إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الروائى الانجليزى تشارلز ديكنز Charles Dickens

تقليص
هذا الموضوع مغلق.
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    وعدته بأن أحضر له المبرد وما أستطيع إحضاره من فتات الخبز ,
    وتمنيت له ليلة سعيدة . عرج نحو جدار الكنيسة المنخفض وخطا فوقه ,
    ثم التفت لينظر إلي . حين رأيته ينظر إلى ,
    توجهت صوب المنزل وانطلقت بأقصى سرعتي



    بيب يتلقى الاوامر

    الفصل الثاني
    أصبحت لصا


    شقيقتي السيدة جو غارجري تكبرني بعشرين عاماً ,
    وهي طويلة القامة , نحيلة الجسم , بسيطة المحيّا .
    وقد كونت لنفسها مقاماً رفيعاً بين الجيران لأنها تولت
    تنشئتي على يديها . وفيما كنت أرغب باكتشاف مدلول هذا التعبير ,
    علماً بأن لديها يداً قاسية ثقيلة تلقي بها عادة عليّ وعلى زوجها ,
    فقد افترضت أنني نشأت مع جو غارجري على اليد .
    كان جو رجلاً لطيفاً . شعره بني فاتح وعيناه زرقاوان .
    كان رجلاً ليناً , طلق المحيّا , بسيطاً , وقريباً إلى القلب .
    حين أسرعت إلي البيت عائداً من باحة الكنيسة ,
    كان دكان جو المحاذي لبيتنا مقفلاً . وكان جو يجلس في المطبخ بمفرده .
    وبما أنني وجو كنا رفيقين في التعاسة , فقد أفضى إلي أن
    شقيقتي خرجت عدة مرات تبحث عني وهي تحمل عصا بيدها .
    وما لبث أن رآها قادمة , حتى نصحني بأن أختبئ خلف الباب ,
    فعملت بنصيحته على الفور .دفعت شقيقتي بالباب على مصراعيه ,
    وحين وجدت ما يعقبه من الخلف , أدركت السبب بسرعة ,
    فانهالت عليّ بالعصا , وانتهت بإلقائي على جو
    الذي كان يسره الإمساك بي في مطلق الأحوال ,
    فوضعني في زاوية المدفأة وأحاطني بساقه الضخمة .



    جو يدافع عن بيب

    قالت السيدة جو وهي تضرب الأرض بساقها :
    " أين كنت أيها القرد الصغير ؟
    أخبرني بسرعة أين كنت لتقلقني وتهلكني بالبحث عنك ؟
    أو اقتلعتك من هذه الزاوية حتى لو كنت خمسين بيب وهو خمسمائة جو غارجري . "
    فقلت وأنا أبكي وأحك جسدي : " ذهبت إلى فناء الكنيسة فقط . "
    فردت قائلة : " فناء الكنيسة ! لولاي لكنت في فناء الكنيسة
    منذ زمن بعيد , ولبقيت هناك إلى الأبد . "
    انكبت تجهز الشاي ؛ فمسحت رغيفاً بالزبدة وقطعت قطعة سميكة
    ما لبثت أن قطعتها ثانية إلى نصفين ,
    نال جو أحدهما وأنا نلت النصف الآخر . رغم أنني كنت جائعاً ,
    لكنني لم أجرؤ على أكل قطعتي إذ يجب أن أحتفظ بشيء احتياطي
    لصاحبي المخيف وحليفه الذي كان بدوره أكثر رعباً منه .
    انتظرت لحظة لم يكن جو ينظر إلي , وخبأت قطعة الخبز المدهونة بالزبدة تحت سروالي .



    بيب يخبئ الخبز للسجين

    اندهش جو حين رأى أن قطعتي اختفت فجأة ,
    وظن أنني ابتلعتها دفعة واحدة . وكذلك اعتقدت شقيقتي
    التي أصرت على إعطائي دواءً مقيتاً اسمه : ( ماء القار ) .
    أما الفكرة الآثمة بسرقة السيدة جو ,
    إضافة إلى إبقاء يدي على قطعة الخبز والزبدة أثناء الجلوس والسير ,
    فقد ذهبت بعقلي . وسررت إذ تدبرت الانسلال وخبأتها في غرفتي .
    عند سماع طلقات نارية , سألت جو عن السبب فقال :
    " لقد فر مجرم آخر . وكان قد فر واحد آخر في الليلة الماضية
    من سفينة الاعتقال , وأطلقوا النار تحذيراً . ويبدو الآن أنهم يطلقوها تحذيراً من آخر . "

    تعليق


    • #32
      رحت أطرح الكثير من الأسئلة عن المجرمين وعن سفن الاعتقال
      حتى ضاقت بي شقيقتي ذراعي , فأخبرتني أن الناس يودعون
      في سفن الاعتقال لأنهم يقتلون ويزورون ويسرقون ,
      وأنهم يبدؤون دائماً بطر الأسئلة .
      وفيما كنت أصعد إلى غرفة نومي في الظلام ,
      بقيت أفكر في كلماتها , والرعب يملأ قلبي . فمن الواضح أنني في الطريق إلى
      سفينة الاعتقال لأنني بدأت بطرح الأسئلة , وكنت أنوي سرقة السيدة جو .
      أمضيت ليلة رهيبة ملئية بالأحلام المخيفة .
      وحالما بزغ الفجر , تسللت إلى غرفة التموين التي كانت تغص بالأغراض والمؤن بسبب موسم الميلاد .
      سرقت بعض الخبز وقطعة من الجبن قاسية , ونحو نصف جرة من اللحم المفروم ,
      وبعض الشراب من قنينة حجرية و وعظمة مكسوة بقليل من اللحم ,
      وفطيرة مستديرة جميلة ظننت أنها لم تكن قيد الاستهلاك السريع ,
      وإنه لن يتم البحث عنها إلا بعد فترة من الزمن .
      وبعد أن تناولت مبرداً كذلك من بين عدة جو , هرعت إلى المستنقعات المكسوة بالضباب.



      الحصول على المزيد من الطعام

      الفصل الثالث
      الرجل الآخر

      كان الصباح بارداً جداً وشديد الرطوبة . وكان الضباب من الكثافة
      في المستنقعات حتى بدا وكأن كل شيء يتراكض نحوي .
      كنت أتقدم نحو النهر , لكن مهما أسرعت فلن أستطع تدفئة قدمي .
      كنت أعرف طريقي نحو الحصن , لكنني وسط ذلك الضباب الكثيف ,
      اكتشفت أنني سرت بعيداً جداً إلى اليمين , وعلي بالتالي العودة إلى خط النهر .
      ولم أكد أعبر حفرة حتى وجدت الرجل جالساً أمامي . كان ظهره مواجهاً إلي ,
      وقد ثنى ذراعيه , فيما رأسه يطأطي بالنوم .
      ظننت أنه سيكون أكثر سروراً لو أتيته بفطوره بهذا الأسلوب غير المنتظر ,
      فتقدمت إليه ومسته على كتفه . فقفز بسرعة , لكنه لم يمن الرجل ذاته ,
      بل كان رجلاً آخر .
      على أن هذا الرجل كان يرتدي ملابس رمادياً كذلك وتحيط بساقيه أغلال حديد ,
      كما كان يعرج ويرتعش , ويشبه الرجل الآخر تماماً , باستثناء الفرق في الوجه .
      شتمني ووجه إلي ضربة أخطأتني . وما لبث أن توارى في الضباب .



      السجين الهارب الثانى ..

      قلت : " إنه الشاب . " وأنا أشعر بقلبي يقفز من مكانه لدى إدراكي ذلك .
      كدت أشعر بألم في كبدي أيضاً لو علمت أين هو .
      وسرعان ما بلغت الحصن حيث كان الرجل الصحيح بانتظاري .
      كان يعاني من برد قارس والجوع الشديد يظهر في عينيه .
      وما كدت أفتح حزمتي وأخرج ما في جيوبي حتى بدأ يأكل بسرعة فظيعة ,
      ثم توقف ليتناول بعض الشراب . كان يرتجف وهو يبتلع اللحم المفروم
      والخبز والجبن والفطيرة , كلها دفعة واحدة , ثم يحدق بنظرات ملؤها الشك ,
      وغالباً ما يتوقف ليدقق السمع .



      السجين الجائع يأكل بشراهه

      ثم قال فجأة : " هل أنت حقاً شيطان صغير مخادع ؟ هل أحضرت معك أحد ؟ "
      " كلا سيدي , كلا . "
      " ولا طلبت من أحد أن يتبعك ؟ "
      " كلا . "
      " حسناً , إني أصدقك . لكن لابد أنك كلب صغير عنيف
      إن استطعت في سنك هذا أن تسهم في مطاردة رجل مسكين مثلي . "
      وفيما جلس يأكل الفطيرة بشراهة واختلاس ,
      قلت له أنني أخشى ألا يترك شيئاً للشاب . فأخبرني بما يشبه
      الضحك الغليظ أن الشاب لا يريد أي طعام . فقلت أنني أعتقد أنه ربما يريد طعاماً ,
      وبأنني رأيته لتوي يرتدي مرتدياً مثله , وتحيط بساقه أغلال الحديد ,
      ثم أشرت إلى حيث التقيت به . فسأل بانفعال إن كانت هناك آثار كدمة على خده الأيسر ,
      وحين أجبته بنعم , أمرني بأن أرشده إليه . وبعد أن أخذ المبرد مني ,
      جلس على العشب الرطب وأخذ يبرد أغلاله كالمجنون .
      وخشية أن أطيل البقاء خارج المنزل , تسللت بعيداً وتركته يعمل بجهد في معالجة أغلاله



