهي سُنَّة يصح أن نطلق عليها سُنَّة الصعود والهبوط،
          والأمن والخوف، والسعة والضيق،
          نقول: إن هذه السُّنَّة كما تنطبق على المجتمعات والدول،
          فهي تنطبق كذلك على الأفراد والجماعات،
          فالإنسان الذي يعيش في نعمة، ولا يرعى هذه النعمة،
          ولا يقدرها قدرها، ولا يشكر واهبها،
          فلا جرم أن يُحرم من تلك النعمة، وأن يسلبها الله إياها؛
          لكفرانه بها، وجحده بمانحها وواهبها.









          تعليق


          • #20



            الأمثال الصريحة فى سورة الكهف






            24- وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ
            وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا
            (الآية-32)

            25-
            وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ
            مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا
            تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا
            (الآية-45)




            المثل الرابع والعشرون



            وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ
            وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا
            وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ
            لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ
            جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)
            وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا
            مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ
            تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا
            أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ
            لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي
            أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ
            فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ
            طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا
            وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
            وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
            هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)

            التفســير

            من مقاصد الأمثال في القرآن الكريم تربية الإنسان تربية إيمانية،
            بحيث يكون إنساناً صالحاً، يسعد به المجتمع غاية السعادة،
            وتحتفي به الإنسانية أشد الاحتفاء. فالإنسان هو الغاية الأولى
            والمقصد الأهم الذي يهتم به الخطاب القرآني عموماً،
            والمثل القرآني على وجه الخصوص.



            والمثل في القرآن كما يتناول الإنسان في تكوينه ونشأته،
            فهو كذلك يتناوله في مصدر رزقه وتقلبه في معيشته
            وسعيه ونشاطه.

            واستناداً لما تقدم، يضرب لنا القرآن الكريم مثلاً لرجلين،
            أحدهما:
            كافر يملك أملاكاً يفاخر بها من حوله،
            ويجادل في الله بغير حق.
            وثانيهما:
            مؤمن لا يملك من الثروة ما يملكه ذاك الكافر الجاحد،
            بيد أنه قانع بما قسمه الله له من رزق،
            طامع بعطاء الله وسعة فضله.


            يوضح هذا المثل القرآني ما يتميز به الناس بعضهم عن بعض
            في التفكير والاعتقاد تجاه واهب الأقوات، ومقدر الأرزاق.
            وهو يمثل نموذجاً واقعيًّا للإنسان في سلوكه وانفعالاته النفسية،
            وفي نمط عيشه، وكل ما يتعلق بكيانه ووجوده.

            فمن الناس -وَفْقاً لهذا المثل القرآني- من تغلب عليه طباع الغرور،
            والاعتزاز بالأملاك والمال، فيظن أن ما وصل إليه في دنياه إنما هو
            من صنيع يده، دون التفكير بأن {الله هو الرزاق ذو القوة المتين}
            (الذاريات:58)، وأنه هو الذي يعطي ويمنع، وأنه هو الذي يضر
            وينفع؛ لأنه سبحانه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك
            ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير
            وهو على كل شيء قدير.


            وسياق الآيات التي سيق من خلالها هذا المثل يفيد أن الصحبة
            جمعت بين رجلين؛ لأحدهما جنتان تحفلان بالبساتين العامرة
            بالأشجار والزروع، وهذا ما جعله يزهو بنفسه، ويفاخر بملكه.
            وفي أثناء موسم العطاء الزراعي يمر به صاحبه المؤمن،
            فيطوف صاحب البستان بصاحبه في أرجاء بستانه؛ ليريه ما عنده،
            ويدور بينهما الحوار التالي:



            قال المفاخر بماله لصاحبه المؤمن:
            أرأيت هذه البساتين وما يحف بها من الظلال الوارفة،
            والأشجار المثمرة، وما يتخللها من الأنهار المتدفقة؟
            كل ذلك يجعلني -يا صاحبي- أعظم منك ثروة،
            وأكثر منك ذرية، وكل ذلك بجهدي وقوتي وعلمي وعملي..!


            وبعد جولة في أرجاء هذه البساتين الغَنَّاء، يتابع المتباهي
            حديثه مع صاحبه بلغة الظن التي هي أقرب منها إلى لغة اليقين،
            فيقول له:
            ما أظن أن هذه البساتين سوف تفنى وتبيد، وما أظن أن وراء هذه
            الحياة الدنيا حياة أخرى، وعلى فرض أن ثمة حياة وراء هذه الحياة،
            فإن هذه الأملاك التي أتمتع بها، وأعيش في رحابها سوف تكون
            شافعاً لي إذ ذاك..!


            فينظر إليه صاحبه المؤمن متعجباً مما يقول، ثم يجيبه
            -وهو يعلم علم اليقين أن المال لله تعالى، وأنه القابض والباسط-:
            أكفرت بأنعم الله عليك؟ إن الله خلقك من تراب، ثم من نطفة،
            ثم سواك رجلاً على الصورة التي أنت عليها الآن،
            وأمدك بكل الأسباب التي جعلتك على ما أنت عليه من خير
            ونعيم في المال والبنين..فهل فكرت بأن كل ذلك من
            عطاء الله القدير، ومن فضل ربك الكريم.


            ثم يتابع المؤمن وعظه لصاحبه قائلاً:
            أما أنا، فإنني أومن بالله رباً، إلهاً واحداً لا شريك له،
            وأنا أنصحك بأن تسلك مسلك الإيمان، فتؤمن بالله الذي
            منحك الصحة والعافية والمال والبنين، وأن تتبرأ من حولك
            وقوتك، تلك القوة التي لولا أن أمدك الله بها لما كان لديك
            ما لديك، ولكان لك شأن غير الشأن الذي أنت عليه الآن.


            ويستمر المؤمن محاوراً صاحبه المغرور، ومحاولاً إقناعه بأن
            ما عليه من غرور سوف يعود عليه بالوبال والنكال، فيقول:
            إنك إن رأيتني أني أقل منك مالاً وولداً، فهذا من أمر الله،
            فهو سبحانه الذي قدر لي رزقي، ووهب لي ذريتي،
            ولا أملك إلا أن أحمده على ما أنعم علي من رزق، وأشكره
            على ما وهبني من عطاء جزيل. ثم ما يدريك -يا صاحبي-
            أن يمنَّ الله عليَّ في قابل الأيام خيراً مما منَّ الله به عليك،
            فليس الغنى وقفاً على أحد، ولا الفقر ملازماً لأحد،
            وقد قال تعالى: {والله يقبض ويبسط} (البقرة:245)،


            فالرزق يأتي ويذهب، وإن من يظن أن ما لديه من مال إنما هو
            من جهده وكده فهو إنسان مغرور بنفسه، جاهل بربه، جاحد لنعمه.
            وإن كنت تظن أن هذه البساتين التي أعطاك الله إياها لن تبيد،
            فأنت مغرور في ظنك، فالله قادر على أن يرسل عليها الصواعق
            الماحقة، والنوازل المهلكة، فتصبح أشجارها جرداء فانية، كأن لم
            تكن مثمرة، وتصبح أرضها صلداء ملساء لا يستقر فيها ماء، ولا
            ينبت فيها ثمار. وما يدريك أن يأمر الله ماء هذا النهر الذي ينساب
            في أرضك أن يختفي في باطن الأرض، فمن أين لك حينئذ أن تأتي
            بالماء لتسقي به الأرض والحرث، وتنمي به الزرع والنخل؟



            ويختم المؤمن نصحه لصاحبه المغرور بالقول:
            فاتق الله الذي وهب لك المنح والنعم، وارجع إلى نفسك،
            فحاسبها على ما فرطت في جنب الله، وردها عن غيها
            وغرورها، واعترف بالفضل والمنة لذي العزة والجبروت.

            بيد أن ذلك الجاحد المغرور لم يفلح معه نصح ولا إرشاد،
            بل ظل معانداً للحق، مكابراً بأن علمه هو الذي أنشأ تلك البساتين
            المثمرة، وأن جهده هو الذي جعلها تؤتي أكلها..