      لقد رأيته هناك

      تعليق


      • #33
        الفصل الرابع

        العم بامبلتشوك


        كنت أتوقع أن أجد شرطياً ينتظرني في المطبخ لإلقاء القبض علي .
        لكن لم يكن هناك شرطي , ولم يتم اكتشاف السرقة بعد ...
        كانت السيدة جو منهمكة في تجهيز المنزل لاحتفال النهار .
        إذ ينبغي علينا تحضير عشاء فاخر يتكون من فخذ عجل
        مع الخضار وزوج من الطير المحشي المحمر .
        سبق أن تم تحضير فطيرة محشوة صباح البارحة ,
        ووضعت الحلوى على النار . في غضون ذلك ,
        علقت السيدة جو ستائر بيضاء نظيفة ،
        ورفعت الأغطية ـ التي لم تكن لترفع إلا في هذه المناسبة ـ
        من غرفة الجلوس الصغيرة عبر الممر .
        كانت السيدة جو ربة منزل نظيفة للغاية ,
        لكن طريقتها في النظافة كانت من الغرابة
        حتى استحالت أكثر ارهاقاً من القذارة نفسها .
        كان السيد ووبسيل , الكاهن في الكنيسة ,
        مدعو للعشاء معنا , كذلك السيد هابل , صانع العجلات ,
        والسيدة هابل ؛ والعم بامبلتشوك ,
        ( عم جو , لكن السيدة جو كانت تناديه عمها . )
        وهو تاجر ذرة ميسور الحال في البلدة القريبة ,
        يقود عربته الخفيفة بنفسه , كان موعد الغداء
        في الواحدة والنصف , وعندما رجعت مع جو
        من الكنيسة إلى البيت , وجدنا المائدة جاهزة ,
        والسيدة جو قد ارتدت ملابسها . وطعام الغداء قيد الإعداد ,
        وقد فتح الباب الأمامي لدخول الضيوف .
        كان كل شيء في غاية الروعة والبهاء . وحتى ذلك الوقت ,
        لم تصدر كلمة بشأن السرقة . وها قد حان الوقت
        دون أن يحمل معه ما يخفف عن مشاعر قلقي , ودخل الضيوف .
        قال العم بامبلتشوك , وهو رجل بطيء في متوسط العمر
        يتنفس بصعوبة , فمه كالسمكة وعيناه كئيبتان
        وشعره رملي اللون منتصب في رأسه :
        " أحضرت لك , كهدية للموسم ـ أحضرت لك سيدتي
        زجاجة من نبيذ الكرز , كما أحضرت لك سيدتي زجاجة من نبيذ البورت . "
        في كل يوم عيد ميلاد , كان يتقدم بالكلمات نفسها ,
        ويحمل كلتا الزجاجتين كأثقال للتدريب .
        وفي كل عيد ميلاد , كانت السيدة جو تجيب بنفس ما أجابت الآن :
        " أوه , عمي بامبلتشوك , هذا لطف منك ! "
        وكان في كل عيد ميلاد يجيب مثلما أجاب الآن :
        " هذا لا يتعدى مقدار فضائلك . والآن ,
        هل أنتم جميعاً على ما يرام ؟ وكيف حال سيكسبنوورث ؟ "
        وكان يقصدني بذلك .
        في مثل هذه المناسبات كنا نتناول الطعام في المطبخ ,
        ثم نعود إلى غرفة الجلوس لنتناول المكسرات والبرتقال والتفاح .
        وسط هذه المجموعة الطبية , لابد أنني شعرت بنفسي ,
        وإن لم أسرق غرفة المؤونة , في وضع خاطئ .
        ليس لأنني كنت محشوراً عند زاوية غطاء الطاولة الحادة ,
        حيث تبلغ الطاولة مستوى صدري وكوع بامبلتشوك في عيني ,
        ولا لأنه لم يسمح لي بالحديث ( فأنا لم أكن أرغب بالكلام ) ,
        أو لأن نصيبي من الطعام كان عظام الطير وقطع اللحم الهزيلة .
        كلا , لم أكن أكترث بكل هذه الأمور لو أنهم تركوني وحيداً .
        لكنهم لم يكن ليفعلوا ذلك . بل بدا باعتقادهم أنهم سيفوّتون الفرصة
        لو فشلوا في توجيه الحديث نحوي من حين لآخر , والتركيز علي .
        بدأ ذلك لحظة جلوسنا إلى المائدة .
        إذ تلى السيد ووبسل صلاة قصيرة انتهت بالأمل بأن نكون من الشاكرين .
        هنا ركزت شقيقتي نظرها إلي وقالت بنبرة تأنيب :
        " هل سمعت ذلك ؟ كن شكوراً . "



        احتفال غير مريح بعيد الميلاد

        وقال السيد بامبلتشوك : " على الأخص ,
        كن شكوراً أيها الفتى لمن رباك على يديه . "
        كان موقف جو ونفوذه أضعف عند حضور الضيوف
        منه حين لا يكون هناك أحد . لكنه كان يساعدني دائماً
        ويهدئ من روعي , حين يتسنى له بطريقته الخاصة .
        وكان يفعل ذلك عادة في وقت الغداء حيث يقدم لي المرق إذا توفر .
        وبما أن هناك الكثير من المرق اليوم , فقد سكب في صحني .
        إزاء تلك الملاحظة , نحو نصف باينت .
        قالت السيدة هابل متعاطفة مع شقيقتي :
        " كان مصدر إزعاج لك , سيدتي ؟ "
        فردت شقيقتي قائلة : " ازعاج ؟ ازعاج ؟
        "ثم تطرقت إلى بيان رهيب بجميع العلل التي تسببت بها ,
        وحالات الأرق التي اقترفتها , وجميع الأمكنة المرتفعة ,
        التي سقطت منها , وجميع الأماكن المنخفضة التي سقطت فيها ,
        وكافة الجروح التي سببتها لنفسي , وجميع الأوقات التي
        تمنت فيها أن أكون في قبري , لكنني رفضت بعناد الذهاب إليه .
        قالت شقيقتي : " تناول بعض الشراب يا عمي . "
        رباه ! لقد حل الأمر أخيراً ! فسيجد الشراب خفيفاً ويقول إنه كذلك .
        شعرت بالضياع , أمسكت برجل الطاولة تحت الغطاء
        بكلتا يدي وانتظرت مصيري .
        ذهبت شقيقتي وأحضرت القنينة الحجرية ,
        وعادت بها وصبت له الشراب , دون أن يتناول منه أحد غيره .
        تناول الرجل المسكين كوبه ونظر إليه خلال الضوء ,
        ثم وضعه ثانية , مما زاد في تعاستي . إبّان ذلك ,
        كانت السيدة جو وزوجها السيد جو منهمكين في
        إخلاء المائدة لإحضار الفطيرة والحلوى .
        لم أستطع تحويل نظري عنه . بل بقيت ممسكاً
        برجل الطاولة بإحكام بيدي ورجلي ,
        ورأيت الرجل التعيس يمسك بكوبه ويبتسم ,
        ثم يرجع برأسه للوراء ليشرب الكوب بأكمله .
        في الحال , حلّ بالحاضرين رعب بالغ حين
        قفز الرجل واقفاً واستدار عدة مرات
        وهو يسعل ويشهق على نحو رهيب,ثم اندفع نحو الباب
        وبدا من خلف النافذة وهو يسعل ويكشّر وجهه بشكل شنيع كأنه فقد عقله .



        لقد اختفت الفطيره .. !

        بقيت ممسكاً بإحكام , فيما السيدة جو وجو هرعا إليه .
        لم أدر كيف فعلت ذلك , لكن لم يساورني شك بأنني
        قتلته بشكل أو بآخر . في مثل الحال الرهيب الذي تملكني ,
        فقد ارتحت حين أعادوه , وبعدما جال بنظره على الحاضرين
        وكأنهم لا يوافقونه الرأي,غاص في مقعده
        وهو يلهث بشدة قائلاً ببطء : " القار . "
        لقد ملأت القنينة من إبريق ماء القار .
        وكنت أعلم أن حالته ستسوء تدريجياً .
        فصاحت شقيقتي : " قار ! كيف ؟
        كيف يمكن للقار أن يصل إلى هناك ؟ "
        طلب العم بامبلتشوك بعض المشروب الحاد مع الماء .
        وكان على شقيقتي , التي راحت تفكر بقلق ,
        أن تنهمك بإحضار الشراب والماء الساخن والسكر
        وقشر البرتقال ومزجها معاً . لقد نجوت بجلدي ,
        مؤقتاً على الأقل .فقالت شقيقتي تخاطب ضيوفها
        بألطف لهجة لديها: " لابد أن تتذوقوا , في النهاية ,
        هدية العم بامبلتشوك اللذيذة البهيجة . "
        هل لابد لهم من ذلك ؟ ليتهم لا يفعلون ذلك !
        قالشقيقتي وهي تنهض : " لابد أن تعلموا أنها فطيرة , فطيرة لذيذة . "
        تمتم الحاضرون عبارات المجاملة , وذهبت شقيقتي لإحضارها ,
        فسمعت خطواتها باتجاه غرفة المؤونة .
        ثم رأيت السيد بامبلتشوك يوازن سكينته بيده ,
        فشعرت أنني لن أستطيع التحمل أكثر من ذلك ,
        وأن علي الهرب . فتركت رجل الطاولة وأسرعت للنجاة بنفسي .
        لم أكد أبتعد أكثر من الباب حتى اصطدمت بمجموعة جنود مزودة بالبنادق ,
        وقد أمسك أحدهم أصفاداً فوجهها نحوي وقال :
        " ها أنت هنا , أنظر جيداً , وتعال ! "



        جنود الشرطه يطلبون المساعده

        تعليق


        • #34
          الفصل الخامس
          المطاردة


          تسبب وصول الجنود بقيام الضيوف عن المائدة بارتباك ,
          وحمل السيدة جو العائدة إلى المطبخ خالية اليدين
          حملها على الوقوف والتحديق متسائلة :
          " إلهي ! ما الذي حدث للفطيرة ؟ "
          فقال الرقيب : " عذراً أيها السيدات والسادة ,
          إنني أقوم بمطاردة باسم الملك , وأريد الحداد . "
          وأوضح الرقيب من ثم أن قفل أحد الأصفاد قد تعطل ,
          وحيث أنهم بحاجة إليها على الفور , فقد طلب إلى الحداد التدقيق فيها .
          حين أخبره جو أن الأمر يستغرق نحو ساعتين ,
          طلب إليه الرقيب المباشرة بالعمل فوراً , وأوعز إلى رجاله لمساعدته


          كنت في حال من الخوف الشديد . لكن حين أدركت أن القيود لم تكن لي ,

          وأن وصول الجنود أنسى شقيقتي أمر الفطيرة ,
          استجمعت بعضاً من أفكاري المشتتة .
          سأل السيد ووبسل الرقيب إذا ما كانوا يطاردون أحد المجرمين ,
          فأجابه : " نعم , اثنين . ومعلوم أنهما ما يزالان في المستنقعات ,
          ولن يحاولا الخروج منها قبل الظلام . فهل شاهد أحدكم أي أثر لهما ؟ "
          الجميع , باستثنائي , نفى ذلك بشيء من الثقة . ولم يفكر أحد بي ,
          خلع جو معطفه وصدرته وارتدى وزرته الجلدية ,
          ثم توجه إلى دكانه . أشعل أحد الجنود النار وأخذ الثاني ينفخ بالمنفاخ ,
          فيما تحلق الباقون حول النار التي ما لبثت أن تأججت .
          ثم بدأ جو يعمل بالطرق , ووقفنا جميعاً نراقبه .
          في النهاية أنجز جو المهمة , وتوقف الطرق والرنين .



          جو يقوم باصلاح القيود الحديديه

          وفيما كان جو يرتدي معطفه , اقترح أن يذهب بعضنا مع الجنود
          لمشاهدة نتيجة المطاردة . فقال السيد ووبسل إنه سيذهب لو فعل جو .
          ووافقت السيدة جو , بدافع من الفضول لتعرف ما سيحدث
          وما سينتهي إليه الأمر , وافقت على ذهاب , وسمحت لي بمرافقته .
          لم ينضم إلينا أحد من القرية , فالطقس كان بارداً ينذر بالمطر ,
          والطريق مظلم والليل بدأ يزحف . أشعل الناس المواقد
          في بيوتهم وقبعوا أمامها . هطل البارد علينا عند خروجنا
          من ساحة الكنيسة متجهين نحو المستنقعات , فحملني جو على ظهره .



          مطارده السجينين الهاربين

          اتجه الجنود نحو الحصن القديم , وكنا نسير وراءهم
          على بعد مسافة قصيرة حين توقفنا فجأة .
          إذ حملت إلينا أجنحة الريح والمطر , صيحة طويلة .
          ثم تكرر ذلك . وبدا أن صيحتان أو أكثر تنطلقان معاً .
          وكلما اقتربنا من الصياح , كنا نسمع صوتاً ينادي :
          " جريمة ! " وآخر ينادي : " مجرمون ! فارون ! حراس !
          هذه هي الطريق إلى السجناء الفارّين .
          " بعد ذلك بدا وكأن الصوتان يختنقان في عراك لينطلقا من جديد .
          حين سمع الجنود ذلك , ركضوا كالغزلان , وكذلك فعل جو .
          قال الرقيب لاهثاً وهو يصارع في أسفل حفرة :
          " هنا يوجد الرجلان , استسلما كلاكما ,
          اللعنة عليكما أيها الوحشين ! تقدما كل على حدة . "
          كانت الماء تتناثر والوحل يتطاير والشتائم تنهال والضربات
          تسدّد حين نزل مزيد من الرجال إلى الحفرة لمساعدة الرقيب ,
          فسحبوا المجرمين كل على حدة . كان كلاهما ينزفان
          ويلهثان ويلعنان ويكافحان , ولا غرو فقد عرفتهما مباشرة .



          القبض على السجينين .. !

          قال المجرم صاحبي : " تذكر ! " وهو يمسح الدم
          عن وجهه بأكمامه الممزقة , ويزيل الشعر المنتوف عن أصابعه ,
          " لقد ألقيت القبض عليه وسلمته لكم ! تذكروا ذلك ! "
          فقال السرجنت : " ليس هذا بالأمر الهام .
          لن ينفعك هذا كثيراً يا صاحبي , فأنت مجرم فارّ .
          عليك بالأصفاد . " كان السجين الآخر مصاباً , وقد تمزقت جميع ثيابه .
          وأول ما قال : " انتبه أيها الحارس ! لقد حاول أن يقتلني . "
          فقال المجرم صاحبي بازدراء :
          " حاولت أن أقتله ؟ حاولت ولم أفعل ؟ لقد اعتقلته وها أنا أسلمه .
          هذا ما فعلته . إنني لم أمنعه من الهرب خارج المستنقعات وحسب ,
          بل سحبته إلى هنا ـ سحبته كل هذه المسافة . إنه سيد وقور ,
          لو سمحت , هذا الحقير . والآن فقد استعادت سفينة الاعتقال
          سيدها ثانية بواسطتي . وهل أقتله ؟ فهو لا يستحق أن أقتله
          في حين أستطيع القيام بما هو أسوأ , وأعيده ثانية . "
          كان الرجل الآخر ما يزال يلهث : " لقد حاول ـ لقد حاول أن يقتلني .
          اشهدوا ـ اشهدوا على ذلك . "
          فقال المجرم الآخر للرقيب : " انظر هنا , لقد أفلتّ من
          سفينة الاعتقال وحدي ـ وقمت بهجوم وحققت ذلك .
          كان بإمكاني كذلك الإفلات من هذه المستنقعات الباردة ـ
          أنظر ‘لى قدمي : فلن تجد أثراً للحديد فيها ـ لو لم أكتشف وجوده هنا .
          وهل أدعه يذهب طليقاً ؟ وأتركه يستفيد من لاوسائل التي اكتشفتها ؟
          أأدعه يستغلني ثانية ؟ مرة أخرى ؟ لا , لا , لا .
          لو مت في الأسفل لبقيت ممسكاً به بهذه القبضة ,
          حيث كنت ستجده في قبضتي بالتأكيد . "
          قال الرقيب : " كفى هذا الجدال . أضئ تلك المشاعل . "
          وفيما التفت المجرم صاحبي للمرة الأولى ,
          وقع نظره علي . كنت قد نزلت عن ظهر جو حين وصلنا المكان ,
          ولم نتحرك منذ ذلك الوقت . تطلعت إليه بتوقٍ حين نظر إلي .
          وحركت يدي قليلاً وأومأت برأسي . كنت أنتظر أن ينظر إلي ,
          لعلي أستطيع تأكيد براءتي إليه . رمقني بنظرة لم أفهمها ,
          وقد حصل كل ذلك بلحظة . أضيئت المشاعل ,
          وأعطى الرقيب أوامره للسير . بعد ساعة تقريباً ,
          وصلنا إلى كوخ خشبي , بال قرب مرسى للقوارب .
          كان هناك حارس داخل الكوخ , يضع ما يشبه التقرير ,
          ويدون أمراً في سجل لديه . اقتيد المجرم الذي أدعيه المجرم الآخر ,
          برفقة حارسه إلى متن السفينة أولاً .
          وفجأة التفت المجرم صاحبي للرقيب واعترف لدهشة الجميع ـ
          أنه سرق من بيت الحداد بعض الطعام وفطيرة وبعض المشروب .
          عاد الزورق , وكان حارسه جاهزاً , فتبعناه إلى مكان المرسى
          ورأيناه يصعد إلى القارب الذي كان يجذفه مجموعة من المجرمين أمثاله .
          هتف واحد من الزورق وكأنه يتحدث مع كلاب : " افسحوا الطريق . "
          وكان يعني بذلك بدأ التجذيف . ومن خلال ضوء المشاعل ,
          رأينا الشفينة السوداء على مسافة قصيرة من وحل الشاطئ ,
          وكأنها سفينة نوح .وبدت السفينة لعينيّ الصغيرتين
          وهي محاطة ومقيدة بسلال ضخمة صدئة
          كأنها مقيدة بالحديد كالسجناء . رأينا الزورق يمر بجانبها ,
          ورأيناه يُقتاد إليها ثم يختفي



          لقد سرقت بعض الطعام والبراندى

          تعليق


          • #35
            الفصل السادس

            الآنسة هافيشام


            حين كبرت , عُهد بي إلى جو للتدرب لديه ,
            وحتى ذلك الحين كنت غريباً في دكان الحداد ,
            وعلاوة على ذلك , فكلما احتاج الجيران إلى صبي
            إضافي لتخويف الطيور أو جمع الحصى
            أو القيام بمثل هذه المهام , كان الاختيار من نصيبي على الدوام .
            خلال هذه الفترة , كنت أحضر مدرسة ليلية تديرها
            عمة والد السيد ووبسيل . كان لها أسلوب غريب في التعليم ,
            إذ كان من عادتها أن تذهب للنوم من السادسة حتى السابعة كل مساء ,
            فتترك التلاميذ يجتهدون بمراقبتها وهي تفعل ذلك .
            إضافة إلى هذه المؤسسة التربوية , كان لدى العمة ـ في نفس الغرفة ـ
            دكان عام صغير . لم تكن لديها فكرة عما لديها في الدكان من بضاعة ,
            أو عن أسعار السلع في الدكان , بل هناك سجل ملوث بالزيت ,
            تحتفظ به في أحد الأدراج وتستخدمه كدليل للأسعار ,
            فكانت بيدي , لاتي تربطها قرابة بعيدة بالسيد ووبسيل ؛
            تستعين به لتدبير كافة عمليات الدكان . كانت يتيمة مثلي .
            وكمثل حالي قد أنشئت على اليد .
            وبمعونة بيدي , أكثر من معونة يد عمة والد السيد ووبسيل,
            مررت في كفاح مع الأحرف الأبجدية ,
            ولقيت القلق الشديد من كل حرف . لكنني بدأت في النهاية ,
            بطريقة عشوائية عمياء , أقرأ وأكتب وأحسب على أقل المستويات .



            بيب يعمل مع جو فى ورشه الحداده

            لم يسبق لجو أن ذهب للمدرسة في طفولته . وفي إحدى الأمسيات ,
            فيما كنا جالسين سوياً قرب النار , كتبت له رسالة
            على لوح حجري قدمته له . ورغم أنه لم يستطع أن يقرأ سوى اسمه
            , قال إنني عالم كبير , وأفصح عن إعجابه بما لدي من علم ومعرفة .
            ثم أخبرني عن فترة من تاريخ حياته . فقد كان والده مدمناً على الشراب ,
            وغالباً ما كان يضرب جو ووالدته , وقد هربا منه عدة مرات ,
            وكان عليهما العمل لكسب قوتهما , لكنه كان يعيدهما إليه في كل مرة .
            كان على جو العمل حداداً مكان والده الكسول ,
            وأعال والده إلى أن وافته المنية , وما لبثت والدته أن لحقت بزوجها .
            ثم تعرف جو إلى شقيقتي وطلب يدها للزواج ,
            ورجاها أن تحضرني معها إلى المنزل , قاءلاً
            إن هناك مكاناً يتسع لي في دكانه . وقال جو في ختام روايته :
            " فأنت عترى يا بيب , ها نحن الآن ! فحين تساعدني في التعلم يابيب
            ( وأخبرك سلفاً بأنني بليد للغاية ) , لا ينبغي أن
            تلاحظ السيدة جو ما نقوم به . بل ينبغي أن يتم ذلك ,
            إذا جاز لي القول , في الخفاء . ذلك أن شقيقتك تحب التحكم ,
            ولن تقبل بوجود مثقفين في البيت ,ولن ترضى على الأخص
            أن أصبح مثقفاً , خشية أن أقف في وجهها ."
            كدت أسأله " لماذا " حين قاطعني جو قائلاً :
            " تمهل قليلاً , أعرف ما ستقوله , تريد أن تعرف لماذا لا أقف في وجهها .
            حسناً , إن لشقيقتك عقلاً فذاً , لكنني لست كذلك . إضافة إلى ذلك يا بيب ,
            إنني أرى كثيراً في والدتي المسكينة كامرأة تستبعد وتحطم قلبها الشريف
            دون أن تحصل على قدر من الطمأنينة في حياتها ,
            حتى إنني أخشى أن أخطئ بعدم انتهاج ما تراه المرأة صحيحاً .
            وأفضل كثيراً أن أعاني شخصياً من التضايق بعض الشيء .
            حبذا لو أنني بمفردي أعاني من ذلك , حبذا لو لم يكن هناك إزعاج
            لك يا صديقي , ليتني أستطيع تحمل الأمر كله بنفسي ,
            لكن هذا هو الحال يا بيب . آمل أن تتغاضى عن العيوب . "
            رغم صغر سني , أظن أنني سجلت تقديراً جديداً لجو ابتداءً من تلك الليلة .
            كانت السيدة جو تقوم بالتجول مع العم بامبلتشوك
            أيام التسوق لمساعدته في شراء حلجات المنزل التي تتطلب حكمة المرأة .
            كان ذلك يوم التسوق , وقد خرجت السيدة جو في إحدى هذه الجولات .