            ولكن ها هو ذا يرى بعيني رأسه عاقبة غروره، ومآل سوء الظن
            بربه؛ فقد نزلت النازلة بكل ما يملك، وأحيط به من كل جانب؛
            فإذا به بين عشية وضحاها يجد أن كل شيء في حوزته قد ذهب
            هباء منثوراً، وأصبح شيئاً منكوراً..
            فما كان مثمراً بالأمس أصبح يابساً اليوم، وما كانت تدب به الحياة
            من عهد قريب أضحى ميتاً بفعل القوي العزيز..
            فلما رأى ذلك المغرور ما نزل به من بلاء وما حاق به من مصاب
            أخذ يعض أصابع الندم، وصار يتحسر أشد التحسر على ما كان منه
            من جحود وغرور، وانتهى به الأمر إلى أن يقول:
            {يا ليتني لم أشرك بربي أحدا} (الكهف:42)،
            وقد جعله ما نزل به يدرك أن ادعاءه بقوته، وغروره بنفسه هو
            شرك بالله تعالى، وأيقن أن الأمر كله مرجعه إلى الله وحده،
            و{أن القوة لله جميعا} (البقرة:165).
            وأدرك فوق ذلك، أن ما كان له من مال وولد،
            لم يكن ليغني عنه من الله شيئاً، وأن لا سبيل إلى تعويض
            ما أخذه الله منه، فعلم أن وعد الله حق، وندم ولات ساعة مندم.


            وعلى ضوء ما تقدم، يتبين لنا أن المقصد الأساس من هذا المثل
            القرآني تربية الإنسان تربية سوية، بحيث لا تأخذه العزة بالإثم،
            ولا يأخذه الغرور بادعاء العلم، ولا تسلبه النعم نعمة الاعتراف
            بفضل خالقه ورازقه، وذلك مهما زينت له هذه الحياة الدنيا من
            علم واسع أو ملك عريض.


            فمن الخير -كل الخير- للإنسان أن يحمد ربه على ما أمده من نعم،
            وأن يشكره على ما رزقه من عطاء، وأن يؤمن بحق أن
            {الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء} (آل عمران:73)
            و{أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} (الروم:37).
            وهو سبحانه الذي يجزي على النوايا، ويثيب على الأفعال.
            فالدنيا -في المحصلة- دار ابتلاء وفناء،
            والدار الأخرى دار قرار واستقرار،
            والولاية والملك لله الواحد القهار.




            تعليق


            • #21
              المثل الخامس والعشرون


              25-
              وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ
              مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا
              تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا
              (الآية-45)

              التفســير
              وصف سبحانه الحياة وزينتها في موضعين من كتابه،
              بأنها: { متاع الغرور } (آل عمران:185)؛
              وجاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم:
              ( إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها،
              فينظر كيف تعملون )
              رواه مسلم .
              وواقع الناس في كل زمان ومكان يدل على مدى تعلقهم
              بزينة الحياة الدنيا وزخرفها، والعمل لأجلها صباح مساء،
              وكأنهم خالدون فيها مخلدون؛ إما طلبًا للجاه، أو طلبًا للمال،
              أو طلبًا للشهرة، أو طلبًا لغير ذلك من الشهوات والملذات؛
              الأمر الذي يجعلهم مشدودين إلى مكاسبها، مشدوهين بمغرياتها،
              لاهثين خلف سرابها .



              وقد ضرب سبحانه في محكم كتابه مثلاً لهذه الحياة،
              فقال جل من قائل:
              وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ
              مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا
              تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا
              (الكهف: الآية-45)

              يقول ابن كثير فى تفسير الآية:

              يقول تعالى : ( واضرب ) يا محمد للناس ( مثل الحياة الدنيا ) في
              زوالها وفنائها وانقضائها ( كماء أنزلناه من السماء فاختلط به
              نبات الأرض )
              أي : ما فيها من الحب ، فشب وحسن ، وعلاه
              الزهر والنور والنضرة ثم بعد هذا كله ( فأصبح هشيما ) يابسا
              ( تذروه الرياح ) أي : تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال
              ( وكان الله على كل شيء مقتدرا ) أي : هو قادر على هذه الحال .



              وكثيرا ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل
              كما في سورة " يونس " :
              ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط
              به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت
              الأرض زخرفها وازينت )
              ... الآية
              [ يونس : 24 ] ،


              وقال في سورة " الزمر " :
              ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في
              الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه
              مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب )

              [ الزمر : 21 ] ،


              وقال في سورة " الحديد " :
              ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر
              بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب
              الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي
              الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان
              وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )

              [ الحديد : 20 ] .


              وفي الحديث الصحيح : " الدنيا حلوة خضرة "


              ويقول السعدى:
              يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :
              اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ليتصوروها حق التصور،
              ويعرفوا ظاهرها وباطنها، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية،
              ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار.


              وأن مثل هذه الحياة الدنيا، كمثل المطر، ينزل على الأرض،
              فيختلط نباتها، تنبت من كل زوج بهيج، فبينا زهرتها وزخرفها
              تسر الناظرين، وتفرح المتفرجين، وتأخذ بعيون الغافلين،
              إذ أصبحت هشيما تذروه الرياح، فذهب ذلك النبات الناضر،
              والزهر الزاهر، والمنظر البهي، فأصبحت الأرض غبراء ترابا،
              قد انحرف عنها النظر، وصدف عنها البصر، وأوحشت القلب،



              كذلك هذه الدنيا، بينما صاحبها قد أعجب بشبابه، وفاق فيها على
              أقرانه وأترابه، وحصل درهمها ودينارها، واقتطف من لذته
              أزهارها، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته، وظن أنه لا يزال
              فيها سائر أيامه، إذ أصابه الموت أو التلف لماله، فذهب عنه سروره،
              وزالت لذته وحبوره، واستوحش قلبه من الآلام وفارق شبابه وقوته
              وماله، وانفرد بصالح، أو سيئ أعماله،


              هنالك يعض الظالم على يديه، حين يعلم حقيقة ما هو عليه،
              ويتمنى العود إلى الدنيا، لا ليستكمل الشهوات، بل ليستدرك
              ما فرط منه من الغفلات، بالتوبة والأعمال الصالحات،


              فالعاقل الجازم الموفق، يعرض على نفسه هذه الحالة،
              ويقول لنفسه: قدري أنك قد مت، ولا بد أن تموتي،
              فأي: الحالتين تختارين؟
              الاغترار بزخرف هذه الدار، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة،
              أم العمل، لدار أكلها دائم وظلها، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ
              الأعين؟ فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه، وربحه من خسرانه.



              ويقول الشيخ الشعراوى
              وهكذا الدنيا تبدو جميلة مُزهِرة مُثمِرة حُلْوة نَضِرة،
              وفجأة لا تجد في يديك منها شيئاً؛
              لذلك سماها القرآن دُنْيا وهو اسم يُوحي بالحقارة،
              وإلا فأيّ وصف أقل من هذا يمكن أن يصفها به؟
              لنعرف أن ما يقابلها حياة عُلْيا.


              وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم:
              كما ضربتُ لهم مَثَل الرجلين وما آل إليه أمرهما ،
              اضرب لهم مثل الحياة الدنيا وأنها تتقلّب بأهلها، وتتبدل بهم،
              واضرب لهم مثلاً للدنيا من واقع الدنيا نفسها.


              ومعنى {فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} [الكهف: 45]
              أي: اختلط بسببه نبات الأرض، وتداخلَ بعضُه في بعض،
              وتشابكتْ أغصانه وفروعه، وهذه صورة النبات في الأرض
              الخِصْبة، أما إنْ كانت الأرض مالحة غير خِصْبة فإنها
              تُخرِج النبات مفرداً، عود هنا وعود هناك.



              لكن، هل ظل النبات على حال خُضْرته ونضارته؟
              لا، بل سرعان ما جفَّ وتكسر وصار هشيماً تطيح
              به الريح وتذروه،
              هذا مثلٌ للدنيا حين تأخذ زخرفها وتتزيَّن،
              كما قال تعالى:
              {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ
              قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً..}
              [يونس: 24].


              ثم يقول تعالى:
              {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً} [الكهف: 45]
              لأنه سبحانه القادر دائماً على إخراج الشيء إلى ضِدّه،
              كما قال سبحانه:
              {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18].
              فقد اقتدر سبحانه على الإيجاد، واقتدر على الإعدام،
              فلا تنفكّ عنه صفة القدرة أبداً،
              أحيا وأمات، وأعزَّ وأذلَّ،
              وقبض وبسط، وضَرَّ ونفع.