            العم بامبلتشوك يقول اخباره

            وها قد وصلا . قالت السيدة جو : " والآن . "
            وهي تخلع أغطيتها بسرعة وشيء من الإثارة ,
            فتلقي بقبعتها إلى الوراء على كتفيها حيث تتدلى بسلاسل .
            " إن لم يكن هذا الفتى , شكوراً هذه الليلة , فلن يكون كذلك أبداً . "
            بدوت شكوراً بأفضل ما يستطيعه فتىً , دون أن يعلم بعد لِم يجب أن يكون كذلك .
            فقالت شقيقتي : " لنأمل فقط ألا يطاله الفساد , لكن لدي مخاوفي . "
            قال السيد بامبلتشوك : " من غير المحتمل أنها ستفسده ,
            سيدتي . فهي تعرف أكثر . "هي ! نظرت إلى جو
            وأنا أحرك شفتي وحاجبي متسائلاً , " هي ؟ "
            فنظر جو إلي وهو يحرك شفتيه وحاجبيه .
            قالت السيدة جو بطريقتها الفظة : " حسناً ,
            بماذا تحدقان ؟ هل المنزل يحترق ؟ "
            فأشار جو بأدب قائلاً : " هناك شخص ما ـ ذكرها . "
            فقالت زوجته : " وهي هي , على ما أعتقد !
            إلا إذا كنت تدعو الآنسة هافيشام هو .
            وأشك أنك ستذهب إلى هذا الحد . "
            قال جو : " الآنسة هافيشام في المدينة ؟ "
            قالت شقيقتي : " وهل يوجد في المدينة آنسة هافيشام؟
            إنها تريد من هذا الفتى أن يذهب ويلعب هناك .
            ولا شك سيذهب . فالأفضل له أن يلعب هناك .
            " وأضافت وهي تهز رأسها لي تشجعني أن أكون خفيفاً ورياضياً :
            " وإلا فسأتدبر أمره . " ... كنت قد سمعت أن الآنسة هافيشام في المدينة
            والجميع على بعد أميال سمعوا أن الآنسة هافيشام في المدينة
            سيدة في غاية الثراء والحزم , تعيش في منزل فخم كئيب وتحيا حياة منفردة .
            فقال جو مندهشاً : " حسناً , أستغرب كيف لها أن تعرف بيب ! "
            صاحت شقيقتي : " أيها الأحمق ! ومن قال إنها تعرفه ؟ "
            أشار جو بأدب ثانية : " هناك من ذكر أنها تريده أن يذهب ويلعب هناك . "
            " ألا يمكنها أن تسأل العم بامبلتشوك إذا كان يعرف فتى ليذهب ويلعب هناك ؟
            ألا يحتمل أن يكون العم بامبلتشوك مستأجراً لديها ,
            وأنه يذهب إلى هناك أحياناً لتسديد إيجاره ؟ وألا يستطيع العم بامبلتشوك ,
            كونه طيباً تجاهنا دائماً ,أن يتكلم عن هذا الفتى
            الذي كنت منذ زمن خادمة مطيعة له؟ "
            فصاح العم بامبلتشوك : ط أحسنت ثانية , أسلوب جيد .
            حسناً عبرت ! جيد حقاً ! والآن يا جوزيف فإنك تعلم بالأمر . "
            فقالت شقيقتي : " كلا يا جوزيف , فأنت لا تعلم أن العم بامبلتشوك ,
            علماً منه أن مستقبل الفتى سيتحقق بذهابه إلى الآنسة هافيشام ,
            قد عرض أن يأخذه إلى المدينة هذه الليلة , وفي عربته الخاصة ,
            وأن يستبقيه لديه هذه الليلة ثم يأخذه إلى
            بيت الآنسة هافيشام في الصباح التالي . "
            بعد أن أوضحت هذا , أمسكت بي فجأة ,
            فوضعت رأسي تحت حنفيه وغسلت رأسي بالصابون ,
            ونشفتني حتى بدوت غير نفسي . ثم ألبستني ثياباً نظيفة
            من أجمد الأنواع , ثم ارتديت أضيق بذلاتي ,
            وعُهد بي إلى السيد بامبلتشوك الذي ألقى علي خطاباً
            كنت أعلم أنه يحترق لإلقائه : " يا بني , كن مستحباً أبداً للأصدقاء ,
            وخاصة الذين أنشؤوك على أيديهم . "
            قلت : " وداعاً يا جو . "
            " ليباركك الله يا بيب , أيها الصديق القديم . "
            لم يسبق أن افترقت عنه من قبل , وماذا بشأن مشاعري
            وماذا بشأن رغوة الصابون , ولم أستطع رؤية نجمة
            من خلال العربة المكشوفة . لكنها راحت تلمع واحدة إثر أخرى ,
            دون أن تلقي ضوءاً على التسائل : لماذا بالله أنا ذاهب
            لألعب عند الآنسة هافيشام , وماذا تراني ألعب ...



            يتبع

            تعليق


            • #36
              الفصل السابع

              زيارات المذلة


              تناولت الفطور مع السيد بامبلتشوك عند الساعة الثامنة
              في الرواق خلف دكانه , وعند العاشرة ,
              توجهنا إلى بيت الآنسة هافيشام ووصلناه بعد ربع ساعة .
              كان منزلاً قرميدياً كئيباً , فيه الكثير من القضبان الحديدية ,
              وقد سُدّت بعض النوافذ , أما النوافذ الباقية ,
              فقد أحاطت القضبان الصدئة بالمنخفض منها .
              وكانت هناك ساحة أمامية مسيجة ,



              الوصول الى بوابه بيت الانسه هافيشام

              فكان علينا الإنتظار بعد قرع الجرس ليأتي من يفتح لنا .
              وفيما كنا ننتظر أمام البوابة , استرقت النظر
              ورأيت أن إلى جانب المنزل مصنع كبير للجعة .
              فُتحت نافذة ونادى أحدهم بصوت واضح يسأل : " ما الاسم ؟ "
              أجاب دليلي : " بامبلتشوك . "
              فقال الصوت : " بالتمام ؟ "
              أُغلقت النافذة ثانية , وجاءت صبية عبر الساحة تحمل مفتاحاً بيدها .
              فقال بامبلتشوك : " هذا هو بيب . "
              رددت الصبية بالقول : " هذا هو بيب , أليس كذلك ؟ "
              كان السيد بامبلتشوك يدخل البوابة عندما اعترضته بالبوابة وقالت :
              " هل تريد أن تقابل الآنسة هافيشام ؟ "
              أجاب بامبلتشوك : " إذا كانت الآنسة هافيشام تريد مقابلتي . "
              قالت الفتاة : " آه , لكنك ترى أنها لا ترغب في ذلك . "
              قالتها بحزم , حتى أن السيد بامبلتشوك لم يتسنى له الاحتجاج .
              لكنه رماني بنظرة حادة - وكأنني اقترفت شيئاً بحقه -
              ثم رحل وهو يقول : " أيها الفتى !
              ليكن مسلكك مفخرة لمن أنشؤوك على أيديهم . "



              استيلا تغلق البوابه ..

              اغلقت الصبية البوابة , وذهبنا عبر الساحة .
              كانت مرصوفة ونظيفة , لكن العشب كان ينمو بين الحجارة .
              أما أبنية مصنع الجعة فقد كانت مشرعة , وجميعها خالية ومهملة .
              رأتني أنظر إلى المصنع , فقالت :
              " بإمكانك أن تشرب جميع أنواع الجعة
              التي تصنع هناك دون أن يصيبك ضرر أيها الفتى . "
              قلت بشيء من الحياء : " أظن باستطاعتي ذلك سيدتي . "
              " يفضل ألا تخمّر الجعة هناك الآن , وإلا فسدت ,
              ألا تعتقد ذلك أيها الفتى ؟ " يبدو الأمر كذلك سيدتي . "
              أضافت تقول : " ليس بمعنى أن يحق لأي إنسان المحاولة .
              فقد توقف كل ذلك , وسيبقى المصنع متوقفاً كما هو الآن ,
              إلى أن ينهار . أما بالنسبة للجعة المركزة ,
              فهناك منها في الأقبية ما يكفي لإغراق المزرعة . "
              " هل هذا هو اسم المنزل سيدتي ؟ "
              " أحد أسمائه أيها الفتى . "
              وهل له أكثر من اسم سيدتي ؟ "
              " اسم آخر . إنه ساتيس , وهو يعني باليونانية أو اللاتينية كافٍ . "
              فقلت : " بيت كافٍ ! اسم غريب سيدتي . "
              أجابت : " أجل , لكنه يعني أكثر مما يبدو .
              يعني أنه متى يتم تركه , فالذي يملكه بلن يحتاج لشيء آخر .
              لابد أنه كان يسهل إرضاؤهم في تلك الأيام على ما أعتقد ,
              لكن لا تتلكأ أيها الفتى . "رغم أنها كانت تدعوني (( فتى )) ,
              مراراً ودون أي اكتراث , فقد كانت في مثل سني تقريباً .
              بدت أكبر مني بكثير طبعاً كونها فتاة جميلة تفاخر بنفسها .
              كانت تهزأ بي وكأنها في الواحدة والعشرين من عمرها ,
              وكأنها ملكة .دخلنا المنزل من باب جانبي ,
              وأول ما لاحظته هو أن جميع الممرات مظلمة ,
              وأنها تركت شمعة مضاءةً هناك . فتناولتْها وسارت
              في المزيد من الممرات ثم صعدنا درجاً كان بدوره شديد الظلمة ,
              ولم تنر طريقنا سوى تلك الشمعة . في نهاية المطاف
              وصلنا باب غرفة , فقالت : " أدخل . "ثم رحلت والشمعة معها .
              أزعجني ذلك كثيراً وانتابني شيء من الخوف .
              لكنني قرعت الباب , فأوعز إلي صوت من الغرفة بأن أدخل .
              دخلت ووجدت نفسي في غرفة فسيحة تفيض بأنوار الشموع .
              لم يكن فيها أثر لضوء النهار . كانت هناك طاولة أنيقة للتجميل ,
              وفي كرسي وثين تجلس أغرب امرأة رأيتها
              أو يمكن أن أراها في حياتي ,
              وقد أراحت بكوعها وأناخت برأسها على تلك اليد .
              كانت ترتدي ثياباً فاخرة كلها بيضاء , وكان حذاءها أبيض اللون ,
              ويتدلى على شعرها غطاء طويل أبيض ,
              وقد غرست في شعرها أزهاراً عرائسية , لكن شعرها كان أبيضاً .
              كانت بعض الجواهر المتلألئة تلمع حول عنقها ويديها ,
              فيما كانت بعض الجواهر الأخرى تتلألأ على الطاولة .
              لم تكن قد انتهت من اللبس بعد , إذ لم تكن في قدمها
              سوى فردة حذاء واحد ـ فالأخرى كانت على الطاولة قرب يدها ـ
              ولم ترتد سلسلتها وساعتها بعد .
              كل شيء حولي , مما يفترض أن يكون أبيض اللون ,
              كان أبيضاً منذ زمن بعيد . وقد فقد بهجته , فبُهت واصفر لونه .
              العروس في ثوب العرس كانت ذابلة كثوبها ,
              ولم يبق فيها بريق سوى بريق عينيها الغائرتين .
              كانت كتمثال شمع أو هيكل عظمي شاحب . نظرت إلي ,
              وكنت سأصرخ لو استطعت ذلك .
              قالت : " من هناك ؟ "
              " بيب , سيدتي . "
              " بيب ؟ "
              " صبي السيد بامبلتشوك , سيدتي . جئت ـ لألعب . "
              " اقترب , دعني أنظر إليك . اقترب أكثر . "
              عندمل وقفت أمامها متجنباً نظراتها ,
              لاحظت الأشياء المجاورة بالتفصيل , فوجدت أن ساعتها متوقفة
              عند التاسعة إلا ثلثاً . وأن ساعة الحائط كذلك متوقفة عند التاسعة إلا ثلثاً .



              اغرب سيده شاهدتها فى حياتى

              قالت الآنسة هافيشام : " انظر إلي ,
              هل تخاف من امرأة لم تر الشمس منذ ولادتها ؟ "
              أجيتها قائلاً : " كلا . " لكنها كانت كذبة .
              " هل تعرف ما ألمس هنا ؟ "
              " أجل , سيدتي . "
              " ماذا ألمس ؟ "
              " قلبك . "
              " محطم . "
              " نطقت الكلمة بنظرة شوق , ونبرة حازمة ,
              وابتسامة غريبة بها شيء من المباهاة.
              قالت الآنسة هافيشام : " إني متعبة وأريد شيئاً يسليني .
              لقد سئمت الرجال والنساء .
              إلعب . لدي هوى عليل في أن أرى البعض يلعب , هيا , هيا . "
              وأشارت بأصابعها بتبرّم : " العب , العب . "
              وقفت أنظر إلى الآنسة هافيشام في موقف أعتقد أنها
              اعتبرته أسلوباً معانداً . فقالت : " هل أنت حرون وعنيد ؟ "
              " كلا , إني في غاية الأسف تجاهك , وآسف كثيراً لأنني
              لا أستطيع اللعب الآن . إن تذمّرت مني , سأقع في مشكلة مع شقيقتي .
              لذا سأفعل ذلك إن استطعت . لكن المكان هنا غير مألوف وغريب جداً .
              كما أنه في غاية الرهافة والكآبة . "
              فتمتمت قائلة : " جديد للغاية بالنسبة له , وقديم للغاية بالنسبة لي .
              غريب جداً بالنسبة له , ومألوف جداً بالنسبة لي .
              وحزين للغاية بالنسبة لكلينا ! نادي على استيلا ,
              نادي على استيلا عند الباب . "



              الانسه هافيشام وقلبها الكسير

              تعليق


              • #37
                فعلت ذلك , وعندما أتت هذه أشارت لها الآنسة هافيشام
                بأن تقترب . فتناولت جوهرة من على الطاولة
                لتجربها على صدرها الفتيّ الجميل قبالة شعرها البني اللطيف .
                " ستكون لك ذات يوم يا عزيزتي , وستستخدمينها جيداً .
                دعيني أراك تلعبين الورق مع هذا الفتى . "
                " مع هذا الفتى ! كيف ذلك , إنه فتى عامل عاميّ . "
                أظن أنني سمعت جواب الآنسة هافيشام ـ لكنه بدا مقيتاً ـ
                " ماذا ؟ يمكنك تحطيم فؤاده ! "
                فسألتني استيلا بازدراء بالغ : " ماذا تلعب أيها الفتى ؟ "
                لا شيء سوى لعبة المتسوّل يا سيدتي . "
                قالت الآنسة هافيشام لاستيلا : " افقريه . "
                وهكذا جلسنا للعب الورق .



                جوهره على شعر استيلا

                وفيما كانت استيلا توزع الورق , أومأت بنظرة ثانية إلى طاولة التجميل
                ورأيت أن الحذاء الذي عليها بات أصفر اللون
                بعد أن كان أبيضاً فيما مضى , ولم يرتده أحد .
                نظرت إلى القدم التي كانت بدون حذاء , فرأيت أن الجورب
                الذي يغطيها بات أصفر اللون بعد أن كان أبيضاً ,
                فيما مضى وأصبح مهترئاً من كثرة الاستهلاك .
                قالت استيلا بازدراء قبل أن تنتهي من الدور الأول :
                " إنه يسمي ورقة الجندي شب , هذا الفتى !
                تباً ليديه الخشنتين وحذاءه الغليظ ! "
                لم يخطر لي أبداً أن أخجل من يدي من قبل ؛
                لكنني بدأت أعتبرهما يدين كريهتين .
                كان احتقارها شديداً لدرجة أنه كان معدياً فاتقطته .
                فازت بالدور , فقمت بتوزيع الورق . أخفقت في التوزيع ,
                وكان ذلك طبيعياً , لعلمي أنها كانت تتربص لإخفاقي
                ودعتني بالفتى العامل الأحمق المرتبك .
                توجهت إلى الآنسة هافيشام بالقول فيما كانت تراقبنا :
                " لم تقل عنها شيء , إنها تقول عنك أشياء جارحة ,
                لكنك لا تقول عنها شيئاً . فما هو رأيك فيها ؟ "
                فقلت متلعثماً : " لا أرغب في القول . "
                قالت الآنسة هافيشام وهي تنحني : " اهمس في أذني . "
                فأجبت هامساً " أعتقد أنها مغرورة . ط
                " هل من مزيد ؟ "
                " أعتقد أنها قاسية في التحقير . "
                " هل من مزيد ؟ "
                " أظن أنني أرغب بالعودة إلى البيت . "



                استيلا تسخر من حذاء بيب

                " وأن لا تراها ثانية , رغم جمالها الفائق ؟ "
                " لست متأكداً من أنني لا أريد رؤيتها ثانية ,
                لكنني أود أن أعود للبيت الآن . "
                ثم قالت الآنسة هافيشام بصوت مرتفع :
                " ستذهب بعد قليل , والآن أكمل اللعب . "
                أكملت اللعب مع استيلا فهزمتني.
                ألقت بالورق على الطاولة بعدما فازت بها جميعاً,
                وكأنها تحتقر الورق بعدما كسبته مني .
                وتساءلت الآنسة هافيشام : " متى ستأتي ثانية ؟ دعني أفكر .
                عُد بعد ستة أيام .
                استيلا , خذيه إلى الطابق السفلي وقدمي له شيئاً يأكله .
                اذهب يا بيب . "
                نزلت استيلا أمامي إلى الطابق الأسفل وهي تحمل شمعة ,
                وحين فتحت البوابة الجانبية , أزعجني ضوء النهار المتوهج .
                فقالت : " انتظر هنا أيها الفتى . " ثم توارت وأغلقت الباب ,
                وفيما أنا لوحدي في الساحة , نظرت إلى يدي الخشنتين
                وإلى حذائي الغليظ . لم يسبق أن تسببا بالإزعاج لي فيما مضى ,
                لكنهما باتا مصدر إزعاج الآن .
                تمنيت لو أن جو نشأ على تربية ألطف , فأنشأ حين ذاك مثله .
                عادت الفتاة بشيء من الخبز واللحم وإبريق صغر من الجعة .
                وضعت الإبريق على الأرض وأعطتني الخبز واللحم
                دون أن تنظر إلي , بما ينم عن بالغ الازدراء وكأنني كل حقير .
                شعرت بمذلة شديدة اغرورقت معها الدموع في عينيّ .
                رمقتني بنظرة فرح لأنها تمكنت من دفعي للبكاء .
                ثم انصرفت عني .حين ذهبت , نظرت حولي
                أبحث عن مكان أخبئ فيه وجهي . وتواريت
                خلف أحد بوابات مصنع الجعة ورحت أبكي .
                في نهاية الأمر مسحت وجهي بكمي وخرجت من خلف البوارة .
                كان الخبز واللحم مقبولين وأثارت الجعة فيّ بعض الدفء .



                كما لو كانت تعلم كلبا !

                وما لبثت أن جاءت تحمل المفاتيح لكي تفتح الباب.
                فتحت البوابة ووقفت تمسك بها. كنت أخرج من البوابة
                دون أن أنظر إليها حين لمستني تسأل : " لماذا لا تبكي ؟ "
                " لأنني لا أريد ذلك . "
                فقالت : " بلى . لقد كنت تبكي حتى غشي بصرك .
                وإنك الآن على وشك البكاء . "
                ضحكت بازدراء ودفعتني إلى الخارج , ثم أقفلت البوابة خلفي .
                سرت إلى البيت في غمٍّ شديد وأنا أفكر بكل ما رأيت ,
                وقد أدركت بالفعل أنني مجرد عامل عاميّ .



                غرفه الطعام ببيت الانسه هافيشام

                تعليق


                • #38
                  الفصل الثامن

                  المركبة المخملية


                  عندما وصلت إلى البيت , كانت شقيقتي في غاية التوق
                  لمعرفة كل شيء عن الآنسة هافيشام , فطرحت عدداً من الأسئلة .
                  وسرعان ما راح الضرب ينهال علي ومن الوراء
                  ويرتطم وجهي بجدار المطبخ لأنني لم أجب على تلك الأسئلة بالتفصيل .
                  والأسوأ من ذلك كان قدوم السيد بامبلتشوك العجوز المزعج
                  بعربته لتلقي التفاصيل . سأل السيد بامبلتشوك : " كيف هي الآنسة هافيشام ؟ "
                  قلت له : " إنها في غاية الطول والسمرة . "
                  فسألت شقيقتي : " هل هي كذلك يا عمي ؟ "
                  أومأ لسيد بامبلتشوك بعينيه موافقاً , مما جعلني أستنتج في الحال
                  أنه لم يرَ الآنسة هافيشام أبداً , لأنها لم تكن كذلك على الإطلاق .
                  سأل السيد بامبلتشوك : ط ماذا كانت تفعل حين ذهبت اليوم ؟ "
                  أجبت : " كانت تجلس في مركبة مخملية سوداء . "
                  حدق السيد بامبلتشوك والسيدة جو إلى بعضهما وكررا معاً :
                  " في مركبة مخملية سوداء ! "
                  قلت : " أجل , وقد قدمت لها الآنسة استيلا الكعك والنبيذ
                  من نافذة العربة , على طبق من ذهب . "
                  سأل السيد بامبلتشوك : " وهل كان شخص آخر هناك ؟ "
                  قلت " أربعة كلاب . "
                  " كبيرة أم صغيرة ؟ "
                  " ضخمة , وكانوا يتقاتلون على قطعة لحم في سلة فضية . "
                  حدق السيد بامبلتشوك والسيدة جو إلى بعضهما ثانية في دهشة كبيرة .
                  ثم سألت شقيقتي : " وأين كانت تلك العربة بالله عليك ؟ "
                  " في غرفة الآنسة هافيشام . " وحدقا إلى بعضهما مرة ثانية .
                  قلت : " ولكن لم تكن هناك جياد مربوطة فيها . "
                  فسأل بامبلتشوك : " وبماذا لعبت يا فتى ؟ "
                  " لعبنا بالأعلام , استيلا لوحت بالعلم الأزرق وأنا بالعلم الأحمر ,
                  ولوحت الآنسة هافيشام بعلم يتألق بنجوم ذهبية صغيرة .
                  ثم لوحنا جميعنا بسيوفنا وأطلقنا الهتاف ."
                  فرددت شقيقتي : " سيوف , من أين أتيتم بالسيوف ؟ "
                  " من خزانة , وقد رأيت فيها مسدسات ـ مربى ـ وحبوب .
                  ولم يكن هناك ضوء للنهار في الغرفة , بل كانت مضاءة بالشموع . "
                  حدقا ببعضهما ثانية , وشرعا يبحثان في تلك الأعاجيب
                  التي نجوت منها . وكان الحديث ما زال قائماً حين عاد جو
                  من عمله لتناول فنجان من الشاي , فأخبرته شقيقتي بتجاربي المزعومة .
                  والآن , حين رأيت جو يفتح عينيه الزرقاوين ويحركهما بدهشة شديدة ,
                  شعرت بالأسف لأنني لفقت الكثير من الأكاذيب .
                  وبعد أن ذهب بامبلتشوك , تسللت إلى دكان جو وقلت له :
                  " جو , هل تذكر كل ما قيل عن الآنسة هافيشام ؟ "
                  قال جو : " أذكر ؟ إنني أصدقك ! رائع ! "
                  " إنه أمر فظيع يا جو . كان كذباً . كله كذب . "
                  ثم أخبرته بأنني أشعر بتعاسة بالغة , وأنني لم أستطع
                  التعبير عن نفسي للسيدة جو وبامبلتشوك ,
                  وأنه كانت هناك شابة جميلة , لدى الآنسة هافيشام ,
                  تعاني من غرور رهيب , وأنها قالت بأنني عامي ,
                  وأن الكذب قد جاء عن ذلك بشكل ما .
                  وبعد شيء من التفكير قال جو : " هناك أمر يمكنك التأكد منه ,
                  وهو أن الأكاذيب هي مجرد أكاذيب . فلا تنطق بالمزيد منها يا بيب .
                  أما بالنسبة لكونك عامي , فإنك لن تستطيع أن تكون
                  إلا عامي عبر الكذب والخداع . "
                  حين صعدت إلى غرفتي الصغير واستلقيت على سريري ,
                  رحت أفكر في كل هذا , لكنني فكرت كم ستعتبر
                  استيلا والآنسة هافيشام جو عامياً , وهو مجرد حداد :
                  كم حذاؤه غليظ , وكم يداه خشنتان .