              تعليق


              • #22



                الأمثال الصريحة فى سورة الحج





                26- حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ
                فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ
                أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ
                (الحج-الآية31)

                27- يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
                إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا
                وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لّا
                يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ
                (الحج-الآية73)



                المثل السادس والعشرون


                26- حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ
                فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ
                أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ
                (الحج-الآية31)

                التفســير
                ضرب الله سبحانه وتعالى للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه
                وبعده عن الهدى فقال :
                ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء ) أي : سقط منها ،
                ( فتخطفه الطير ) ، أي : تقطعه الطيور في الهواء ،
                ( أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) أي : بعيد مهلك لمن هوى فيه


                ولهذا جاء في حديث البراء :
                " إن الكافر إذا توفته ملائكة الموت ، وصعدوا بروحه إلى السماء ،
                فلا تفتح له أبواب السماء ، بل تطرح روحه طرحا من هناك " .
                ثم قرأ هذه الآية


                وقد ضرب [ الله ] تعالى للمشرك مثلا آخر في سورة " الأنعام " ،
                وهو قوله :
                ( قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا
                بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له
                أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى
                وأمرنا لنسلم لرب العالمين )
                [ الأنعام : 71 ] .



                فمن أشرك باللّه فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية،
                فقد صور حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير،
                فتفرق مزعا في حواصلها،
                أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة.


                فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء،
                والذي ترك الإيمان وأشرك باللّه بالساقط من السماء،
                والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة،
                والشيطان الذي يطوّح به في وادى الضلالة بالريح
                التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوى المتلفة.



                يقول الشيخ الشعراوى
                ويعطينا الحق سبحانه صورة توضيحية لعاقبة الشرك:
                {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير
                أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ..}
                [الحج: 31].
                خرَّ: يعني سقط من السماء لا يُمسكه شيء،
                ومنه قوله تعالى:
                {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ..} [النحل: 26].


                وفي الإنسان جمادية؛ لأن قانون الجاذبية يتحكم فيه،
                فإنْ صَعِد إلى أعلى لابد أنْ يعود إلى الأرض بفعل هذه الجاذبية،
                لا يملك أنْ يُمسِك نفسه مُعلَّقاً في الهواء،
                فهذا أمر لا يملكه وخارج عن استطاعته،

                وفي الإنسان نباتية تتمثل في النمو،
                وفيه حيوانية تتمثل في الغرائز،
                وفيه إنسانية تتمثل في العقل والتفكير والاختيار بين البدائل،
                وبهذه كُرِّم عن سائر الأجناس.


                وتلحظ أن(خرَّ) ترتبط بارتفاع بعيد
                {خَرَّ مِنَ السمآء..} [الحج: 31]
                بحيث لا تستطيع قوة أنْ تحميه، أو تمنعه لا بذاته ولا بغيره،
                وقبل أنْ يصل إلى الأرض تتخطفه الطير،
                فإنْ لم تتخطفه تهوي به الريح في مكان بعيد وتتلاعب به،
                فهو هالك هالك لا محالةَ،
                ولو كانت واحدة من هذه الثلاث لكانت كافية.


                وعلى العاقل أنْ يتأمل مغزى هذا التصوير القرآني
                فيحذر هذا المصير، فهذه حال مَنْ أشرك بالله،
                فإنْ أخذتَ الصورة على أنها تشبيه حالة بحالة،
                فها هي الصورة أمامك واضحة،
                وإنْ أردتَ تفسيراً آخر يُوضِّح أجزاءها:
                فالسماء هي الإسلام، والطير هي الشهوات،
                والريح هي ريح الشيطان، يتلاعب به هنا وهناك.
                فأيُّ ضياع بعد هذا؟ ومَنْ ذا الذي ينقذه من هذا المصير؟



                ويوضح الدكتور محمد راتب النابلسى
                أن الشرك نوعان:
                شرك جلي و شرك خفي،
                الشرك الجلي قلما نجده في العالم الإسلامي
                لأن الله سبحانه وتعالى بعد أن أنزل الكتاب على عبده
                وانتشر الهدى يئس الشيطان أن يُعبد غير الله في بلاد المسلمين،
                أن يكون هناك إلها كاللات و العزى تُعبد من دون الله تعالى
                بعد بعثة المصطفى هذا مستحيل،
                عَنْ جَابِرٍ قَالَ
                قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
                (( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ
                وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهم ))

                [رواه الترمذي]


                عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:
                (( خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ
                الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ
                الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ قَالَ قُلْنَا بَلَى فَقَالَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ
                يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ ))

                [رواه ابن ماجه]


                فضعف الإخلاص من ضعف التوحيد
                و ضعف المحبة لله من ضعف التوحيد،
                والنفاق من ضعف التوحيد و التملق من ضعف التوحيد
                و الخوف من ضعف التوحيد،
                فأمراض النفس الوبيلة واحدة واحدة لو حلّلتها
                لوجدتها من ضعف التوحيد.






                تعليق


                • #23
                  المثل السابع والعشرون

                  27- يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
                  إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا
                  وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لّا
                  يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ
                  (الحج-الآية73)

                  التفســير
                  من بدائع الأسلوب القرآني المعجز ضرب الأمثال للناس،
                  بقصد إيصال الأفكار المجردة بصورة حسية مرئية،
                  يكون لها من الأثر في النفوس، والتأثير في العقول،
                  ما لا يكون للفكرة المجردة من ذلك.



                  ومن قبيل هذا الأسلوب المثل القرآني الذي ضربه سبحانه لبيان
                  حقيقة ما يُعبد من دونه، مهما كان هذا المعبود إنساً أو جنًّا،
                  شجراً أو حجراً، صنماً أو وثناً،
                  قوله عز وجل:
                  {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له
                  إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له
                  وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب}

                  (الحج:73).


                  إنه نداء عام، ونفير بعيد الصدى، يتوجه به سبحانه إلى الناس
                  -كل الناس- مقرراً حقيقة مهمة في هذا الوجود، لا يستقيم أمره
                  إلا بالتسليم لها، ولا تكون سعادته إلا بالأخذ بمستلزماتها،
                  وهي أنه لا معبود ينبغي أن يفرد بالعبادة إلا هو سبحانه،
                  أما ما سواه من الآلهة المدعاة، فهي ليست أكثر من آلهة مزيفة،
                  لا تملك من أمرها شيئاً، فضلاً عن أن تملك لغيرها نفعاً أو ضراً.


                  ثم إن هذا المثل يقرر حقيقة أخرى مفادها:
                  أن هذه الآلهة المزيفة، هي أحقر من أن تقدر على أقل ما خلقه الله
                  وأذله وأصغره، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا وتعاضدوا.
                  وليس أدل من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم: أن هذا الخلق
                  الأقل الأذل (الذباب)، لو اختطف منهم شيئاً، فاجتمعوا على أن
                  يستخلصوه منه، لم يقدروا على شيء من ذلك، مهما توسلوا
                  من الأسباب، ومهما ملكوا من الوسائل.


                  شُبِّه عجز الآلهة المعبودة من غير الله بهيئة ناس تعذر عليهم خلق
                  أضعف المخلوقات، وهو الذباب. وإذا عجزت هذه الآلهة المزيفة
                  عن إيجاد أضعف الخلق، وعن دفع أضعف المخلوقات عنها،
                  فكيف تُوسم بالإلهية؟ وكيف يُتوجه إليها بالعبودية؟
                  وهي -في الحقيقة- لا تملك من أمرها شيئاً،
                  فضلاً عن أن تملك لغيرها نفعاً أو ضراً.

                  وهذا المثل يعلن على الملأ ضعف الآلهة المدعاة،
                  التي يتخذها الناس من دون الله أوثاناً مودة بينهم.
                  ومن بينها تلك الآلهة التي يستنصر بها أولئك الظالمون،
                  ويركن إليها أولئك الطاغون.



                  ومن بلاغة هذا المثل القرآني، أنه شبه ضعف هذه الآلهة
                  وهوان أمرها بالذباب، وهو من أضعف المخلوقات بنية،
                  ومن أحقرها شأناً، ومع ذلك فإن خلق الذباب مستحيل،
                  كخلق الجمل والفيل؛ لأن الذباب يحتوي على ذلك السر المعجز
                  سر الحياة، فيستوي في استحالة خلقه مع الجمل والفيل.
                  ولكن الأسلوب القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الحقير؛
                  لأن العجز عن خلقه -كما يقول سيد قطب رحمه الله-
                  يلقي في الحس ظل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق
                  الجمل والفيل! دون أن يخل هذا بالحقيقة في التعبير.



                  ثم إن الآلهة المدعاة لا تملك استنقاذ شيء من الذباب حين
                  يسلبها إياه، سواء كانت أصناماً أو أوثاناً أو أشخاصاً!
                  وقد اختير الذباب بالذات، وهو ضعيف حقير،
                  وهو في الوقت ذاته يحمل أخطر الأمراض،
                  ويسلب أغلى النفائس: يسلب العيون، والجوارح،
                  وقد يسلب الحياة والأرواح؛ لما يحمله من جراثيم قاتلة.
                  وهذه حقيقة أخرى كذلك يستخدمها الأسلوب القرآني المعجز.
                  ولو قال: وإن تسلبهم السباع شيئاً لا يستنقذوه منها،
                  لأوحى ذلك بالقوة بدل الضعف، والسباع لا تسلب شيئاً أعظم
                  مما يسلبه الذباب! ولكنه الأسلوب القرآني العجيب.