                  تعليق


                  • #39
                    الفصل التاسع

                    المحبة الزائفة


                    عدت إلى منزل الآنسة هافيشام في الموعد المضروب ,
                    وحضرت استيلا حين قرعت جرس البوابة .
                    فسارت أمامي في الممر المظلم حيث كانت تضع شمعتها ,
                    فتناولت الشمعة وقالت : " عليك سلوك هذا الطريق اليوم . "
                    وأخذتني إلى قسم آخر من المنزل . وفيما نحن نسير في
                    الممر المظلم , توقفت استيلا فجأة , وقالت بعد أن أدارت وجهها
                    بالقرب من وجهي : " حسناً . "فأجبت وأنا أكاد أقع فوقها ,
                    لكنني تمالكت نفسي : " حسناً يا آنسة ؟ "
                    وقفت تنظر إلى , فوقفت بالطبع أنظر إليها ." هل أنا جميلة ؟ "
                    " أجل , أعتقد أنك جميلة جداً . "" هل أنا أتسبب بتحقيرك ؟ "
                    " ليس كثيراً مثلما كنت المرة الماضية . "
                    " أليس كثيراً هذا ؟ كلا . "
                    برقت عيناها غضباً حين طرحت علي السؤال الأخير ,
                    فصفعت وجهي بأقصى قوتها حين أجبتها . وقالت :
                    " والآن , أيها الوحش الفظ الصغير , ما رأيك فيّ ؟ "
                    " لن أقول ذلك . "
                    " لأنك ستقول ذلك في الطابق العلوي , أليس كذلك ؟ "
                    فقلت : " كلا , الأمر ليس كذلك . "
                    " لماذا لا تبكي ثانية , أيها البائس الصغير ؟ "
                    " قلت : " لأنني لن أبكي بسببك ثانية . "
                    وكان ذلك كذباً , فقد كنت أبكي بداخلي بسببها .
                    وأعلم مدى الألم الذي تسببته لي لاحقاً .
                    صعدنا إثر ذلك إلى الطابق الأعلى , إلى غرفة الآنسة هافيشام
                    حيث تركتني استيلا عند الباب . ومكثت هناك إلى أن
                    أشاحت الآنسة هافيشام بنظرها نحوي من طاولة التجميل.
                    فقالت من دون دهشة أو استغراب :" هكذا ! فالأيام قد ولّت ,
                    أليس كذلك؟ " أجل سيدتي , اليوم هو . "
                    " رويدك , رويدك , رويدك ! "
                    وبحركة نافذة من أصابعها تابعت تقول:"لا أريد أن أعرف .
                    هل أنت جاهز للعب؟ " لا أظن ذلك سيدتي . "
                    استوضحت تقول : " ليس للعب الورق ثانية ؟ " وهي تدقق بنظرة فاحصة .
                    " أجل سيدتي , يمكنني القيام بذلك لو كنتم بحاجة إلي . "
                    فقالت الآنسة هافيشام وقد عيل صبرها :
                    "بما أن هذا البيت يجعلك حزيناً أيها الفتى,
                    وأنت لا ترغب باللعب , فهل ترغب بالعمل ؟ "
                    قلت بانني أرغب في ذلك كثيراً .
                    " إذن اذهب إلى الغرفة المقابلة وانتظر حتى أجيء . "
                    فعلت ذلك , ورأيت أن نور الشمس قد حُجب عن هذه الغرفة كذلك ,
                    وأن الشموع لم يكن لها سوى ضوء باهت .
                    كان كل شيء في الغرفة يكسوه الغبار , وكانت هنالك طاولة طويلة
                    فرش عليها غطاء , وكأن وليمة كان يتم الإعداد لها
                    حين تجمد المنزل وتوقفت الساعات جميعها سوياً .
                    في وسط الطاولة رأيت ما يشبه كومة ضخمة من بيوت العنكبوت ,
                    والعناكب تتسارع دخولاً وخروجاً .
                    سمعت الفئران كذلك تخشخش خلف الدرف ,
                    فيما الخنافس السوداء تجول حول الموقد .
                    وفيما كنت أراقب تلك الزواحف عن بعد ,
                    وضعت الآنسة هافيشام يدها فوق كتفي .
                    وأمسكت باليد الأخرى عصا تتكئ عليها .
                    فقالت وهي تشير بالعصا الطويلة على الطاولة :
                    " هنا سأُسجى حين أموت. سيأتون لإلقاء النظرة عليّ هنا . "
                    ثم قالت وهي تشير إلى خيوط العنكبوت : " ماذا تعتقد ذلك يكون ؟ "
                    " لست أدري سيدتي . "
                    " إنها كعكة عظيمة , كعكة زفاف



                    هذه كعكة عرسي ..

                    تعليق


                    • #40
                      إنها لي .ثم جالت بنظرها حول الغرفة
                      وقالت وهي تتكئ على كتفي : " هيا بنا , هيا بنا ,
                      هيا بنا . ساعدني على السير , ساعدني على السير . "
                      فهمت من قولها أن ما ينبغي فعله هو مساعدة الآنسة هافيشام
                      على السير حول الغرفة , فبدأت بذلك على الفور ,
                      واتكأت على كتفي ورحنا نسير حول الغرفة . وبعد فترة قالت :
                      " نادي استيلا . " فخرجت إلى مصطبة الدرج وناديت على استيلا .
                      فجاءت هذه برفقة أربعة من أقارب الآنسة هافيشام ,
                      ثلاث سيدات ورجل . وقد جهد كل منهم أن يبارز الآخرين في
                      اللطف تجاه الآنسة هافيشام , وفي التعبير عن مشاعر الحب والغيرة تجاهها .
                      لكنهم لم يتمكنوا من خداع الآنسة هافيشام , لعلمها بأن
                      تعابيرهم عن المحبة زائفة , وأنهم لم يأتوا إلا سعياً لأموالها التي كانوا
                      يأملون وراثتها بعد موتها . لقاء ذلك , فقد كانت تسخر من
                      جشعهم وتلقي عليهم الشتائم ما لم يتجرؤوا على الاستياء منها علناً.
                      كل ذلك كان دون أن تتوقف لحظة عن السير بسرعة حول الغرفة .
                      ثم أمرتهم بالذهاب . وفيما ابتعدت استيلا وهي تنير لهم الطريق ,
                      قالت لي الآنسة هافيشام " إنه يوم مولدي يا بيب ,
                      ولا أسمح للذين كانوا هنا الآن , ولا لأي أحد , بالتحدث عن ذلك .
                      إنهم يأتون في هذه المناسبة لكنهم لا يتجرؤون على ذكرها . "

                      عادت استيلا ، فأمرتنا الآنسة هافيشام بلعب الورق ،
                      لذا عدنا لغرفتها ، ولعبنا كالسابق . أخذت الآنسة هافيشام
                      تراقبنا طوال الوقت , وتلفت انتباهي إلى جمال استيلا
                      وتدفعني للتنبه بذلك أكثر بتجربة المجوهرات على صدر استيلا وشعرها ,
                      بعد أن لعبنا ستة أدوار , حدد يوم لعودتي ,
                      وتم اصطحاب إلى الفناء في الأسفل لإطعامي كالسابق .
                      مما يشبه الكلاب . وهناك أيضاً , تُركت أتجول كما يحلو لي ,
                      صدف أن نظرت داخل إحدى النوافذ , فوجدت لدهشتي العظيمة ,
                      أنني أتبادل النظر مع فتى شاب شاحب اللون , أحمر الجفون , خفيف الشعر .
                      توارى هدا بسرعة , ثم ظهر ثانية بالقرب مني , وقال :
                      " مرحباً أيها الصغير . فقلت : " مرحباً . "
                      " من أدخلك ؟ " الآنسة استيلا . "
                      قال الشاب الهزيل : " تعال نتقاتل . "
                      لم يكن بوسعي سوى اللحاق به , فقد كان أسلوبه جازماً ,
                      وكنت من الذهول حتى تبعته حيث سار وكأنني تحت تأثير سحر .
                      قال : " لكن توقف قليلاً , لابد ل ي أن أبرر لك سبب القتال أيضاً .
                      فإليك به ! " وبطريقة مزعجة للغاية ضرب كفيه ,
                      ورفع بأحد ساقيه للخلف , ثم شد بشعري , وأحنى رأسه ونطح به معدتي .
                      فضربته وكنت على وشك ضربه ثانية
                      حتى بدأ يترنح إلى الأمام والخلف . ثم قال : " تعال إلى الحلبة . "
                      لذا تبعته إلى طرف الحديقة . لم يخلع إذ ذاك سترته
                      وصدرته وحسب , بل قميصه أيضاً .
                      ورغم أنه لم يبد ممتلئ العافية , لكن استعداداته المخيفة أرعبتني بالفعل .
                      لكن , لدهشتي , ما إن ضربته حتى هوى على ظهره ,
                      وتمدد ينظر إليّ وأنفه ينزف .
                      لكنه نهض على قدميه في الحال , وبعد أن مسح أنفه ,
                      بدأ يقاتل من جديد . وأكثر ما أدهشني هو رؤيته ملقى على ظهره
                      وهو ينظر إليّ بعين أصيبت بكدمة سوداء .
                      بدا في غاية الشجاعة والبراءة , إذ رغم أنني لم أعرض عليه القتال ,
                      لكنني شعرت بمتعة دفينة بانتصاري . فارتديت ثيابي وقلت :
                      " هل أستطيع مساعدتك ؟ فقال : " لا , شكراً . "
                      قلت : " عمت مساءً . فقال : " عمت مساءً . "



                      الرجل يسأل استيلا عن بيب

                      عندما رجعت إلى الساحة , وجدت استيلا بانتظاري تحمل المفاتيح .
                      كان وجهها يشعّ تورداً وكأن شيئاً حدث بما يدخل الفرحة إلى قلبها .
                      قال : " تعال هنا ! يمكنك تقبيلي إن أردت ذلك . "
                      فقبل خدها حين أدارته لي , لكنني شعرت أن القبلة
                      قدمت للفتى العامي الخشن , مثلما يُعطى قطعة من النقود ,
                      وأنها لم تكن بذي قيمة .



                      يمكنك ان تقبلنى اذا اردت

                      تعليق


                      • #41
                        الفصل العاشر

                        خمسة وعشرون جنيهاً

                        قلقت في شأن الشاب الهزيل , وكلما فكرت بالقتال وتذكرت الشاب وهو ممدد على ظهره , تأكد لي أكثر ضرورة القيام بشيء ما . حتى إنني لزمت البيت لبضعة أيام, وكنت أنظر إلى باب المطبخ بحذر شديد قبل الذهاب في مهمة , لئلا يكون رجال الشرطة يبحثون عني . وعندما حان موعد عودتي للمكان الذي حصل فيه العراك , بلفت مخاوفي ذروتها . إنما كان علي الذهاب إلى منزل الآنسة هافيشام ,ومع ذلك , فإن شيئاً لم يُذكر عن قتالنا , ولم يظهر أي شاب هزيل .
                        رأيت كرسياً بعجلات خارج غرفة الآنسة هافيشام , ومنذ ذلك النهار صارت لي مهمة نظامية هي دفع الآنسة هافيشام على هذا الكرسي ( حين تكون متعبة من السير وهي تستند بيدها على كتفي ) حول غرفتها , ثم مروراً بمصطبة الدرج , وحول الغرفة الأخرى .
                        وفيما بدأ كل منا يعتاد على الآخر , أخذت الآنسة هافيشام تتحدث معي أكثر , فسألتني عما تعلمته وعما سأكون . فأخبرتها بأنه سيعهد بي إلى جو لأتلقى المهنة على يده ؛ وبالغت بشأن جهلي بكل شيء , وبأنني أرغب في معرفة كل شيء , على أمل أن تقدم لي بعض المعونة لتحقيق ذلك . لكنها لم تفعل . كما لم تعطني من المال أو أي شيء آخر باستثناء غدائي اليومي .
                        كانت استيلا دائماً هناك , وكانت دائماً تقوم باصطحابي إلى الداخل والخارج , لكنها لم تقل أن بإمكاني تقبيلها من جديد . في بعض الأحيان , كانت تحتملني ببرودة ؛ أحياناً أخرى كانت حميمة ؛ وكانت في بعض الأحيان تخبرني بحماس أنها تكرهني. أما الآنسة هافيشام كانت دائماً تسألني بهمس , أو حين نكون على انفراد : " هل تزداد جمالاً يا بيب ؟ " وحين أجيب بنعم , كانت تفرح بتوق شديد . أحياناً حين يكون مزاج استيلا من التنوع والتضارب حتى كنت أحتار ماذا تراني أقول أو أفعل, كانت الآنسة هافيشام تعانقها بمحبة وتهمس بأذنها : " حطمي قلوبهم يا عزيزتي ويا أملي , حطمي قلوبهم دون أي رحمة ! "
                        في غضون ذلك , كانت المشاورات تدور في المطبخ بين شقيقتي وذلك الأحمق بامبلتشوك . فكان ذلك التعيس يجرني من مقعدي ( فيما يمسك عادة بياقتي ) حيث أكون منزوياً في سكينة , فيضعني قبالة النار وكأنني سأُطهى , ثم يبدأ يقول : " والآن سيدتي , هو ذا الفتى ! هو ذا الفتى الذي أنشأته على يدك . ارفع رأسك يا فتى وكن دائم الامتنان للذين قاموا بذلك , " ثم يشرع مع شقيقتي بالتأمل السخيف حيال الآنسة هافيشام , وعما ستفعله معي ومن أجلي و حتى اعتدت على الرغبة بالانفجار بالبكاء , والاندفاع نحو بامبلتشوك أضربه بقبضتي مرة تلو الأخرى .
                        لم يشترك جو بهذه النقاشات , ولكن شقيقتي شرعت بأنه لا يرغب بإبعادي عن دكانه و فغضبت منه ومني .
                        يقيناً على هذه الحال مدة طويلة . وفي ذات يوم , قالت لي الآنسة هافيشام : " إنك تزداد طولاً يا بيب ! "
                        لم تقل أكثر من هذا في ذلك الحين . لكنها قالت في المرة الثانية حين ذهبت لرؤيتها: " أخبرني ثانية , ما اسم الحداد الذي تعمل لديه ؟ "
                        " جو غارجري , سيدتي . "
                        هل هو المعلم الذي كنت ستتلمذ على يديه ؟ "
                        " أجل , آنسة هافيشام . "
                        " يجدر بك أن تتلمذ في الحال . حبذا لو يأتي غارجري إلى هنا ويصطحب الأوراق الضرورية . "
                        قلت لها بأن لا شك لدي بأنه سيشرَّف بهذه الدعوة .
                        " إذن , فليأت بالحال وكن برفقته . "
                        بعد يومين , ارتدى جو ثياب نهار الأحد لمرافقتي إلى منزل الآنسة هافيشام . وأعلنت شقيقتي على عزمها الذهاب معنا إلى المدينة , فنتركها لدى بامبلتشوك وتعود معنا بعد أن نتفق مع (( سيداتنا الأنيقات . ))
                        أُقفل دكان الحداد ذلك النهار , واتجهنا إلى المدينة , فذهبت مع جو إلى منزل الآنسة هافيشام مباشرة . فتحت استيلا البوابة . وحالما ظهرت , تناول جو قبعته ووقف يمسك بها بيديه .
                        أخبرتني استيلا بأنه يمكننا أن ندخل سوياً , فأمسكت بذراع جو واصطحبته إلى حيث تجلس الآنسة هافيشام . كانت تجلس إلى طاولة التجميل فنظرت إلينا في الحال, وقالت لجو : " أوه , أأنت زوج شقيقة هذا الفتى ؟ وقد أنشأته بهدف أن يتتلمذ على يديك , أليس كذلك يا سيد غارجري ؟ "
                        طوال المقابلة , كان جو يصر على مخاطبتي بدلاً من الآنسة هافيشام , فقال : " أنت تعلم يا بيب أننا كنا دائماً أصدقاء , ونحن نأمل بمساعدتك لي في الدكان . لكن إن كان لديك أي اعتراض يا بيب , أرجو الإفصاح عن ذلك , وسيهتمون بالأمر . "
                        قالت الآنسة هافيشام : " هل أبدى الفتى أي اعتراض ؟ وهل يحب المهنة ؟ "
                        فقال جو : " أنت تعلم يا بيب أنها كانت دائماً أمل فؤادك . "
                        لم أفلح في جعله يدرك أن عليه مخاطبة الآنسة هافيشام مباشرة . وكان كلما أومأت له ووجهت إليه الإشارات , يزداد إصراراً على مخاطبتي , معتبراً على ما يبدو أن من غير اللائق مخاطبتها .
                        سألت الآنسة هافيشام : " وهل أحضرت الأوراق معك ؟ "
                        فقال جو وكأن السؤال غير منطقي إلى حد ما : " عجباً يا بيب , تعلم أنك رأيتني أضعها في قبعتي , لذا لا بد أنك تعرف أنها هنا . "
                        ثم أخرجه من قبعته وسلمها إلي بدلاً من الآنسة هافيشام . أخشى أني خجلت من صديقي العزيز الطيب حين رأيت أن استيلا تقف وراء كرسي الآنسة هافيشام , وأن في عينيها ضحكة ساخرة . أخذت الأوراق منه وأعطيتها للآنسة هافيشام .
                        قرأتها الآنسة هافيشام , ثم قالت لجو :"لم تكن تتوقع أجراً لقاء تعليم الفتى مهنتك؟ "
                        فقلت له حين لم يأت بجواب : " جو ! لماذا لا تجيب ؟ "
                        فقال : " بيب , قصدت القول بأن السؤال لا يحتاج إلى جواب بيني وبينك , وأنت تعلم حق العلم أن الجواب هو كلا . "
                        تناولت الآنسة هافيشام كيساً صغيراً من الطاولة التي بقربها وقالت : " لقد كسب بيب بعض المال هذا , إليك به . يوجد حمسة وعشرون جنيهاً في هذا الكيس . أعطها لسيدك يا بيب . "
                        بدا بيب وكأنه فقد عقله تماماً من الدهشة حيال شخصها الغريب والغرفة الغريبة , فلم يشأ حتى الآن و إلا أن يخاطبني دون سواي . فقال : " هذا لطف منك يا بيب . إنه موضع ترحيب بالغ , رغم أنني لم أكن لأطلب ذلك . "

                        تعليق


                        • #42
                          قالت الآنسة هافيشام : " وداعاً يا بيب ! اصطحبيهما إلى الخارج يا استيلا . "
                          فسألتها : " هل ينبغي أن أعود ثانية , آنسة هافيشام ؟ "
                          " كلا , غارجري هو سيدك الآن . غارجري ! كلمة من فضلك ! "
                          وفيما نادت عليه أن يعود ثانية أثناء خروجه من الغرفة , سمعتها تقول لجو : " كان الفتى طيباً هنا , وتلك هي مكافأته . ولا شك , بصفتك رجلاً شريفاً , فليس لك أن تتوقع المزيد . "
                          كيف خرج جو من الغرفة , لم أستطع التحديد ؛ لكنني أعلم أنه حين خرج فعلاً , شرع يصعد إلى الأعلى بدلاً من النزول على السلم , فتبعته وأمسكت به . بعد دقيقة كنا خارج البوابة , فتمَّ إقفاله وتوارت استيلا .
                          صاحت شقيقتي حين عدنا إلى العم بامبلتشوك : " حسناً , ما الذي أعطته للصبي ؟"
                          طلب جو منها ومن بامبلتشوك أن يحزرا . فاعتبرا أن عشرين جنيهاً هي مكافأة كريمة , لكن جو قال بحبور وهو يقدم الكيس لشقيقتي : " إنها خمسة وعشرون جنيهاً . "
                          فقال بامبلتشوك وهو ينهض لمصافحتها : " إنها خمسة وعشرون جنيهاً سيدتي . وهذا لا يتجاوز فضائلك , أتمنى أن تنعمي بالمبلغ . "
                          ثم أمسكني بذراعي وقال : " والآن , ترون يا جوزيف وزوجته , فأنا من الذين ينجزون دائماً ما يبدؤون به.ينبغي في الحال تسجيل الفتى قانونياً لدى مدرب مهني"
                          ذهبنا في الحال إلى دار البلدية لقيدي متدرباً لدى جو أمام القاضي . فتمَّ التوقيع على المستندات , وأصبحت (( ملزماً )) .
                          حين عدنا إلى بامبلتشوك , كانت شقيقتي في غاية النشوة بالخمسة والعشرين جنيهاً, حتى أنها أصرت على أن نتناول الطعام في مطعم (( البلو بور )) ( الخنزير الأزرق ) , حيث دُعي آل هابل والسيد ووبسيل .
                          كان يوماً أمضيته في كآبة بالغة , إذ لم يُسمح لي بالذهاب للنوم , بل كانوا كلما رأوني أغفو , يعمدون إلى إيقاظي ويطلبون إلي أن أمتع النفس .
                          عدنا في نهاية المطاف إلى المنزل , وحين دخلت غرفة نومي الصغيرة كنت أشعر بتعاسة بالغة , وغامرني اعتقاد راسخ بأنني لن أحب مهنة جو . لقد أحببتها فيما مضى , لكن الماضي هو غير اليوم .
                          كنت مكتئباً للغاية في أول يوم عمل من فترة التدريب , لكنني كنت سعيداً لأنني لم أتفوه بكلمة من هذا أمام جو . إنه الشيء الوحيد تقريباً الذي يسرني معرفته عن نفسي في ذلك الخصوص .
                          من يستطيع قول (( ما كنت أريده )) ؟ كيف لي أن أقول حين كنت أجهل الأمر تماماً ؟ ما كنت أخشاه هو أن أتطلع في ساعة مشؤومة , حين أكون في أشد الحالات اتساخاً وعامية , فأرى استيلا تنظر إلي من أحد النوافذ في الدكان . وتملكني الخوف من أنها ستجدني , عاجلاً أم آجلاً , بوجه أسود ويدين سوداوين , أقوم بأخن جزء من عملي , فتنتصر علي وتحتقرني .