                  ويختتم المثل القرآني ما قرره من حقائق بتقرير خاتمة الحقائق،
                  وهي أن ما سوى الخالق سبحانه ضعيف حقير، لا يملك لنفسه
                  -فضلاً عن غيره- نفعاً ولا ضراً، ولا خلقاً، ولا حياة، ولا نشوراً،
                  {ضعف الطالب والمطلوب}.



                  وقد تكلم ابن القيم حول هذا المثل
                  بكلام من المناسب ذكره هنا،
                  قال رحمه الله:
                  "حقيق بكل عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل؛
                  فإنه يقطع موارد الشرك من قلبه،
                  وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده،
                  وإعدام ما يضره، والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله
                  لن تقدر على خلق ذباب، ولو اجتمعوا كلهم لخلقه،
                  فكيف ما هو أكبر منه؟
                  ولا يقدرون على الانتصار من الذباب، إذا سلبهم شيئاً
                  مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذونه منه،
                  فلا هم قادرون على خلق الذباب، الذي هو من أضعف الحيوان،
                  ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه،
                  فلا أعجز من هذه الآلهة، ولا أضعف منها،
                  فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله تعالى؟".



                  والمقصد الرئيس الذي يريد أن يقرره هذا المثل القرآني،
                  هو بطلان الشرك بالله، وتجهيل أهله، وتقبيح عقولهم،
                  والشهادة على أن الأمر -بداية ونهاية- إلى الله وحده،
                  وأن جميع المخلوقين لا يملكون لا نفسهم ضراً ولا نفعاً،
                  وبالتالي فلا ينبغي للعاقل أن يعتمد على أحد سوى الله وحده،
                  فهو المقدِّم والمؤخر، والمبدئ والمعيد، والمحيي والمميت،
                  {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} (الأعراف:54).




                  تعليق


                  • #24



                    الأمثال الصريحة فى سورة النور





                    28-
                    اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
                    الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ
                    مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ
                    وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء
                    وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
                    (النور-الآية35)

                    29-
                    وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً
                    حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ
                    وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ
                    (النور-الآية39)

                    30-
                    أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ
                    مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ
                    لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ
                    (النور-آية40)


                    المثل الثامن والعشـرون


                    28-
                    اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
                    الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ
                    مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ
                    وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء
                    وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
                    (النور-الآية35)

                    التفســير
                    الأمثال تقرب المعاني المعقولة من المعاني المحسوسة،
                    وتقرب المفاهيم غير المحدودة من المفاهيم المحدودة،
                    فتستبين المعاني والمفاهيم، ولولا ذلك لكانت عصية
                    على الفهم والإدراك.

                    ومن الأمثال التي ضربها سبحانه ليعقلها العالمون من عباده،
                    قوله عز وجل:
                    {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح
                    المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من
                    شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء
                    ولو لم تمسسه نار نور على نور}
                    (النور:35).



                    وحاصل هذا المثل: أن مثل الهدى الذي جاء به سبحانه لعباده
                    كمثل نور مصباح، يستمد وقوده من زيت شجرة الزيتون
                    المشهورة بالعطاء والخير، وهذا المصباح موضوع في زجاجة
                    شفافة منيرة، تعكس ضوء المصباح، حتى يبدو كأنه نور كوكب
                    منير من كواكب السماء، كالمشتري والزهرة والمريخ وسهيل
                    ونحوها، والزجاجة موضوعة في كوة صغيرة في جدار، تقيه الريح،
                    وتصفي نوره، فتحصر نوره وتجمعه، فيبدو قوياً متألقاً غاية التألق.


                    فقوله تعالى: {الله نور السماوات والأرض}
                    المراد: أنه سبحانه هادي أهل السموات والأرض
                    {إلى الحق وإلى طريق مستقيم} (الأحقاف:30).

                    فالمراد بـ (النور) الهداية إلى العلم والعمل؛
                    يدل على ذلك قوله سبحانه في آخر الآية:
                    {يهدي الله لنوره من يشاء}،
                    وقوله عقب ذلك: {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}
                    (النور:40). وهذا قول ابن عباس والأكثرين رضي الله عنهم.



                    قال الزمخشري: إضافة (النور) إلى {السماوات والأرض}؛
                    لأحد معنيين: إما للدلالة على سعة إشراقه، وفشو إضاءته،
                    حتى تضيء له السموات والأرض.
                    وإما أن يراد أهل السموات والأرض، وأنهم يستضيئون به.

                    وقال ابن عاشور: "وأحسن ما يفسر به قوله تعالى:
                    {الله نور السماوات والأرض} أن الله موجد كل ما يعبر عنه بالنور،
                    وخاصة أسباب المعرفة الحق، والحجة القائمة، والمرشد إلى الأعمال
                    الصالحة التي بها حسن العاقبة في الدنيا والآخرة".



                    وقوله سبحانه: {مثل نوره} في عود الضمير قولان:
                    أحدهما:
                    أنه عائد إلى الله عز وجل،
                    أي: مثل هداه في قلب المؤمن {كمشكاة}.
                    قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

                    ثانيهما:
                    أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام،
                    والتقدير: مثل نور المؤمن الذي في قلبه {كمشكاة}.
                    فشبه قلب المؤمن، وما هو مفطور عليه من الهدى،
                    وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه،
                    كما قال تعالى: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه}
                    (هود:17)، فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من
                    الزجاج الشفاف الجوهري، وما يستهديه من القرآن والشرع
                    بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل،
                    الذي لا كدر فيه ولا انحراف.



                    وقوله سبحانه: {فيها مصباح}،
                    قال أُبيُّ بن كعب: المصباح: النور، وهو القرآن،
                    والإيمان الذي في صدر المؤمن.

                    وقوله تعالى: {المصباح في زجاجة}،
                    أي: هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية.
                    قال أُبيُّ بن كعب وغير واحد: هي نظير قلب المؤمن.


                    وقوله سبحانه: {الزجاجة كأنها كوكب دري}،
                    منسوبة إلى الدُّر في صفاء لونه وبياضه.
                    شُبهت الزجاجة التي تحيط بالمصباح بكوكب منير مضيء،
                    فهي بذاتها شفافة رائقة سنية منيرة، تعكس نور المصباح
                    كأحسن ما يكون النور.

                    وقوله تعالى: {يوقد من شجرة مباركة زيتونة}،
                    الشجرة المباركة هي شجرة الزيتون،
                    قال تعالى: {وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت
                    بالدهن وصبغ للآكلين} (المؤمنون:20).


                    وقوله سبحانه: {لا شرقية ولا غربية}،
                    أي: جهتها بين جهة الشرق وجهة الغرب.
                    قيل: منبتها الشام، وأجود الزيتون: زيتون الشام.
                    وقيل: ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها
                    فقط، بل تصيبها بالغداة والعشي جميعاً، فهي شرقية وغربية.

                    وقوله تعالى: {نور على نور}
                    قال أُبيُّ بن كعب: فالمؤمن يتقلب في خمسة من النور:
                    فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور،
                    ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة.
                    وبالطبع، فإنه نور الله الذي أشرقت به الظلمات في السماوات
                    والأرض. النور الذي لا ندرك كنهه، ولا مداه.
                    إنما هي محاولة لوصل القلوب به، والتطلع إلى رؤياه.



                    قال الرازي: "فالمصباح إذا كان في مشكاة، كان شعاعه منحصراً
                    فيها غير منتشر، فكان أشد إضاءة لها مما لو كان في بيت،
                    وإذا كان موضوعاً في زجاجة صافية تضاعف نوره،
                    وإذا كان زيته نقياً صافياً، كان أشد إسراجاً،
                    فحصل تمثيل حال الدين أو الكتاب المنزل من الله في بيانه
                    وسرعة فشوه في الناس بحال انبثاق نور المصباح وانتشاره
                    فيما حف به من أسباب قوة شعاعه وانتشاره في الجهة المضاءة به".



                    ووجه هذا المثل، وتطبيقه على حالة المؤمن، ونور الله في قلبه،
                    أن فطرته التي فُطِر عليها، بمنزلة الزيت الصافي، ففطرته صافية،
                    مستعدة للتعاليم الإلهية، والعمل المشروع، فإذا وصل إليه العلم
                    والإيمان، اشتعل ذلك النور في قلبه، بمنزلة اشتعال النار في فتيلة
                    ذلك المصباح، وهو صافي القلب من سوء القصد، وسوء الفهم
                    عن الله، إذا وصل إليه الإيمان، أضاء إضاءة عظيمة، لصفائه من
                    الكدورات، وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية، فيجتمع له
                    نورالفطرة، ونور الإيمان، ونور العلم، وصفاء المعرفة،
                    نور على نوره.