                          مكافأه من الانسه هافيشام


                          يتبع

                          تعليق


                          • #43
                            الفصل الحادي عشر

                            أورليك العجوز


                            كان جو يستخدم عاملاً لقاء أجر أسبوعي اسمه أورليك . كان هذا شخصاً داكن اللون , عريض المنكبين , مرخي الأطراف , وصاحب قوة شديدة . لم يكن يحبني, وحين بدأت أتدرب لدى جو , ازداد مقتاً تجاهي , اعتقاداً منه بأنني سأحل مكانه .
                            رغبت بزيارة الآنسة هافيشام واستيلا , فطلبت من جو إعطائي نصف نهار عطلة . وفيما كنت أذكِّره بذلك في الدكان قال أورليك : " مهلاً سيدي , لن تميز بيننا بالتأكيد . إن حظِي بيب بنصف نهار عطلة , فافعل ذلك مع أورليك العجوز . " ( كان دائماً يطلق على نفسه اسم أورليك العجوز . )
                            " لِم ؟ وماذا ستفعل بنصف النهار إن حصلت عليه ؟ "
                            ماذا سأفعل به ؟ وماذا سيفعل به هو ؟ سأفعل به بقدر ما فعل . "
                            فقال جو : " أما بالنسبة إلى بيب , فهو ذاهب إلى المدينة . "
                            أجاب العامل : " حسناً إذن , بالنسبة إلى أورليك العجوز فهو ذاهب إلى المدينة . فاثنان يمكنهما الذهاب إلى المدينة . "
                            فقال جو : " لا تغضب . "
                            فتمتم أورليك متذمراً : " سأفعل إن شئت ذلك . والآن يا سيدي , كن عادلاً . لا تمييز في هذا الدكان , كن إنساناً ! "
                            قال جو : " حسناً , بما أنك تلتزم بعملك عامة مثل سائر الرجال , ليكن نصف نهار عطلة للجميع ! "
                            كانت شقيقتي تقف صامتة في الساحة بحيث كان يمكنها سماع الحديث , فتطلعت بسرعة عبر إحدى النوافذ , وقالت لجو : " هذا شأنك أيها الأحمق , تعطي العطل هكذا لأشخاص بلداء . لابد أنك رجل غني لتنفق الأجور على هذا النحو , ليتني كنت سيده ! "
                            فرد أورليك بسرعة : " حسبك أن تكونين سيد الجميع لو تسنى لك ذلك . "
                            قال جو : " دعها وشأنها . "
                            فأجابت شقيقتي وقد بدأت تستشيط غضباً : " سأكون ندة الجميع الحمقى وجميع الأشرار . "
                            همدر أورليك قائلاً : " أنت امرأة شريرة , أيتها الأم غارجري . "
                            قال جو : " دعها وشأنها , هلا سمحت ؟ "
                            فقالت شقيقتي وقد بدأت بالزعيق : " ماذا قلت ؟ ماذا قلت ؟ بيب , ماذا قال لي ذلك التافه أورليك ؟ ماذا دعاني فيما زوجي يقف أمامه ؟ آه , آه , آه ... بماذا نعتني برجل دنيء أقسم أن يدافع عني ؟ آه , أمسكوا بي ! آه ! "
                            وفيما هي في ذروة الغضب , اندفعت إلى الباب الذي أقفلته لحسن الحظ .
                            لم يتسن لجو المسكين الآن سوى مواجهة عامله وسؤاله عما يقصده من التدخل بينه وبين السيدة جو , وعلاوة على ذلك , إن كان من الرجولة بما يكفي القتال . وهكذا اندفع الاثنان نحو بعضهما البعض كعملاقين جبارين . لكنني لم أر رجلاً في الجوار يستطيع أن يقف في وجه جو . أما أورليك الذي بدا وكأنه لم يتجاوز شأن الشاب الهزيل , فسرعان ما بات وسط غبار الفحم . ولم يخرج منها إلا ببطء شديد . ثم فتح جو الباب ليلتقط شقيقتي التي سقطت فاقدة الوعي , فحملها إلى البيت وسجاها على الفراش .
                            صعدت إلى غرفتي لأرتدي ثياب العطلة , وحين نزلت ثانية , وجدت أورليك وجو يتشاركون وعاء من البيرة بمودة ومحبة .

                            تعليق


                            • #44
                              حين وصلت إلى المدينة للقيام بزيارتي مررت ببوابة منزل الآنسة هافيشام عدة مرات قبل أن أصمم على قرع الجرس .


                              ابنه عم الانسه هافيشام

                              في داخل المنزل , وجدت كل شيء على حاله , باستثناء الآنسة هافيشام التي كانت بمفردها . فقالت : " حسناً ؟ آمل ألا تريد شيئاً . فإنك لن تحصل على شيء . "
                              " في الحقيقة كلا يا آنسة هافيشام . أردت فقط أن تعلمي أنني أحقق تقدماً في تدربي المهني , وأنني ممتن لك على الدوام . "
                              فقالت : " حسناً , حسناً . " وهي تشير بأصابعها الهرمة المتعبة . " تعال من وقت لآخر . تعال يوم ميلادك ــ أجل ! " ثم صاحت فجأة وهي تستدير بكرسيها نحوي :" أنت تبحث عن استيلا ؟ إيه ؟ "
                              في الواقع كنت أبحث عن استيلا , فتلعثمت بالقول إني آمل أن تكون بخير .
                              فقالت الآنسة هافيشام : " إنها في الخارج , في مدرسة جيدة , بعيدة عن المتناول ؛ وهي أجمل بكثير من السابق , وتحظى بإعجاب جميع من يروها . هل تشعر بفقدانك لها ؟ "
                              كنت مرتبكاً بما علي قوله , لكن الآنسة هافيشام أنقذتني من مشقة العثور على جواب بأن صرفتني . وحين أُغلقت البوابة خلفي , شعرت بالاستياء أكثر تجاه مهنتي ومنزلي وكل شيء . وكان هذا كل ما حصلت عليه بذهابي إلى منزل الآنسة هافيشام .



                              بيب يتوقع اخبارا عن استيلا

                              تعليق


                              • #45
                                التقيت السيد ووبسيل في المدينة , فذهبت معه لرؤية العم بامبلتشوك . كان الليل شديد الظلمة حين سرنا عائدين إلى البيت . خلف المدينة , كنا نسير في ضباب رطب كثيف حين صادفنا رجلاً بدا وكأنه بانتظارنا . إنه أورليك . أخبرنا أن بعض المجرمين لا ريب قد فروا من سفينة الاعتقال , إذ كان يسمع طلقات نارية منذ هبوط الظلام .
                                في طريقنا إلى القرية , علمنا عند (( النوتيَّة الثلاث )) أن منزلنا قد تعرض للاقتحام أثناء غياب جو وأن هناك من تعرض للهجوم والإصابة .
                                هرعنا إلى البيت بأقصى سرعتنا , فوجدنا المطبخ يعج بالناس . كان هناك جراحاً , كما كان جو ومجموعة من النساء , والجميع على الارض في وسط المطبخ . فتراجعوا عندما رأوني , ورأيت شقيقتي مرتمية على الأرض فاقدة الوعي إذ تلقت ضربة على مؤخرة رأسها من قبل مجهول .



                                الهجوم على اخت بيب

                                لم يسرق شيء من أي مكان من المنزل . ولا كانت في المطبخ آثار فوضى , باستثناء ما تسببته شقيقتي من جراء السقوط والنزف . إنما كان هناك دليل بارز وهو أنها تلقت الضرب على رأسها وعظام ظهرها بشيء ثقيل وغليظ . وكان بجانبها على الأرض قيد حديدي لمجرم قطعه بالمبرد .
                                فظننت أن القيد الحديدي يخص المجرم صاحبي ـ القيد الذي رأيته وسمعته فيما كان يعمل على قطعة بالمبرد في المستنقعات ـ لكن عقلي لم يتهمه باستخدامه للغاية تلك. فشككت بأورليك .
                                ومما أثار مخاوفي كان التصور بأنني قدمت السلاح , إنما تعذر علي التفكير بغير ذلك .وعانيت من مأزق رهيب فيما أخذت أفكر إن كان علي أن أبوح بسر طفولتي, وأخبر جو القصة كاملها . فقررت أن أقدم اعترافاً كاملاً حين تسنح الفرصة للمساعدة في اكتشاف هوية المهاجم .
                                بقي رجال الشرطة حول المنزل منذ أسبوع أو اثنين , وألقوا القبض على عدة أشخاص بريئين . لكنهم لم يقبضوا على المجرم أبداً .
                                بعد أن رحلوا بفترة طويلة , كانت شقيقتي طريحة الفراش وقد اشتد عليها المرض . فقد اختل بصرها , وتضرر سمعها وذاكرتها كثيراً , وغدا كلامها غير مفهوم . وحين شفيت في النهاية بحيث أصبحت تستطيع هبوط الدرج بمساعدتنا . كان من الضروري إبقاء لوحي الحجري إلى جانبها , لتشير بالكتابة إلى ما تعجز عن الإشارة إليه بالكلام .
                                لكن مزاجها تحسن كثيراً , وتحلت بالصبر . وقد احترنا في العثور على مرافقة لها, إلى أن توفقت عمة والد السيد ووبسيل , فانتقلت بيدي للعيش معنا . وكانت نعمة للأسرة , وخاصة لجو . فتولت مباشرة رعاية شقيقتي وكأنها درست طباعها منذ الطفولة , وصار بإمكان جو التمتع بحياة أهدأ , والذهاب إلى (( النوتية الثلاث )) من وقت لآخر , على سبيل التغيير الذي أفاده كثيراً .

                                تعليق

                                مواضيع تهمك

                                تقليص

                                المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 06-08-2025 الساعة 11:33 PM
                                المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 06-04-2025 الساعة 05:29 PM
                                المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 05-31-2025 الساعة 10:07 PM
                                المنتدى: القسم العام نشرت بواسطة: ماريا عبد الله الوقت: 05-30-2025 الساعة 11:48 PM
                                المنتدى: التصنيع والانتاج نشرت بواسطة: HaMooooDi الوقت: 05-30-2025 الساعة 09:36 AM
                                يعمل...
                                X