                    والغرض الرئيس من هذا المثل؛
                    بيان أن الهدى الذي جاء به هذا الدين، إنما هو بمثابة النور
                    الذي يضيء الطريق، وهو المنهج الذي يخرج الناس من الظلمات
                    إلى النور، كما قال تعالى:
                    {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}،
                    وكقوله عز وجل:
                    {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس
                    كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} (الأنعام:122).


                    ونختم الحديث عن هذا المثل بحديث رواه الإمام أحمد في "مسنده"،
                    قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
                    (القلوب أربعة:
                    قلب أجرد فيه مثل السراج يُزْهِر،
                    وقلب أغلف مربوط على غلافه،
                    وقلب منكوس، وقلب مصفح،
                    فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره.
                    وأما القلب الأغلف فقلب الكافر.
                    وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر.
                    وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق،
                    ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب،
                    ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم،
                    فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه).

                    قال ابن كثير: إسناده جيد.




                    تعليق


                    • #25
                      المثل التاسع والعشرون


                      29- وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً
                      حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ
                      وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ
                      (النور-الآية39)

                      التفســـــير
                      من عادة القرآن الكريم في بلاغه أن يردف ذكر البشارة بالنذارة،
                      والرحمة بالعذاب، والرغبة بالرهبة، والعزيمة بالرخصة،
                      والحديث عن الحق وأهله بالحديث عن الباطل وأتباعه،
                      وما شابه ذلك من الثنائيات المتقابلة.


                      ومن هذا القبيل، ما ذكره سبحانه في سورة النور من صفات
                      للمؤمنين من أنهم رجال قلوبهم معلقة في المساجد،
                      يذكرون الله فيها بالغدو والآصال، وأنهم
                      {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة
                      وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار}

                      (النور:37)،
                      ثم أتبع ذلك بالحديث عن أعمال الكافرين،
                      فوصفها سبحانه بأنها
                      {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا
                      ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب
                      }



                      فهذه الآية تضمنت مثلاً يتعلق بأعمال الكفار؛
                      وبيان أن تلك الأعمال لا قيمة لها عند الله،
                      ولا وزن لها يوم الحساب، بل هي أعمال خاسرة؛
                      لأنها لم تؤسس على تقوى من الله ورضوان،
                      ولم تأت على وفق ما شرع الله.


                      فشبه سبحانه في هذا المثل أعمال الكافرين بالسراب الذي يبدو
                      للظمآن من بعيد في الصحراء الجرداء القاحلة، حيث يحسب
                      الظمآن ذلك الشراب ماء، فيلهث إليه مسرعاً؛ أملاً في الوصول إليه،
                      لينال منه بغيته، ويطفئ به ظمأ جوفه، بيد أنه لا يلبث أن يتحقق بعد
                      ذلك الجري الحثيث، واللهاث الشديد، أن ما ظنه ماء لم يكن في
                      الحقيقة سوى سراب، لا يروي جوفاً، ولا يطفئ ظمأ،
                      فخاب ظنه، وضاع سعيه، وأخذته الحسرة من كل جانب.



                      وهكذا أعمال الكفار، يحسب أصحابها أنها نافعة لهم،
                      مغنية عنهم شيئاً، حتى إذا كان يوم الجزاء والحساب خانتهم
                      تلك الأعمال، وهم أحوج ما يكونون إليها؛
                      لأنها في الحقيقة أعمال خاسرة بائرة، لا تنفع أصحابها في شيء؛
                      فهي إما أنها فاقدة لعنصر الإخلاص لله،
                      وإما أنها فاقدة لعنصر الصواب،
                      وهما شرطا صحة قبول الأعمال عند الله سبحانه.


                      وهكذا حال كل صاحب باطل، فإنه يخونه باطله أحوج ما يكون إليه،
                      فإن الباطل لا حقيقة له، وهو كاسمه باطل، لا يعني شيئاً،
                      ولا يساوي شيئاً، ولا يغني من الحق شيئاً.
                      وهذا التمثيل في الآية شبيه بقوله تعالى:
                      {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}
                      (الفرقان:23).



                      وقد جاء في "الصحيحين" في حديث طويل، وفيه:
                      (...إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن: تتبع كل أمة ما كانت تعبد،
                      فلا يبقى من كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون
                      في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله بر أو فاجر وغبرات
                      أهل الكتاب، فيدعى اليهود، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا
                      نعبد عزيراً بن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا
                      ولد، فماذا تبغون؟ فقالوا؟ عطشنا ربنا فاسقنا، فيشار، ألا تردون،
                      فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون
                      في النار. ثم يدعى النصارى، فيقال لهم: من كنتم تعبدون؟ قالوا:
                      كنا نعبد المسيح بن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة
                      ولا ولد، فيقال لهم: ماذا تبغون، فكذلك مثل الأول...)
                      الحديث.





                      تعليق


                      • #26
                        المثل الثلاثون


                        30-
                        أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ
                        مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ
                        لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ
                        (النور-آية40)

                        التفســير
                        يشبه سبحانه أعمال الكفار بحال من وُجد في بحر عميق لا ساحل له،
                        فهو في وسط ظلمات ثلاث:
                        ظلمة البحر العميق من تحته،
                        وظلمة الأمواج العاتية من حوله،
                        وظلمة السحاب المنذر بالمطر من فوقه،
                        بحيث إنه لا يستطيع أن يرى يده، وهي أقرب شيء من ناظريه.



                        والبحر أخوف ما يكون إذا توالت أمواجه،
                        فإذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من فوقه زاد الخوف شدة،
                        لأنها تستر النجوم التي يهتدي بها من في البحر،
                        ثم إذا أمطرت تلك السحاب وهبت الريح المعتادة في الغالب
                        عند نزول المطر تكاثفت الهموم وترادفت الغموم.
                        فهو يعيش في ظلام دامس، تنعدم فيه الرؤية،
                        ويعاني من الخوف والمرارة والألم ما لا يُطاق.



                        وهذا حال أهل الكفر والضلال،
                        فهم يعيشون وسط ظلمات ثلاث؛
                        ظلمة الكفر،
                        وظلمة الجهل،
                        وظلمة الضلال،
                        فهم كافرون بخالقهم ورازقهم، لا يعترفون له بعبودية،
                        وهم جاحدون بأنعم الله عليهم، لا يقرون له بفضل ولا نعمة،
                        وهم ضالون عن سواء السبيل، لا يعرفون إلى الحق طريقاً،
                        ولا يهتدون إلى الخير سبيلاً، وهم تائهون في هذه الحياة،
                        لا يدرون أين يسيرون، ولا يعلمون إلى أي اتجاه يتجهون.



                        على أنه ليس هناك ما يمنع من أن يكون هذان المثلان
                        - فى الآيتين 39،40- صفتين لموصوف واحد،
                        فهما ينطبقان على كل كافر؛
                        أو أن يكون كل مثل مضروباً لبيان حال طائفة من الكفار؛
                        فيكون المثل الأول مضروباً للمبتدعين من أئمة الضلال والداعين
                        إلى كفرهم، الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات،
                        وليسوا في حقيقة الأمر على شيء.
                        والمثل الثاني مضروباً للأتباع والمقلدين على غير هدى وبصيرة.
                        وهذا ما ذهب إليه ابن كثير في توجيه هذين المثلين.



                        أو أن يكون المثل الأول مضروباً لبيان حال الذين عملوا على غير
                        علم ولا بصيرة، بل على جهل وعماية وحسن ظن بالأسلاف،
                        فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وهم ليسوا كذلك.
                        وأصحاب المثل الثاني، هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى،
                        وآثروا الباطل على الحق، وعموا عنه بعد إذ أبصروه،
                        وجحدوه بعد أن عرفوه. وهذا ما ذهب إليه ابن القيم.



                        وهكذا يضرب لنا سبحانه مثلين لبيان حال المعرضين
                        عن نور الحق، وهدي الإيمان، الذين يحسبون أنهم على شيء،
                        وهم في الحقيقة ليسوا على شيء، فأعمالهم لا قيمة لها في
                        ميزان الحق، كما وصفهم سبحانه وتعالى بقوله:
                        {الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا
                        وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}

                        (الكهف:104).

                        تعليق


                        • #27



                          الأمثال الصريحة فى سورة العنكبوت






                          31- {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ
                          اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
                          [العنكبوت الآية: 41].




                          المثل الواحد والثلاثون



                          31- {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ
                          اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
                          [العنكبوت الآية: 41].

                          التفســير
                          المتأمل في الأمثال القرآنية يلحظ دقة القرآن الكريم في
                          صياغة ألفاظها؛ ليكون وقعها في النفوس مؤثراً وفاعلاً.
                          فهي لا تأتي بالغريب العجيب، بل تتخير الصورة من المحسوسات،
                          وتعرضها بأوصافها وخصائصها، ثم تصوغها في الألفاظ؛ لتكون
                          شاهداً واضحاً على ما يراد إيصاله من أفكار وتوجيهات،
                          فتأتي الصورة صادقة غاية الصدق، ومعبرة أدق التعبير.

                          ومن الأمثال القرآنية التي توضح هذا المنحى القرآني الفريد
                          ما جاء في قوله تعالى:
                          {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت
                          اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون}

                          (العنكبوت:41).



                          يبين هذا المثل أن (الولاية) لأي شيء من دون الله سبحانه،
                          هي ولاية واهية، وتبعية هشة، لا تضر ولا تنفع، وأن هؤلاء
                          الأولياء من دون الله هم أشبه بالعنكبوت في الضعف، وولايتهم مثل
                          بيت العنكبوت في الهشاشة والضعف، القابل للتمزيق والتبديد عند
                          أدنى ملامسة؛ ذلك أن بيت العنكبوت عبارة عن نسيج من خيوط
                          دقيقة، شفافة واهية، لا يكاد اللمس يقاربها، أو الريح تهب عليها إلا
                          وتتمزق، وتذهب أدراج الرياح، فلا تحمي العنكبوت،
                          ولا ترد عنه غائلة العوارض.


                          وكما هي حال بيت العنكبوت وهناً وضعفاً،
                          كذلك هي حال القوى التي يلجأ إليها الناس طلباً للدعم والمساندة،
                          والتي يجعلونها عوناً لهم لتمدهم بأسباب القوة.
                          ولو علم هؤلاء الذين يلجؤون إلى تلك القوى الهشة،
                          أن القوة التي يستمدونها منها هي عرضة للزوال في كل حين،
                          عندما يأتيها أمر الله، لما طلبوا العون إلا من الله، ولما لجؤوا إلا
                          إليه سبحانه، ومن ثم لن يعبدوا إلا إياه، الذي هو ولي الأمر والتدبير.


                          فهذا المثل القرآني يضربه سبحانه لبيان تفاهة وهشاشة الآلهة
                          المُتخذة من دونه، سواء أكانت هذه الآلهة غيبية أم مشهودة،
                          وسواء أكانت حسية أم معنوية، وسواء أكانت أرضية أم سماوية،
                          مبيناً أنها مهما علت واستطالت فهي آلهة موهومة لا تضر ولا تنفع،
                          ولا تملك ولا تدفع. إنها أشبه بضعفها وهزالها ببيت العنكبوت،
                          ذلك البيت الذي لا يكاد يستمسك بنفسه، وهو معرض للهلاك
                          والزوال لأدنى عارض طبيعي أو بشري.



                          هؤلاء الذين تخدعهم قوة الحكم والسلطان،
                          يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض،
                          فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم، ويخشونها ويفزعون منها،
                          ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها، أو يضمنوا لأنفسهم حماها!

                          وتخدعهم قوة المال،
                          يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة.
                          ويتقدمون إليها في رغب وفي رهب؛
                          ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها،
                          ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون!


                          وتخدعهم قوة العلم،
                          يحسبونها أصل القوة وأصل المال،
                          وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول،
                          ويتقدمون إليها خاشعين، كأنهم عباد في المحاريب!

                          وتخدعهم هذه القوى الظاهرة،
                          تخدعهم في أيدي الأفراد، وفي أيدي الجماعات،
                          وفي أيدي الدول، فيدورون حولها، ويتهافتون عليها،
                          كما يدور الفراش على المصباح، وكما يتهافت الفراش على النار!
                          وينسون القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة،
                          وتملكها، وتمنحها، وتوجهها، وتسخرها كما تريد، حيثما تريد.


                          وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى سواء كانت في أيدي الأفراد،
                          أو الجماعات، أو الدول، كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت.
                          حشرة ضعيفة رخوة واهنة، لا حماية لها من تكوينها الرخو،
                          ولا وقاية لها من بيتها الواهن. وليس هنالك إلا حماية الله،
                          وإلا حماه، وإلا ركنه القوي الركين.



                          هذه الحقيقة الضخمة هي التي عني القرآن بتقريرها في نفوس الفئة
                          المؤمنة، فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها،
                          وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض، ودكت بها المعاقل
                          والحصون...
                          قوة الله وحدها هي القوة. وولاية الله وحدها هي الولاية.
                          وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل؛ مهما علا واستطال،
                          ومهما تجبر وطغى، ومهما ملك من وسائل البطش
                          والطغيان والتنكيل.
                          إنها العنكبوت: وما تملك من القوى،
                          ليست سوى خيوط العنكبوت".


                          وهذا المثل تفسير وتبيان لقوله تعالى:
                          {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا *
                          كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا}

                          (مريم:81-82)،
                          وقوله سبحانه:
                          {واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون *
                          لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون}

                          (يس:74-75)،
                          وقوله عز وجل:
                          {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون
                          الله من شيء لما جاء أمر ربك}

                          (هود:101).



                          قال ابن القيم:
                          "فهذه أربعة مواضع في القرآن،
                          تدل على أن من اتخذ من دون الله ولياً، يتعزز به،
                          ويتكثر به، ويستنصر به، لم يحصل له به إلا ضد مقصوده.
                          وفي القرآن أكثر من ذلك. وهذا من أحسن الأمثال، وأدلها على
                          بطلان الشرك، وخسارة صاحبه، وحصوله على ضد مقصوده".


                          فجدير بالمؤمن الحق أن يعي هذه الحقيقة، التي ترد القوة لله جميعاً،
                          ويعمل بهديها، ويعلم أن البشرية بأسرها، واختلاف قواها سوف
                          تبقي تتخبط بمشاكلها ومآسيها، وسوف تزداد أحوالها سوءاً،
                          كلما بعدت عن سنن الله، حتى تصل في النهاية إلى ما ينذر
                          الناس بالعذاب، من غير تفريق بين من يدَّعون القوة،
                          وبين من يسيطر عليهم الضعف.



                          وحقيقة أخرى يؤكدها هذا المثل القرآني، وهي أن
                          اللجوء إلى قوى بشرية أو غير بشرية، وطلب العون منها،
                          إنما مرده إلى جهل الإنسان بالله، وظلمه لنفسه،
                          وقد قال تعالى:
                          {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته
                          يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه}

                          (الزمر:67)،
                          وقال سبحانه في وصف الإنسان:
                          {إنه كان ظلوما جهولا} (الأحزاب:72).

                          تعليق


                          • #28



                            الأمثال الصريحة فى سورة الروم






                            32- ضَرَبَ لَكُم مَّثَلا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ
                            أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء
                            تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
                            الروم-الآية:28




                            المثل الثانى والثلاثون


                            32- ضَرَبَ لَكُم مَّثَلا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ
                            أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء
                            تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
                            الروم-الآية:28

                            التفســـير
                            هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به ، العابدين معه غيره ،
                            الجاعلين له شركاء وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من
                            الأصنام والأنداد عبيد له ، ملك له ، كما كانوا في تلبيتهم يقولون :
                            لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك .
                            فقال تعالى :
                            ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم ) أي : تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم ،
                            ( هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه
                            سواء )
                            أي : لا يرتضي أحد منكم أن يكون عبده شريكا له في ماله ،
                            فهو وهو فيه على السواء ( تخافونهم كخيفتكم أنفسكم )
                            أي : تخافون أن يقاسموكم الأموال .



                            قال أبو مجلز : إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك ،
                            وليس له ذاك ، كذلك الله لا شريك له .
                            والمعنى : أن أحدكم يأنف من ذلك ، فكيف تجعلون
                            لله الأنداد من خلقه .
                            وهذا كقوله تعالى :
                            ( ويجعلون لله ما يكرهون ) [ النحل : 62 ]
                            أي : من البنات ، حيث جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ،
                            وجعلوها بنات الله ، وقد كان أحدهم إذا بشر بالأنثى ظل وجهه
                            مسودا وهو كظيم ، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ، أيمسكه
                            على هون أم يدسه في التراب ، فهم يأنفون من البنات .
                            وجعلوا الملائكة بنات الله ، فنسبوا إليه ما لا يرتضونه لأنفسهم ،
                            فهذا أغلظ الكفر .
                            وهكذا في هذا المقام جعلوا له شركاء من عبيده وخلقه ،
                            وأحدهم يأبى غاية الإباء ويأنف غاية الأنفة من ذلك ،
                            أن يكون عبده شريكه في ماله ، يساويه فيه .
                            ولو شاء لقاسمه عليه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .



                            قال الطبراني :
                            عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال :
                            كان يلبي أهل الشرك : لبيك اللهم [ لبيك ] ، لبيك لا شريك لك ،
                            إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك .
                            فأنزل الله : ( هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في
                            ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ) .

                            ولما كان التنبيه بهذا المثل على براءته تعالى ونزاهته
                            بطريق الأولى والأحرى ،
                            قال : ( كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ) .


                            وفى التفسير الميسر
                            ضرب الله مثلا لكم -أيها المشركون -من أنفسكم:
                            هل لكم من عبيدكم وإمائكم مَن يشارككم في رزقكم،
                            وترون أنكم وإياهم متساوون فيه، تخافونهم كما تخافون الأحرار
                            الشركاء في مقاسمة أموالكم؟ إنكم لن ترضوا بذلك، فكيف ترضون
                            بذلك في جنب الله بأن تجعلوا له شريكًا من خلقه؟ وبمثل هذا البيان
                            نبيِّن البراهين والحجج لأصحاب العقول السليمة الذين ينتفعون بها.



                            ويقول الدكتور محمد راتب النابلسى

                            ﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ (28) ﴾
                            من واقع حياتكم، من تجارتكم، من حياتكم الاجتماعيَّة،
                            تاجر عنده محل تجاري ضخم وله قيمة عالية جداً،
                            في أروج سوق في المدينة، ومساحته كبيرة،
                            وعند هذا التاجر موظَّف صغير يقوم بخدمات عاديَّة
                            كأن يجلب القهوة والشاي مثلاً،
                            قال:
                            ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ
                            أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ (28)﴾
                            فهذا الموظَّف الذي في هذا المحل الكبير والذي له أجرٌ يسير،
                            وعملٌ محدود، هذا الإنسان الصغير هل بإمكانه أن يتصرف
                            بملكية هذا المحل ؟ هل بإمكانه أن يغيِّر نوع البضاعة ؟
                            هل بإمكانه أن يعقد صفقة ؟ هل بإمكانه أن يجلس معك على
                            الحساب آخر السنة ؟ ويقول: أين نصيبي ؟ كم ربحت ؟
                            هل بإمكانه أن يفعل هذا ؟
                            هو ليس له شيء في هذا المحل لأنه موظَّف محدود



                            ربنا عزَّ وجل يقول:
                            ﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ
                            فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ(28)﴾
                            طبعاً الشريك يخاف شريكه، ويحسب له حساباً، له حقٌّ عنده،
                            له نصف الأرباح، يسأله عن الحسابات، يسأله عن قيمة الأرباح،
                            الشريك يحاسِب، الشريك له الحق أن يَطَّلع،
                            لكن هل تقبل أنت من عامل في محلِّك التجاري أن يعاملك كشريك ؟
                            ماذا ربحت اليوم ؟ أين الحسابات ؟ أين أنت ذاهب ؟
                            هل تقبل أن يقف هذا الموقف صانعٌ في محلِّك التجاري ؟!!



                            هذا الموظَّف الصغير لم تخلقه أنت، ومع ذلك لا ترضى أن يسألك،
                            ولا ترضى أن يشاطرك الأرباح، أنت لم تخلقه،
                            فكيف بالله العظيم الذي خلق هذا المخلوق، هو خلقه، هو أوجده،
                            وهذا المخلوق يدَّعي أنه شريكٌ لله عزَّ وجل، يدَّعي أنه يفعل،
                            ويتصرف، وينفع، ويضر، والأمر بيده،
                            إذاً كما أنك كإنسان لا ترضى لموظَّفٍ صغيرٍ عندك في محلك
                            الكبير أن يسائلك ويتدخل في أمورك وتجارتك،
                            فكيف ترضى أن يكون مخلوقٌ لله عزَّ وجل يدَّعي أنه شريكٌ لله ؛
                            في تصرفاته، وفي نفعه، وفي ضرِّه، وفي فعله، وفي تركه ؟








                            تعليق


                            • #29



                              الأمثال الصريحة فى سورة الزمر





                              33- ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَّجُلا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ
                              وَرَجُلا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا
                              الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ
                              الزمر-الآية:29



                              المثل الثالث والثلاثون


                              33- ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَّجُلا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ
                              وَرَجُلا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا
                              الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ
                              الزمر-الآية:29

                              التفســـير
                              ضرب الأمثال للناس أسلوب قرآني اعتمده القرآن لتقريب
                              الحقائق للناس، ليفرقوا بين ما هو حق فيتبعوه، وما هو باطل
                              فيجتنبوه، وليميزوا بين ما هو خير فيتمسكوا به، وما هو شر
                              فيبتعدوا عنه.
                              فأنت تجد في القرآن أمثال أهل الخير وأهل الشر،
                              وأمثال أهل الحق وأهل الباطل، وأمثال أهل التوحيد وأهل الشرك،
                              قال تعالى:
                              { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون}
                              (الزمر:27).



                              ومن الأمثال القرآنية التي ضربها الله للناس
                              مثالاً لأهل التوحيد وأهل الشرك، قوله تعالى:
                              {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون
                              ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا}

                              (الزمر:29)،
                              قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد:
                              هذه الآية ضُربت مثلاً للمشرك والمخلص.

                              و(التشاكس) في اللغة: شدة الاختلاف والتنازع؛
                              يقال: الليل والنهار متشاكسان، أي: أنهما متضادان ومختلفان،
                              إذا جاء أحدهما ذهب الآخر.
                              و{رجلا سلما} أي: سالماً لرجل خالصاً، لا يملكه أحد غيره.



                              وقد جاء هذا المثل القرآني في سياق الحديث
                              عمن شرح الله صدره للإسلام، فعرف طريق الحق،
                              فآمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم
                              نبياً ورسولاً، ومن ضلَّ عن طريق الهداية فقسا قلبه،
                              فكان في ضلال مبين، قال تعالى:
                              {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
                              فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين}

                              (الزمر:22).

                              فبعد أن بالغ سبحانه في تقرير وعيد الكفار، أتبع ذلك بذكر مثل
                              يدل على فساد مذهبهم، وقبح طريقتهم، مبيناً حال العبد الموحد
                              الذي يعبد الله وحده، ولا يشرك معه أحداً من خلقه، وحال العبد
                              المشرك الذي يعبد شركاء عدة، لا يعرف كيف يرضيهم جميعاً.


                              ووجه التمثيل أن سبحانه شبه حال المشرك الذي يعبد آلهة متعددة،
                              بحال عبد له أكثر من سيد يخدمه ويطيعه، فكل واحد منهم يأمره
                              بما لا يأمره به الآخر، فبعضهم يقول له: افعل،
                              وبعضهم يقول له: لا تفعل؛ وبعضهم يقول له: أقبل،
                              وبعضهم يقول له: لا تُقبل...فهو حائر في أمرهم،
                              لا يدري أيهم يرضي، فإن أرضى هذا أغضب ذاك،
                              فهو لأجل هذه الحال يعيش في عذاب دائم، وتعب مستمر.



                              أما مثل حال المؤمن الموحد فقد شبهه سبحانه بحال العبد
                              الذي يعمل تحت إمرة سيد واحد، فلا أمر لأحد عليه إلا أمر
                              ذلك السيد، ولا نهى لأحد عليه إلا نهي ذلك السيد،
                              فهو مطيع له على كل حال، وهو ساع لكسب وده ونيل
                              رضاه من غير ملال. ثم هو غير مشتت الهوى، ولا مبعثر القوى؛
                              لأن وجهته واحدة غير متعددة، ومقصوده واحد غير متناقض.


                              والمراد من هذا التمثيل بيان حال من يعبد آلهة متعددة،
                              فإن أولئك الآلهة تكون متنازعة متغالبة، كما قال تعالى:
                              {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء:22)،
                              وقال سبحانه: {وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق
                              ولعلا بعضهم على بعض}
                              (المؤمنون:91)،
                              فيبقى ذلك المشرك متحيراً ضالاً، لا يدري أي هؤلاء الآلهة يعبد،
                              يدعو هذا ثم يدعو ذاك، لا يستقر له قرار، ولا يطمئن قلبه في
                              موضع، فهو حائر مشتت القلب والذهن؛
                              بخلاف الموحد فهو في راحة تامة وطمأنينة كاملة. وهكذا سُنَّة
                              الحياة جارية على أن تعدد الرؤساء يفسد الأمر، ويشتت السعي.


                              ولا شك فإن هذين العبدين غير مستويين في المنـزلة وغير مستويين
                              في الخدمة، ولا يمكن لعاقل أن يصرح باستوائهما؛ لأن أحدهما في
                              منـزلة محمودة، والآخر في منـزلة مذمومة غير محسودة؛
                              وذلك أن العبد الذي يخدم عدة شركاء، يريد كل واحد منهم أن
                              يستخدمه لحسابه الخاص قدر المستطاع، ولو كان ذلك على حساب
                              تقصيره في خدمة الآخرين، وبالتالي فإن المهمة على هذا العبد
                              تكون مضاعفة، وهو مع هذا لا ينال من الرضا شيئاً يذكر، بل
                              الغاضب عليه أكثر من الراضي، والذامِّ له أكثر من الشاكر.


                              ثم إن من كانت هذه حاله لا يمكن أن تُستجاب مطالبه إلا بشق
                              الأنفس، ولا يمكن أن تُقضى حاجاته إلا بجهد جهيد؛
                              لأن كل شريك من الشركاء يتهرب من تقديم العون له،
                              ويحيله على غيره من الشركاء.


                              أما الأمر في حق من يخدم سيداً واحداً فهو مختلف تماماً،
                              فإن جهده محدود، وعمله واضح، والعادة من سيده أن يستجيب
                              لحاجاته، ويُقدم له من العون قدر ما يستحق،
                              فكانت منـزلته أحمد، وخدمته أقصد.



                              قال الرازي:
                              "وهذا مثل ضرب في غاية الحسن في تقبيح الشرك
                              وتحسين التوحيد"؛ إذ المقصود من ضرب هذا المثل إقامة
                              الحجة على المشركين، وتعنيفهم لأجل مواقفهم الرافضة
                              للاعتراف بالواحد الأحد، وكشف سوء حالتهم في الإشراك.


                              وهذا المثل كما أن المراد منه تمثيل حال المؤمن الموحد
                              وحال الكافر المشرك، فهو كذلك يصلح مثلاً لكل متبع للحق،
                              ولكل متبع للباطل؛
                              فإن الحق هو كل ما وافق الواقع، والباطل هو كل ما خالفه،
                              فمتبع الحق لا يعترضه ما يشوش عليه باله، ولا ما يثقل عليه
                              أعماله، ومتبع الباطل يتعثر به باطله في مزالق الخطى،
                              ويتخبط في أعماله بين تناقض وخطأ.


                              وحاصل هذا المثل القرآني:
                              أن من وحد عبوديته لله سبحانه، وأخلص له في عبادته،
                              واتبع الحق الذي أمر به، كان في الدنيا سعيداً رضياً،
                              وفي الآخرة فائزاً مرضياً؛
                              أما من أشرك مع الله آلهة أخرى، فقد ضل سواء السبيل،
                              وعاش دنياه حائراً غير آمن،
                              فهو خاسر للدنيا قبل خسران الآخرة.




                              تعليق


                              • #30



                                الأمثال الصريحة فى سورة محمد





                                34- وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ
                                وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ
                                نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ
                                محمد-الآية:20



                                المثل الرابع والثلاثون



                                34- وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ
                                وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ
                                نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ
                                محمد-الآية:20

                                التفســـير
                                قوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ .
                                أي: يقول المؤمنون: هلا نزّلت سورة تشرع القتال، وتدعونا إلى
                                القتال وتفرض علينا القتال لنجاهد في سبيل الله، وننصر الإسلام
                                والمسلمين، وندافع عن المستضعفين من النساء والولدان
                                الذين لا يستطيعون حيلة؟
                                هؤلاء المؤمنون المصلحون الصادقون يتمنون على الله، ويقولون:
                                يا ربنا! هلا أنزلت علينا سورة فيها شرعية القتال والجهاد
                                لنقاتل أعداءنا وأعداء الإسلام؟



                                يقول ربنا:
                                فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ
                                فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ .
                                أي: فلما نزلت السورة وكانت سورة محكمة غير منسوخة،
                                ونزل فيها القتال فرضاً لازماً واجباً على المسلمين،
                                إذا بالذين في قلوبهم مرض، أي: المنافقون،
                                فإذا قيل: فلان في قلبه مرض أي: فيه ضغن وحقد على الإسلام،
                                وفيه نفاق بالتظاهر بالإسلام وهو كاذب غير صادق فيما يتظاهر به.



                                فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ نزلت السورة التي يطلبها
                                هؤلاء المؤمنون، وكانت محكمة مسبوكة الأطراف، مشروعة
                                الأحكام، ومن الأحكام في الدرجة الأولى شرعية القتال والجهاد،
                                إذا كان ذلك:
                                رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: رأيت المنافقين
                                ينظرون إليك نظر المرض والحقد والجبن، ونظر الخوف من القتال
                                نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ وكأن غشية الموت أخذت تستولي
                                عليه فتأخذه سكرات الموت وتستولي على نفسه، ويفقد الصبر،
                                وكأنه ينظر نظر المحتضر الشاخص بصره لا يرى ما أمامه،
                                وإنما هو تائه مغشي عليه:

                                وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [الأعراف:198].

                                قوله: فَأَوْلَى لَهُمْ أي: قرب الهلاك منهم،
                                وهي كلمة تهديد ووعيد تُقال في مثل هذه المناسبات
                                لمن يكفر بالله، ومن ينافق في دين الله.




                                ومعنى الآية:
                                أنه تمنى المؤمنون على الله أن ينزل سورة تُشرّع القتال والحرب؛
                                ليكونوا جنداً متراصين في حرب أعداء الله، وفي حرب الكافرين
                                المنافقين، ولكن عندما تنزل السورة المطلوبة عند المؤمنين،
                                ويذكر فيها القتال، إذا بمرضى القلوب من المنافقين تأخذهم غشية
                                الموت، وتأخذهم نظرات الحقد والجبن والرعديدة من القتال،
                                فهم لا يريدون قتالاً، لأنهم جبناء ومنافقون، لا يؤمنون بقتال في
                                سبيل الله، ولا لإعلاء كلمة الله؛ ولذلك ينكشفون عندما تنزل مثل
                                هذه الأوامر في الدعوة إلى الجهاد والقتال.


                                وقد مثّل الله بهم تمثيلاً؛ لأنهم إذا فرض القتال تجدهم
                                لا يكادون يبصرون، ولا يكادون يعقلون جبناً ونفاقاً
                                وعداوة للإسلام ورسول الله والمسلمين.



                                وقد قال الإمام قتادة :
                                كل آية ذُكر فيها القتال فهي محكمة،
                                فليس في آيات القتال آية منسوخة ألبتة.

                                وكذلك قالوا: ما من آية نزلت وذُكر فيها الجهاد إلا وكانت كاشفة
                                فاضحة لأعداء الله المنافقين؛ لأنهم يريدون أن يؤمنوا بما يكون
                                عليهم هيناً سهلاً، لا كلفة فيه ولا نفقة،
                                فضلاً عن بذل حياة وعمر وموت في سبيل الله،
                                فهم لا يؤمنون بذلك، فكيف يعملونه؟ وكيف يقومون به؟



                                وفى تفسير ابن كثير
                                يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين أنهم تمنوا شرعية الجهاد ،
                                فلما فرضه الله - عز وجل - وأمر به نكل عنه كثير من الناس ،
                                كقوله تعالى :
                                ( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة
                                فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو
                                أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل
                                قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا )

                                [ النساء : 77 ] .


                                وقال هاهنا : ( ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة )
                                أي : مشتملة على حكم القتال ;
                                ولهذا قال : ( فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين
                                في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت )

                                أي : من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء .





                                تعليق

                                مواضيع تهمك

                                تقليص

                                المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: Reem2Rabeh الوقت: 04-23-2025 الساعة 04:27 PM
                                المنتدى: ضبط وتوكيد الجودة نشرت بواسطة: HeaD Master الوقت: 04-15-2025 الساعة 09:30 AM
                                المنتدى: التصنيع والانتاج نشرت بواسطة: HeaD Master الوقت: 04-11-2025 الساعة 01:08 PM
                                المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: نوال الخطيب الوقت: 03-19-2025 الساعة 03:07 AM
                                المنتدى: الكمبيوتر والإنترنت نشرت بواسطة: عوض السوداني الوقت: 03-18-2025 الساعة 07:22 AM
                                يعمل...
                                X